2007-09-30

الطاصيلة والفاصيلة

عندما تابعت ما نشرته الصحافة الدولية حول بنعيسى، الفتاة التطوانية التي ظنوا أنها مادلين الطفلة الإنجليزية التي اختفت في البرتغال، قلت في نفسي أن بنعيسى الحقيقية هي هذه الطفلة وليس بنعيسى وزير الخارجية. ففي يوم واحد أصبحت تطوان والمغرب محط أنظار العالم بأسره، وجاء الصحافيون الدوليون إلى تطوان من كل حدب وصوب لكي يتأملوا ملامح هذه الطفلة الشقراء التي خلطوها بالإنجليزية مادلين. وهو الشيء الذي عجز بنعيسى عن تحقيقه طيلة وجوده على رأس وزارة الخارجية. أن يجعل المغرب محط أنظار العالم الخارجي.

والحقيقة أن هذا الشبه الكبير بين الطفلة بنعيسى والطفلة مادلين فتح أعين هؤلاء الأوربيين على مغرب آخر بملامح أخرى لم يكونوا يتوقعون وجودها. فالمغرب في المتخيل الغربي هو إفريقيا السوداء، وكل الذين يستوطنون إفريقيا هم إما سود أو سمر. حتى جاءت صورة الطفلة بنعيسى لكي تثير انتباه هؤلاء الغربيين إلى أن المغرب يوجد فيه الشقر والبيض والسود والسمر والصفر وكل الألوان الطبيعية الأخرى.

وعندما وضعت الصحافة الدولية جانبا وتابعت ما يكتب هذه الأيام في الصحافة المحلية اكتشفت أن الهاروشي وزير التضامن وضع قبل أيام من رحيله عن وزارته خارطة للتسول في المغرب. واكتشف أن مغربيا واحدا بين كل مائة وخمسين مغربيا هو متسول.

ويبدو أن الهاروشي لم يحص كل أولئك المرشحين من الزعماء السياسيين الذين ظلوا طيلة الأسابيع الماضية يتسولون أصوات الناخبين في التلفزيون وفي الساحات العامة، ويطرقون أبواب المواطنين ليستعطفوهم ويمنحوهم شيئا من أصواتهم. لأنه لو أضاف كل هؤلاء إلى خارطته فإنه سيحصل في النهاية على عدد أكبر من المتسولين. غير هوا كلها وطليبو، كاين اللي طالب خبزة وكاين اللي طالب وزارة. وعلى ذكر الوزارة، يتراكم اليوم على مكتب الوزير الأول عباس الفاسي حوالي 300 طلب لشغل منصب وزير.

وهناك تخوف كبير من طرف المراقبين بخصوص إسناد بعض الحقائب الوزارية للأحباب والأصهار والأنساب. خصوصا إذا ما عرفنا أن عباس الفاسي هو صهر زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي والذي تربطه به علاقة عمومة. وابنة عباس الفاسي هي زوجة نزار بركة، ابن السفير السابق للمغرب في مدريد، والذي يحمر في حقيبة وزارة الشؤون العامة للحكومة، والذي لم يمنعه تبني حزب الاستقلال لشعار تعريب التعليم من الدراسة في ليسي ديكارت بالرباط، حيث حصل على الباكالوريا بمعدل متوسط. ويبدو أن العائلة الفاسية العباسية أعقد بكثير مما نتصور، فكلما بحثنا فيها عثرنا على جذور جديدة متفرعة في الدولة. وهكذا فمنير الشرايبي الذي كان على رأس صندوق الضمان الاجتماعي والذي يوجد الآن على رأس ولاية مراكش هو ابن أخت عباس الفاسي. كما أن عائلة عباس الفاسي تربطها علاقة مصاهرة مع عائلة الطيب الفاسي الفهري، الوزير المنتدب في الخارجية والتعاون، والذي تربطه علاقة أخوة بعلي الفاسي الفهري المدير العام الوكالة الوطنية للماء الصالح للشرب، والذي بدوره تربطه علاقة زوجية بياسمينة بادو، وزير الأسرة، والتي ليست سوى بنت الراحل محمد بادو عضو اللجنة المركزية لحزب علال الفاسي. أما نسيب عباس الفاسي، محمد الوافا الذي كان سفيرا في الهند ويحمر اليوم في حقيبة وزارية، فليس سوى زوج إحدى بنات الزعيم الراحل علال الفاسي، كما أن طه بلفريج أخ زوجة محمد اليازغي سعدة بلافريج ليس سوى الذراع الأيمن لليازغي في وزارة الماء. وعندما نعود إلى موقع الوزارة في الانترنيت بحثا عن تاريخ تعيين أخ زوجة الوزير نعثر على تاريخ غريب هو 1986، مع أن الجميع يعرف أن المغرب لم تكن لديه وزارة للماء في هذا التاريخ.

لقد انتبه الباحثون الأجانب في التاريخ المغربي المعاصر إلى أهمية العلاقات العائلية في تشكيل النفوذ والحصول على السلطة ورسم التحالفات السياسية، وعلى رأسهم واتربوري. وأحيانا تتشابك هذه العلاقات الدموية بشكل غريب يجعلك تندهش من طريقة تشكلها. ومثلا قد تجهلون أن الدكتور الخطيب مؤسس حزب العدالة والتنمية تربطه علاقة مصاهرة بالجنرال حسني بنسليمان. كما أن الجنرال حسني بنسليمان تربطه علاقة مصاهرة بالوزير الأول السابق كريم العمراني. والشركة التي يسيرها ابن كريم العمراني هي الشركة الوحيدة التي تملك حقوق استيراد وتوزيع ماركة «بي إم دوبلفي» في المغرب، ولهذا ربما لا نستغرب كيف أن كل السيارات والدراجات النارية التي تشتريها القيادة العامة للدرك الملكي، التي يوجد على رأسها الجنرال حسني بنسليمان صهر مالك الشركة، هي من نوع «بي إم دوبلفي».

والجنرال حسني بنسليمان تربطه أيضا علاقة مصاهرة بمولاي إسماعيل العلوي الأمين العام للتقدم والاشتراكية، الحزب الشيوعي سابقا.

وهكذا في المغرب يمكن أن تعثر في عائلة واحدة على الإسلامي والجنرال والشيوعي. كلهم يتعايشون بدون مشاكل رغم اختلافاتهم الإديولوجية وتطاحناتهم السياسية. ولذلك فالحكومة المقبلة ستكون لديها ملامح حكومة عائلية، خصوصا وأننا رأينا كيف غير الزعماء السياسيون عادة عقد اللقاءات في مقراتهم الحزبية بفيلاتهم وإقاماتهم. وخصوصا أيضا عندما نرى زعيما سياسيا كالمحجوبي أحرضان وصل سن ثلاث وتسعين سنة ويريد أن يورث ابنه الحكومة بعده. فقد اقترح أحرضان ابنه في لائحة وزراء حزب الحركة الشعبية على عباس الفاسي. وعباس الفاسي سيجد حرجا في عدم تلبية طلبه، خصوصا وأن عباس يريد أن يمنح نزار بركة زوج ابنته حقيبة وزارية.

وخلال كل هذا الوقت، عندما ينشغل أبناء العائلات الكريمة والعريقة النسب بتوزيع الحقائب على بعضهم البعض، ينشغل الدرك الملكي والأمن الوطني بمداهمة بيوت المواطنين البسطاء في قرية بني صميم ومدينة صفرو بحثا عن مشتبه فيهم.
وفي قرية بني صميم اعتقلوا الناس من فوق موائد الإفطار للتحقيق معهم حول من يحرض السكان على الاحتجاج ضد تفويت مياه العين الوحيدة بالمنطقة لمستثمر فرنسي.

هذه هي العدالة على الطريقة المغربية. الترقيات والمنح والأجور والرخص السنوية كلها أشياء تتأخر في المغرب، وحدها العقوبة تأتي بسرعة وأحيانا قبل وقتها.

والدليل على ذلك ما وقع لشرطي عامل في فرقة المرور بمنطقة أنفا بالدار البيضاء أهداه أحد المسؤولين الأمنيين هدية في هذا الشهر المبارك، وهي توقيف أجرته الشهرية لأنه لم يؤد له التحية الرسمية المعتادة عندما مر بجانبه. فالشرطي كان منهكا من الوقوف لساعات طويلة بمناسبة الزيارة الملكية للدار البيضاء، ولم ينتبه لمرور سعادة العميد.

وفي الوقت الذي يعاقب فيه هذا الشرطي بتوقيف راتبه، تتم مكافأة رئيس فرقة المرور بالدار البيضاء ويرقى إلى رتبة قائد كوماندار، مع أن سعادته سبق خلال الصيف الماضي أن ضبط مع قاصرتين داخل سيارة العمل في طريقهم إلى الجديدة. لكن الرحلة انتهت في المستعجلات بسبب حادثة سير. وعقابا له على مخالفة مغادرة الدار البيضاء بدون رخصة، وتهمة التغرير بقاصر، والسكر العلني، تمت إعادته إلى عمله وترقيته خلال الترقية الأخيرة.

وبعد كل هذا يتساءل الشرقي أضريس المدير العام للأمن الوطني عن سبب رغبة العديد من أطر الشرطة في مغادرة وظائفهم.
الحاصول، لكي يكون لك موقع في هذه البلاد فيجب إما أن تكون ولد شي عائلة صحيحة ولا تكون ولد الحرام

مجرد سأم

أحيانا يساورك سأم عميق ومفاجئ من كل شيء. خصوصا عندما ترى السياسة وقد تحولت إلى عبث، ومطالب الناس تقابل بالقمع في الشوارع، وأصواتهم يتم خنقها حتى لا يصل أنينها إلى الأسماع.

فجأة تسأم نفسك وعملك ونجاحك. تريد أن ترجع خطوات إلى الوراء، أن تعود ذلك المواطن النكرة الذي كنته ذات وقت. تتجول في الشوارع دون أن ينتبه إليك أحد. تجلس على رصيف أول مقهى تصادفه دون أن يأتي أشخاص لا تعرفهم يصافحونك ويجلسون ليقاسموك طاولتك، ويحكون لك قصص حياتهم بالتتابع.

تتمنى أن تسترجع صورتك الضائعة، حيث ملامحك الطبيعية الأولى الهادئة والخالية من التوتر والغضب. أن تعود إلى أصدقائك القدامى الذين تقاسمت معهم الأقسام الباردة في الثانوية، والشعارات الصاخبة في الجامعة، وقصص الحب الفاشلة على العتبات الأولى للحياة.
فجأة يساورك سأم جارف من جلسات النفاق الاجتماعي التي يدعوك إليها أشخاص تافهون يعتقدون أنفسهم مهمين بالنسبة للعالم. تشتاق إلى جلسات المساء فوق ربوة في ضواحي المدينة، تراقب أسراب الطيور وهي تعود إلى أعشاشها لتطعم صغارها، تشتاق إلى رؤية الأفق ملطخا بحمرة الغسق والشمس المتمايلة إلى الغروب، قبل أن تعود إلى البيت لتأكل خبز الأم المدهون بالسمن وتجلس إلى حضن الجدة لتحكي لك حكاية الغولة التي أكلت أبناءها.

يحدث أن تتعب من اسمك، وتتمنى أن يكون لك اسم آخر لا يثير الانتباه عندما ينادي عليك به أحدهم. تتعب من احترام الناس لك، وتشتاق أحيانا إلى أن يعاملك الناس كأي نكرة، باحترام أقل وكلمات خالية من الأدب المصطنع. تتمنى أن تعود كما كنت في السابق، أن تستيقظ في الصباح وتجمع ثيابك القليلة في حقيبة ظهرك وتأخذ القطار إلى مدينة لا تعرف فيها أحدا. مدينة تنام فيها بعد الظهر في قاعة السينما وفي الليل تنام في المحطة الطرقية، وعندما يأتي الصباح تتناول قهوتك مع عمال النظافة في المقاهي الحقيرة. ولا أحد هناك ليسأل عنك في الهاتف، ولا عمل ينتظرك في مكان ما، لا رسائل إلكترونية تنتظر إجاباتك ولا دعوات كريمة تنتظر أن تلبيها.

أحيانا يساورك سأم عميق من وطنك، وتتمنى فقط أن تشتري تذكرة ذهاب بلا إياب إلى وطن آخر، وبمجرد ما تصل وتضع حقيبتك تبحث لك عن امرأة أخرى تتزوجها وتنجب أطفالا آخرين وتصبح لك جنسية أخرى لا تثير الشبهات، وجيران آخرون لا يثيرون أعصابك كل يوم برمي أعقاب سجائرهم فوق ثيابك المنشورة فوق حبل الغسيل.

تسأم من هؤلاء السياسيين البليدين جدا والأنانيين جدا والأميين أحيانا، والذين يدعون دائما تمثيلنا ويأخذون الكلمة دائما بأسمائنا في كل المناسبات. تتمنى أن تستريح من رؤية وجوههم السمينة والمملة التي قضينا حياتنا السابقة مضطرين لتحملها في الجرائد والتلفزيون والجامعات والمقرات الحزبية والنقابية.

تسأم من اليمين المنافق واليسار المخادع والوسط المتواطئ، وتتمنى لو أنك في جزيرة بعيدة بلا أحزاب، بلا برلمان، بلا حكومة. تعيش على السمك وحبات الجوز ومياه الينابيع، بلا شعارات، بلا برامج، بلا أكاذيب.

تتمنى أن تقضي وقتك في قراءة الخطوط على راحة كفك عوض قراءة الجرائد، وفي عد النجوم بالليل عوض عد الأيام التي تفصلك عن موعد تسلم راتبك.

تسأم العودة المتعبة في المساء إلى نفس البيت، وتسأم جلستك كل ليلة جنب رف الكتب نفسها، وتسأم الساعات الطويلة بهاتفك المحمول فوق أذنك متحدثا إلى الأشخاص أنفسهم حول المواضيع نفسها. وتتمنى أن تعيش بقية عمرك بلا تغطية حتى لا يفلح أحد في الاتصال بك، وبلا عنوان ثابت حتى تضيع الرسائل وراءك إلى الأبد.

تسأم الأوراق وأقلام الحبر ورسائل الغرباء، وتتمنى أن تهيم على وجهك في الغابات تكتب أسماء النساء اللواتي أحببت بغصن فوق التراب الطري وتتأمل كلمات الحب والقلوب المحطمة التي يرسمها العشاق على جذوع الأشجار.

تسأم المدينة المتسخة وشوارعها القذرة المزدحمة بالمارة العجولين، وتسأم زعيق أبواق السيارات المجنونة، وتتمنى أن تعود إلى الجبل حيث عاش أجدادك قبل مئات السنين، هناك حيث أشجار الزيتون وحقول الشيح هي كل ثروتهم على هذه الأرض، بالإضافة طبعا إلى كرامتهم.
تسأم من رؤية كل تلك الجيوش من العاطلين والمتسولين والأطفال الضائعين في الشوارع، كل أولئك الفتيات المكسورات الجناح الجالسات في المقاهي بانتظار من يشتري منهن لحمهن الطري. يصيبك القرف من رؤية مبنى البرلمان محايدا وصامتا وبلا معنى وسط العاصمة. تشعر بالغضب وأنت ترى الحكومة مرتبكة والمعارضة مقطوعة اللسان والجميع متفق على احتراف الصمت مهنة أبدية.

وتتمنى أن تكون لديك عصى سحرية لتضرب بها رؤوس كل هؤلاء وتحول البرلمان إلى مكان يتشاجر فيه النواب دفاعا عنا عوض أن يناموا. وتضرب بها رأس الحكومة فيتحول وزراؤها إلى شخصيات حكومية عوض أن يبقى بعضهم مجرد شخصيات بهلوانية تمثل في مسلسل هزلي لا يضحك أحدا.

تسأم التلفزيون ومذيعيه السخيفين الذين يبتسمون ببلاهة ويضحكون بلا مناسبة. تسأم برامجه التي تصيب بالضغط الدموي والانهيار العصبي، وتتمنى لو أنك تفرغ الجهاز من أسلاكه وتحوله إلى أكواريوم تربي فيه الأسماك، بدل رؤية هؤلاء المذيعين يربون المواطنين يوميا على البلادة.

تسأم الشعب وشكواه التي لا تنقطع، الدولة وحماقاتها، تسأم الأغنياء وتفاهة أفكار بعضهم، وتسأم الفقراء وكثرة بكائهم. تسأم المقاهي وجلساتها، مقرات العمل ووشاته، الجيران وضوضاء أطفالهم، البيت ورائحة الأحباب الذين غابوا عنه. تسأم الشارع وأشجاره التي يتبول على جذوعها السكارى في آخر الليل. التاكسي وسائقه الذي يريد أن يتحدث في كل شيء. تسأم الشعب الذي يريد كل شيء ولا يريد بالمقابل أن يضحي بأي بشيء.

تسأم رؤية كل هذا الظلم دون أن تكون قادرا على فعل أي شيء لصالح المظلومين، وهذا المنكر دون أن تكون قادرا على تغييره، وهذا اللعب بمصائر الناس دون أن تكون قادرا على إطلاق صفارة إنذار لإعلان نهاية هذه الملهاة السخيفة التي طالت أكثر من اللازم

لا يسكن في العنوان

من أغرب الأوامر التي أعطاها الجنرال حسني بنسليمان لرجاله هو استدعاء واستنطاق شباب ينحدرون من منطقة تارغيست بحثا عن معلومات قد تقوده لاعتقال قناصها الغامض.

وشخصيا لا أعرف التهمة التي سيوجهها الجنرال إلى القناص، فهو لم يسرق ممتلكات أحد، ولم يتسلم رشوة من أحد، ولم يعتد على حرية أحد. فهو يصور في الأماكن العامة، ولم يقتحم مخافر الدرك لكي يصور داخلها.

والواقع أن الجنرال كان يجب أن يبحث عن القناص لكي يمنحه وسام الاستحقاق من درجة مواطن صالح لمساهمته بإمكانياته المتواضعة في فضح الفساد الذي تغرق فيه مؤسسة الدرك الملكي. لا أن يجند رجاله للبحث عنه من أجل اعتقاله ورميه في السجن.

وعوض أن تفكر المصالح الأمنية في مطاردة القناص فالأجدر بها أن تعقد صفقة مع الصين لاقتناء عشرات الآلاف من الكاميرات الرقمية لكي توزعها على الشباب وتطلب منهم التحلي باليقظة وتسجيل كل من يرونه يخالف القانون أو يتلبس بالفساد على طرقات المملكة. فيبدو أن هذا هو الحل الوحيد لجعل هؤلاء المرتشين يتوقفون عن مد أيديهم للسائقين مثل المتسولين.

فليس هناك اليوم من سلاح أقوى من الصورة. عندما نعيد شريط الصور المروعة التي وقعت في صفرو ونتوقف عند كل الأماكن التي تعرضت للحرق أو التدمير بالحجارة، سنفهم دواعي كل هذا العنف من طرف الذين هاجموا هذه المؤسسات بالذات وليس غيرها.
عندما نشرت إحدى الجرائد الحزبية صور الانتفاضة الشعبية التي شهدتها مدينة صفرو، قليلون انتبهوا إلى صورة أحد المتظاهرين وهو يتعرض للضرب بالهراوات من طرف ثلاثة عناصر من الشرطة بزي مدني. أحد هؤلاء الثلاثة مفتش أمن كان يلبس قميصا أحمر وكان ينهال بشكل جبان على المواطن الأعزل بهراوة من الخلف. ولحسن حظ صاحب القميص الأحمر أنه اختفى مباشرة بعد اندلاع المواجهات، لأنه كان سيأكل ما يأكله الطبل يوم العيد لو صادفه الغاضبون في طريقهم. وقد ذهبوا إلى منزله للبحث عنه، لكنهم، لحسن الحظ، لم يعثروا عليه. وهذا المفتش معروف في صفرو بتعامله القاسي والعنيف مع المواطنين.

ولعل الرسالة التي أراد هؤلاء الغاضبون إيصالها إلى قائد المقاطعة الرابعة بحي حبونة عندما مروا بها وأضرموا فيها النار، هي أن الوقت قد حان لكي يكف القائد أيدي رجال المقاطعة عن سلع الخضارين والباعة الذين يوجدون في منطقة نفوذه، والذين يشكون من استبداد بعض رجال المقاطعة وجشعهم.

أما السجن المدني الذي ذهب إليه الغاضبون راكبين فوق جرافة لتحطيم بابه ثم فجروا الجرافة بقارورة غاز عندما فشلوا في تحطيم الباب، فتلك رسالة موجهة إلى مدير السجن. خصوصا وأن بين الغاضبين كان هناك شباب أمضوا فترة اعتقال في سجن المدينة وذاقوا المعاملة القاسية لمدير السجن الذي يعرف جميع سكان صفرو أنه يقضي في فاس من الوقت أكثر مما يقضيه في إدارة السجن. ويكفي أن يعود المرء إلى السوابق المهنية للسيد المدير لكي يعرف أنه كان مديرا لسجن الجديدة عندما اندلعت فيه النيران وأتت على زنازن السجناء.
ولعل الذين تتبعوا مسار العنف الشعبي الذي اجتاح شوارع صفرو تساءلوا عن السبب في مهاجمة ثانوية بئر أنزران دون غيرها من المؤسسات التعليمية. بالإضافة إلى تذمر المواطنين من الزيادات الأخيرة التي عرفتها رسوم التأمين المدرسي، فهناك أيضا نزعة انتقامية شعبية من كل الأماكن التي لا يستطيعون عادة الوصول إليها إما بحرمانهم من حق الولوج إليها أو اقتصارها على عينة محددة من المواطنين. وثانوية بئر أنزران مؤسسة تقع في وسط المدينة ويتابع بها أبناء صفرو دراستهم بالإضافة إلى أبناء أعيان المدينة، خصوصا الذين يختارون شعبة الاقتصاد.

المشكل أن المعنيين بهذه الرسائل يفضلون عدم تسلمها وفتحها وقراءتها بحجة أنهم لا يسكنون في العنوان، ويختارون بالمقابل استعمال لغة سمتها وزارة الداخلية «الصرامة». ولهذا نرى اليوم أن المعتقلين على خلفية أحداث صفرو وخنيفرة وبنصميم سيقدمون جميعهم أمام محكمة الجنايات.
ربما لأن وزارة الداخلية هي أيضا لديها رسالة قوية تريد أن توصلها لجميع مناطق المغرب المتضررة من التهميش والفقر، وهي أنه من حقهم أن يتألموا ويتضوروا جوعا وعطشا، من حقهم أن يتحسروا ويندبوا حظهم، لكن بصمت وبدون أن يتجرؤوا على فتح أفواههم والخروج إلى الشارع للتظاهر. لأن ثمن التعبير عن الظلم والحكرة هو الوقوف أمام محكمة الجنايات.

لقد أصبح الاحتجاج في المغرب جناية. ويبدو أن هذا هو المغرب الحداثي الديمقراطي الذي ظلوا يبشروننا به طيلة الخمس سنوات الماضية.
ولذلك وحرصا على سلامتكم أيها المواطنون توقفوا عن الخروج إلى الشوارع من أجل التعبير عن غضبكم ويأسكم. فليس ثمة من حكومة مغربية هذه الأيام وليس ثمة من برلمان. واستعينوا على إيصال أصواتكم ببرلمانات الدول الديمقراطية كفرنسا مثلا. تماما كما صنع سكان قرية بنصميم الذين تستعد السيدة عليمة تيري النائبة في البرلمان الفرنسي لطرح قضيتهم في البرلمان الأوربي قريبا. وقد وجهت النائبة الفرنسية رسالة إلى الوزير الأول المغربي تثير فيها انتباهه إلى محنة سكان بنصميم من الشركة الفرنسية التي تريد استغلال ماء العين الوحيدة في المنطقة لتعبئتها وتسويقها كمياه معدنية. وشرحت له كيف أن هذه الصفقة المربحة بالنسبة للشركة ستتسبب في العطش لحوالي ثلاثة آلاف مواطن وحوالي خمسة آلاف رأس من الماشية.

لقد أحيانا الله حتى أصبحنا نرى نواب البرلمان الفرنسي يراسلون الوزير الأول المغربي ويطالبونه بحل مشكلة قرية مغربية. في الوقت الذي لم نر فيه أي حزب سياسي يتبنى قضية هؤلاء المواطنين البسطاء الذين تريد الرأسمالية العالمية حرمانهم من مائهم.
فالأحزاب منشغلة بتوزيع الكعكة الحكومية ولا وقت لديها تضيعه في الاستماع إلى شكاوى المواطنين حول المياه أو الأسعار أو غيرها من تفاهات المزاليط ومشاكلهم التي لا تنتهي.

لذلك فالشعب فهم اليوم أنه لا يستطيع أن يعول على هذه الأحزاب المتصارعة حول الحقائب الوزارية مثل القطط الجائعة، ولا على هذه الحكومة الكسولة والفاشلة التي لا تجتمع إلا إذا أصدر إليها الملك تعليماته وأمرها بالاجتماع.
وبعد كل هذا يتهمون الذين لم يذهبوا للتصويت باليأس. يريدون سرقة خبزك ومصادرة مياهك، وعندما تحتج عليهم يتهمونك بالشغب ويجرجرونك أمام محكمة الجنايات.

إذا كان التفاؤل عند هؤلاء القوم هو تاحيماريت فشكرا لهم، فالشعب لا يريد هذا النوع من التفاؤل الغبي، ويفضل عليه يأسه الحكيم.

لائحة المتهمين

من بين أغرب التعليقات التي قرأتها حول الانتفاضة الشعبية التي وقعت في صفرو، أن السلطات تقوم بحملة اعتقالات واسعة لمعرفة سبب وقوع أعمال الشغب. ولكي نعفي السلطات الأمنية من إضاعة المزيد من الوقت في البحث عمن يقف وراء إحراق المؤسسات العمومية بصفرو يسرنا أن نتعاون معهم ونعطيهم أسماء هؤلاء المشاغبين المجرمين الذين ألحقوا كل هذا الخراب بمدينة هادئة ومسالمة. فنحن في الجريدة نتوفر على صورهم واحدا واحدا، ولدينا عناوينهم وأسماؤهم، حتى أننا نتوفر على صور بعضهم وهم متورطون في جرائمهم.
أعرف أن وزير الداخلية يتحرق شوقا لكي نعطيه هذا الكنز الصغير الذي سيمكنه من إغلاق ملف هذه الانتفاضة التي أفلتت من سيطرته. ولذلك فلن نطيل عليه في الكلام وسنتعاون معه لكي يقبض على هؤلاء المجرمين الذين يهددون أمن المملكة الشريفة.

من خلال كل الصور التي أتوفر عليها أستطيع أن أقول بدون تردد أنني تعرفت على الرأس المدبر الذي حرك كل هؤلاء الثائرين وأفقدهم السيطرة على أعصابهم. وهذا الشخص هو نفسه الذي أراه دائما في الصور التي تصلني عن المظاهرات وأعمال الشغب التي تندلع هنا وهناك. وهو عندما يأتي لا يفعل ذلك بمفرده، وإنما يصطحب معه عصابته الإجرامية التي لا تخطئها العين. ومن خلال الصور استطعت أن أتعرف على وجه «الحكرة» وملامح «الإهانة» وتكشيرة أنياب «القمع». وقد كانوا مندسين بين المتظاهرين ينتظرون فقط الفرصة المواتية لكي يفجروا الوضع. وهكذا عندما تقدم أحد عمداء الشرطة من الصف الأمامي للمتظاهرين وضرب بحذائه فجأة فتاة مسالمة في بطنها فأغمي عليها وسقطت أرضا، شعرت «الحكرة» أن الوقت المناسب لإشعال الفتيل قد حان، لكن «القمع» لم يكن متفقا معها، وطلب منها أن تنتظر قليلا حتى تلتحق بهم «الإهانة»، فهي كانت مشغولة بالاستماع إلى استنكارات المواطنين واحتجاجاتهم الخافتة على ضرب فتاة مسالمة بركلة في بطنها وإسقاطها أرضا وهي صائمة. وفجأة أشهر عميد الأمن هاتفه اللاسلكي وانهال به على رأس فتاة أخرى كانت واقفة في مقدمة الصف. وهنا لم تستطع «الحكرة» و«الإهانة» أن تتمالكا أعصابهما أمام «القمع» فاندفعتا بين المتظاهرين وناقلتين خبر ركل عميد الشرطة لواحدة من بنات المدينة في بطنها وضرب أخرى على رأسها بالهاتف اللاسلكي، فصعدت الدماء إلى الرؤوس وتحول الواقفون إلى كتلة من الغضب تتقدم في شوارع المدينة وتحطم كل ما تجده في طريقها.

نعم سعادة وزير الداخلية، لقد رأيت في الصور وجوه هؤلاء المجرمين الذين تسببوا في ما تسمونه بأعمال الشغب. فأنا لا يمكن أن أخطئهم، لأنني طيلة ثلاثة عقود قضيتها في هذه البلاد أدمنت على رؤية وجوههم في كل مكان يندلع فيه غضب شعبي.

لذلك أدعوكم إلى وقف المتابعات والاعتقالات في حق شباب مدينة صفرو، لأنهم أبرياء. فالمتهمون الحقيقيون لازالوا طليقين وأحرارا، وغالبا ما يحظون بحماية رجالكم. رجالكم الذين فاتكم أن تعلموهم كيف يحترمون النساء عندما يخرجن للدفاع عن خبزهن اليومي، فلا يركلونهن في بطونهن مثل كرة من الأسمال البالية. لقد دربتموهم سعادة الوزير على القمع الشرس إلى درجة أنني رأيتهم يضربون الرجال في أعضائهم التناسلية أمام البرلمان، حتى يفقدوهم رجولتهم إلى الأبد.

وبعد كل هذا تأتون اليوم وتطلقون حملة اعتقالات واسعة بحثا عن الذين كانوا وراء اندلاع أعمال الشغب في صفرو. وكأنكم لا تعرفون من يقف وراء كل الذي يحدث هذه الأيام في الكثير من مناطق المغرب.

بالأمس اجتمعتم بتعليمات من الملك مع وزراء هذه الحكومة للبحث عن أسباب هذا الانفلات الأمني واتخاذ إجراءات عاجلة لوقف زحف الأسعار. وكأنكم لا تعرفون أن هذه الحكومة التي انتميتم إليها طيلة خمس سنوات هي التي تتحمل المسؤولية المباشرة عما وقع في صفرو وما يقع في خنيفرة وتطوان ومناطق أخرى من المغرب المنسي.

والكارثة أنه لكي تجتمعوا كان ضروريا أن يبعث الملك في طلبكم، وكأنكم قدمتم استقالتكم من الحكومة وغسلتم أيديكم من ملفات الشعب.
والذي يرى النتيجة التي خرج بها وزير الداخلية من وراء اجتماعه ببعض وزراء الحكومة يستخلص نتيجة مفادها أن الإخوة الذين في الفوق لم يفهموا بعد سبب كل هذه الانفجارات الشعبية التي تحدث هنا وهناك. لذلك فقد لخصوها في الماطيشة والبطاطا والبصلة والخبز. وتعهدوا بالقضاء على المضاربين في هذه الخضروات الأساسية. وفاتهم أن المشكل أعمق من بطاطا وماطيشا والخبز. لأن المغاربة لا يعيشون فقط بالخبز والخضر، فهناك الدواء وفواتير الماء والكهرباء والضرائب وتكاليف المدرسة والملبس والمسكن. أي باختصار هناك حرب منظمة ضد المواطنين على جميع الجبهات، وليس المشكل في الخبز والبطاطا فقط. إن من يريد حصر أسباب انتفاضة صفرو وغيرها من الانتفاضات الشعبية في الخبز كمن يريد ذر الرماد في العيون. الناس يشكون من غلاء المعيشة وليس من غلاء الخبز وحده. هناك اليوم تخلي تام للدولة عن المواطن في مواجهة السوق. والدولة لم تعد تتذكره إلا عندما تريد استخلاص ضرائبها.

كم يضحكني تصريح عباس الفاسي الذي يقول فيه هذه الأيام أن وزراء الأغلبية الحالية سيعودون للحكومة المقبلة لأنهم منسجمون في ما بينهم. كم هو مفرح أن نعرف أن وزراءنا منسجمون في ما بينهم، هم منسجمون فيما بينهم فقط أما معنا نحن فمتنافرون بالمرة. ولعل أكبر المنسجمين في هذه الحكومة هو عباس الفاسي. فقد قرر أن يكون منسجما مع نفسه وأن يقاطع قناة الجزيرة بسبب طرحها سؤالا عليه أثناء المباشر يتعلق بفضيحة النجاة. ولكي يرضى عباس عن الجزيرة ويرفع مقاطعته لها فهو لا يطلب أكثر من اعتذار بسيط.

ولكم أن تتأملوا قليلا هذا الانسجام الكبير الذي يعبر عنه عباس الفاسي، فهو يطلب من الجزيرة أن تعتذر له عن فضيحة النجاة، في الوقت الذي ينتظر ثلاثون ألف ضحية منذ أكثر من خمس سنوات أن يتنازل عباس ويقدم لهم اعتذارا بسيطا عن تورطه في هذه الفضيحة. ولعل عباس أحسن من يطبق المثل الشعبي «ضربني و بكا سبقني و شكا».

وعباس لم يعد يحتمل أن يذكره أحد بهذه الفضيحة التي ارتبطت باسمه، ولذلك فإنني أقترح عليه أن يغير اسمه من عباس الفاسي إلى الفاسي عباس. هكذا عندما سيذكر اسم الفاسي عباس فلن تكون له نفس الرنة الفضائحية التي لعباس الفاسي.

والحقيقة أن عباس آخر واحد يمكن له أن يتحدث عن الانسجام الحكومي، فالوزير ليس منسجما حتى في اسمه. فهو عباس وفاسي ومزداد في بركان. ثلاثة أشياء لا علاقة تربط بينها.

وعندما سمعت أن المتظاهرين في صفرو طاردوا برلماني المدينة الاستقلالي، ورجموا بيته بالحجارة، بحثت عن جريدة حزب الاستقلال لعلي أقرأ موقف الحزب. لكن مفاجئتي كانت كبيرة عندما وجدت أن أقدم جريدة في المغرب لم تخصص لأخطر انتفاضة في عهد محمد السادس سوى فقرة صغيرة جدا لم تتجاوز تسعة أسطر. وكأن ما وقع لم يحدث في صفرو وإنما في البيرو.

وقلت مع نفسي أن التعتيم بدأ حتى قبل أن يشكل عباس الفاسي حكومته، أما عندما ستتشكل الحكومة تحت قيادة سعادته فسيتحول المغرب في جريدة الحزب والإعلام العمومي (الذي يحمر في حقيبته عبد الله البقالي) إلى جنة فيحاء. حتى ولو كانت رائحة هذه الجنة تفوح مباشرة من العجلات الملتهبة ومقرات المؤسسات العمومية المحترقة.

هاد الشي غير باقي مادرنا فالطاجين مايتحرق وشوفو الروايح اللي طالعة منو .

يد من الفوقانية

لا بد أن عباس الفاسي سيكون قد التقط إشارة الغاضبين في مدينة صفرو الذين قصدوا بيت برلماني المدينة الاستقلالي ورشقوا نوافذه بالحجارة. فهذا أول امتحان أمام حكومة عباس التي لم تتشكل بعد. ويبدو أن ما وقع في صفرو مساء وليلة الأحد مؤشر حقيقي على أن الأيام التي تنتظر عباس على رأس الحكومة ستكون صعبة جدا. فليس هناك أحد كان ينتظر أن يرى مدينة صفرو الهادئة التي لا نكاد نسمع عنها شيئا خارج مسابقات ملكات جمالها وفاكهة حب الملوك، وقد قررت فجأة في لحظة غضب أن تنزل تاج الجمال من فوق رأسها وأن تنزع عنها مساحيقها وأن تظهر وجهها الآخر. الوجه الحقيقي لمدينة كانت إلى حدود الثمانينات إحدى أجمل مناطق المغرب، قبل أن تتدهور الفلاحة وتجتاحها أحزمة الفقر.

كل شيء بدأ بوقفة احتجاجية ضد ارتفاع الأسعار، قبل أن تتطور الأمور بعد مشادات مع كوميسير إلى إطلاق الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع. وفي لحظة واحدة تحولت المدينة إلى منطقة خارج السيطرة، وأشعل الغاضبون النيران في العجلات المطاطية وبقايا الأغصان اليابسة التي قطعتها البلدية وتركتها في جانب الطريق، كما كسروا الطوارات التي تركها عمال البلدية على الأرصفة واستعملوها في رشق قوات التدخل السريع. الذين عاشوا هذه اللحظات الساخنة شبهوا ما وقع بما يرونه كل مساء في نشرات أخبار الجزيرة وهي تعرض ما يدور في قطاع غزة. شبان ملثمون يتراكضون بين الأزقة ودخان كثيف يدمع العين ويسد التنفس، واعتقالات بالعشرات. وفي مركز الأمن كان هناك من مسيري فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى قاصرين تم اقتيادهم من الشارع إلى جرحى جلبوهم من المستشفى.

الجميع يتحدث عن سبب واحد لاندلاع كل هذه الفوضى. ضربة طائشة من الكوميسير لأحد المحتجين أججت غضب الواقفين، فوضعوا الكوميسير وسطهم وانهالوا عليه بالضرب. وهنا تدخلت قوات الأمن وبدأ الضرب في كل الجهات. فتمت مهاجمة مقر البنك وأحرق مقر الأمن وسدت الطرق بالطوارات والإطارات المحترقة. وعندما جاءت الطراكس لكي تحرر الطريق رشقوا سائقها بالحجارة فنزل منها وهرب وترك الطراكس بين أيديهم. فركبوا فيه وتوجهوا نحو السجن المحلي في محاولة لتحطيم بابه وإطلاق سراح السجناء، وعندما فشلوا في تحطيم الباب أحرقوا الطراكس وتركوها هناك. وعندما مروا بسيارة أحد المقدمين لم يفتهم أن يحرقوها أيضا.

هذا ما يسمى عند وزارة الداخلية بالانفلات الأمني. ومسؤولية هذا الانفلات مشتركة بين الأمن والمشاغبين الذين ألحقوا الأذى بممتلكات الناس وبالإدارات العمومية. فالأمن لم يفهم بعد أن كل ما يطلبه المواطنون هو الحوار، وليس الطرش. وقد انتهى ذلك الزمان الذي كان فيه الحوار الوحيد الممكن مع المغاربة هو الضرب، اليوم عندما طرش شرطي مواطنا في الدار البيضاء قبل أسبوع وجد نفسه فجأة مقيدا داخل بيت عائلة المواطن، مجردا من سلاحه وأصفاده، مضروبا عن آخره.

وقبل أمس عندما ضرب كوميسير مواطنا في صفرو وجد نفسه وسط المواطنين تحت رحمة لكماتهم وركلاتهم. يجب أن يفهم هؤلاء أن الأمور لا تحل دائما بالعنف، هناك لغة أخرى اسمها الحوار يجب أن يتعلموها، لأنها لغة التفاهم المستقبلية مع المغاربة، وليس لغة يد من الفوقانية.
اليوم هناك تهديدات حقيقية بفلتان أمني مشابه في كثير من مناطق المغرب المنسي، في أغبالو بإقليم خنيفرة يعتقلون المواطنين ويضربونهم لمجرد أن 350 امرأة من نسائهم نظمن مسيرة احتجاجية لإثارة انتباه المسؤولين للتهميش والإقصاء الذي يتعرضون له. في أصميم اعتقلوا الناس لمجرد أنهم احتجوا على تفويت مصدر المياه الوحيد الذي يشربون منه ويسقون به حرثهم وبهائمهم لأحد المستثمرين الأجانب لكي يستغل مياه العين في تعبئتها وبيعها كمياه معدنية. أليست جريمة ما بعدها جريمة أن يحرموا الناس من مصدر مياههم الوحيد ويفوتونه للغرباء لكي يربحوا من ورائه الأموال الطائلة على حساب عطش المغاربة وأبنائهم. وفوق ذلك يتساءلون لماذا يحتج الناس ويخرجون في مظاهرات غاضبة، وكأنهم ينتظرون من الذين منعوا من مصدر مائهم الوحيد أن يخرجوا مهللين مطبلين لاستقبال هذا المستثمر الأجنبي ويفرشوا له الطريق بالورود والزرابي.

الغريب في أمر هؤلاء المسؤولين أنهم عندما شاهدوا النسبة الضئيلة للمواطنين الذين ذهبوا للتصويت بدأوا يتحدثون عن وجود حزب اسمه الأغلبية الصامتة، وأجمعوا على أن الحل الوحيد هو الاستماع إلى صوت هذه الأغلبية الصامتة. إذن لماذا يصمون آذانهم عندما تخرج هذه الأغلبية الصامتة إلى الشارع لتعبر عن نفسها. هادي هيا طلع تاكل الكرموص نزل شكون كالها ليك. عبرو على روسكم، وملي تخرجو تعبرو تخلا دار بوكم.

إن ما يحدث اليوم في الكثير من مناطق المغرب المنسي من احتجاجات ومصادمات مع رجال الأمن، ليس سوى نتاج لأزمة اجتماعية خانقة أججتها هذه الهجمة الشرسة على جيوب المغاربة، والتي تسبب فيها هذا الارتفاع الأهوج للأسعار. فالحكومة السابقة حررت أسعار المواد الغذائية وتركت المواطنين وجها لوجه مع أرباب الشركات والمقاولين الجشعين الباحثين عن الربح السريع، وتخلت عن واجبها في رفع الأجور وتحريك حدها الأدنى من مكانه الذي لم يغادره منذ عشر سنوات. وفي أثناء هذا الوقت تفرغت الشركات الكبرى المتحكمة في صناعة المواد الغذائية لنشر نتائج أرباحها في الصحف. كما لو أنها تصنع ذلك لكي تفقص المواطنين وهي تشرح لهم أين تذهب أموالهم.
المشكلة أن الاحتجاجات لم تعد مقتصرة على المدنيين، فقد رأينا كيف أن رجال شرطة في وجدة رفضوا التوجه لمقرات عملهم لأداء الواجب، في حركة احتجاجية غير مسبوقة في المغرب بسبب الظلم المهني الذي تعرضوا له.

إن التعامل مع مطالب المواطنين دائما على أساس أنها سخوينة الراس، وأن الحل الوحيد الموجود هو القمع والسجن، ليس دائما حلا موفقا. يجب الجلوس إلى الطاولة وفتح الملف الاجتماعي على مصراعيه. لم يعد الآن ممكنا أن يسير المغرب بهاتين السرعتين المختلفتين كلية. مغرب يعيش وآخر يحتضر ببطء.

الحكومة التي ستتشكل، لديها امتحان حاسم ومصيري يجب أن تجتازه. لقد وعدوا الناس بالشغل خلال الحملة الانتخابية، ووعدوهم بتحسين الخدمات الطبية، وبدعم القدرة الشرائية والرفع من الرواتب. ويبدو أن القوت قد حان للتأكد من صدق هذه الوعود.
إن رائحة العجلات المحترقة القادمة من صفرو ليست سوى جرس الإنذار الذي يجب أن يأخذه الجميع على محمل الجد. لا أحد يريد أن يسمع بانتفاضة خبز جديدة. والحل هو أن الجميع في المغرب يجب أن يأكل الخبز، ماشي شي ياكل وشي يشوف.

صائمون والله أعلم

اندهش المصلون في طنجة عندما ذهبوا لأداء صلاة التراويح والفجر في مسجد محمد الخامس فوجدوه مغلقا. وقد تصور بعضهم أن أحد الأجانب المقيمين بجانب المسجد اشتكى للسلطات بسبب صوت المؤذن وصدى التكبيرات التي يرددها المصلون، فعمدت إلى إغلاقه حرصا على راحته كما وقع في درب المنابهة بمراكش قبل رمضان بأيام قليلة.

وهكذا تفرق المصلون الطنجاويون راكضين بسرعة نحو مساجد أخرى لإدراك صلاة التراويح التي تقام قبل الفجر. وفي الغد جاء الخبر اليقين. فالسبب في إغلاق المسجد فجر الجمعة هو أن الملك سيصلي فيه صلاة الظهر. وحمد الناس الله وشكروه لأن المسجد لم يغلق إلى الأبد، كما حدث في مراكش.

لكنهم عندما ذهبوا في الغد لأداء صلاة الجمعة إلى جانب الملك لم يكونوا ينتظرون أن يمنعهم حرسه الخاص من مغادرة المسجد بعد إنهاء الصلاة. فقد أغلقوا الأبواب في وجوههم، هذه المرة من الداخل، وأجبروهم على البقاء في المسجد إلى حين مغادرة الملك.

لكن الفتوى التي يطلبها المغاربة اليوم أكثر من أي شيء آخر ليست هي حكم الشرع في من يغلق مسجدا في وجه المصلين، ولكن الفتوى التي يطلبها المواطنون هذه الأيام هي ما حكم الشرع في من صام وأفطر على تمر إسرائيلي، هل صيامه جائز أم باطل.

والسبب وراء هذه الفتوى هو انتشار تمور إسرائيلية في الأسواق المغربية بكثرة هذه الأيام. وبعد شيوع الخبر وانتشار القلق بين الناس بدأ باعة التمور يتخلصون من الكارطون الذي يأتي داخله التمر والذي يحمل طابع «صنع في إسرائيل»، وبعض الكلمات المكتوبة بالعبرية، ويعرضون التمور بدون تلفيف حتى يسهل عليهم بيعها.

إحدى المجلات المشهورة باستهتارها بكل ما له علاقة بعقيدة المغاربة قالت بأن الأمر ليس فيه أي إشكال، لأن التمر ليس إسرائيليا مادام أنه من أرض فلسطين. ولا بد أن المدافعين عن هذا التطبيع الغذائي ينسون أن العائدات المالية لهذه التمور لا تذهب إلى بيت مال القدس، ولكن مباشرة إلى خزينة إسرائيل.

هكذا نكتشف أن وزارة التجارة الإسرائيلية ليست بحاجة للدفاع عن صادراتها إلى المغرب، لأن هناك بيننا من يجيد القيام بهذا «الواجب» على أحسن وجه.

ويبدو والله أعلم أن وزير الأوقاف، الذي ختم فترة وجوده على رأس وزارة الأوقاف بإصدار أمر بإغلاق مسجد بمراكش اشتكت من أذانه فرنسية تملك رياضا بالقرب منه، لا علم له بهذه الفتنة التي انتابت الناس هذه الأيام بسبب التمور الإسرائيلية. فهو، كغيره من الوزراء، يستعد لوضع المفاتيح والخروج من الحكومة.

وإذا كانت كل الوزارات هذه الأيام تشبه البيوت المهجورة بسبب الفراغ الحكومي الذي يسبق تعيين الحكومة الجديدة، فإن بعض الوزراء استغلوا هذه الفجوة لتعيين الأقارب والأحباب وتمرير قوانين في الدقائق الأخيرة من عمر الحكومة.

السي العنصر وزير الفلاحة لم يجد وقتا آخر يرقي فيه داخل وزارته عضوين في حزب الحركة الشعبية سوى الأسبوع الأخير. وفعل ذلك على حساب أطر كانت تنتظر فرصتها منذ سنوات. كما أن العنصر لكي يغرس مسامير جحا في وزارة الفلاحة والصيد البحري شرع قبل أسبوع في تغيير رؤساء مندوبيات الصيد البحري التابعة لوزارته وتعويضهم برجاله. حتى يجد الوزير الجديد القادم إلى وزارة الفلاحة والصيد البحري مسامر الميدة القادمين من الحركة الشعبية.

أما وزير الطاقة والمعادن السي محمد بوثعلب، الذي تكردع بالمناسبة في الانتخابات البرلمانية، فلم يجد وقتا مناسبا يصدر فيه مرسوما في الجريدة الرسمية يقضي بتمديد مدة عيش بوطات الغاز التي يستعملها المواطنون في بيوتهم من 25 سنة إلى 40 سنة. وليس هذا فقط، وإنما إلغاء إجبارية اختبار البوطات ثمان مرات ما بين كل ثلاث سنوات كما كان قائما، وتعويضها باختبار أربع مرات فقط ما بين كل عشر سنوات.

هكذا يوقع سعادة وزير الطاقة على قرار يسمح لشركات الغاز باستعمال البوطات لأربعين سنة مع تقليص مدة اختبارها. وفي كل البلدان التي تحرص على سلامة مواطنيها فإن إجراءات السلامة والوقاية تعرف تشديدا مستمرا، وكلما صدر قرار عن وزير يسير قطاعا حساسا وله علاقة بالسلامة البشرية إلا وكان هذا القرار في صالح المواطنين وليس في صالح الشركات الكبرى التي لا تبحث سوى عن الربح، حتى ولو كان ذلك أحيانا على حساب سلامة المواطنين وأمنهم.

السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا انتظر السيد بوثعلب حتى بقيت له أيام قليلة على مغادرته للوزارة فأصدر هذا المرسوم. لماذا لم يصدره قبل هذا التاريخ.

ولمصلحة من صدر هذا القرار، هل لمصلحة ثلاثين مليون مغربي الذين يمتلكون في بيوتهم قنينة غاز واحدة على الأقل، أم لمصلحة الشركات الموزعة لقنينات الغاز.

والواقع أننا عندما نلقي نظرة على ما يصدر في الجريدة الرسمية هذه الأيام نصاب فعلا بالذهول. فبعد قراءتنا لمرسوم بوثعلب، نكتشف مرسوما طريفا للعنصر وزير الفلاحة تحت عنوان «قرار لوزير الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري صادر في 8 شعبان المتعلق بتجارة ماء الحياة والمنتجات المشابهة». يشرح فيه وزير الفلاحة، سابقا، في شهر شعبان المبارك، في الفقرة 19 ماذا تعني الماحية وما هي شروط تقطيرها في المغرب. وفي المرسوم المعدل الذي أصدره الوزير تقنين مفصل وصارم لصناعة الماحيا، حيث تأتي السلامة الصحية في مقدمة انشغالات السيد الوزير. وهكذا نقرأ في الفصل 11 ما يلي «لا تمنح الرخصة إلا إذا كانت الورشات المعنية بإعداد أو تعبئة أو تخزين هذه المشروبات تستوفي الشروط التالية: توفير مساحة كافية تسمح بإجراء كل العمليات في أحسن الظروف، احترام الشروط الصحية المحددة في المواصفات المغربية المتعلقة بالمبادئ العامة للصحة الغذائية، استيفاء الشروط المحددة لحفظ وتخزين المواد الغذائية، توفر معدات آلية لتنظيف القارورات وتعبئة هذه المشروبات».

ولو أن الحكومة المنشغلة بتطبيق شروط السلامة الغذائية في صناعة الماحيا، تطبق هذه الشروط نفسها على الصناعات الغذائية الأخرى، لما وصلنا إلى كل هذه النسبة العالية من التسممات الغذائية التي تهدد المغاربة يوميا. وعلى ذكر التسمم الغذائي فقد قرر بعض الموظفين الذين قدموا لهم وجبة دجاج فاسدة في أحد مكاتب التصويت في مراكش، رفع دعوى ضد وزارة الداخلية. فالوزارة تخلت عن هؤلاء الموظفين والمتطوعين الذين تسمموا بسبب أكلة دجاج جلبتها لهم الداخلية من مرجان، وعندما دخلوا المستعجلات تركتهم يتدبرون أمورهم من جيوبهم، ومنهم من لازالت مضاعفات التسمم تهدد حياته.

والحقيقة أنه إذا كان هناك من ضحايا للانتخابات الأخيرة فهم هؤلاء الذين تسمموا بالدجاج في مكتب مراكش، أما بقية المغاربة فلديهم خمس سنوات كاملة ليتسمموا فيها على خواطرهم بالدجاج والبيبي والوز...

المغرب الفاسي

أغلب زعماء الأحزاب السياسية رأوا في تعيين عباس الفاسي وزيرا أول عودة للمنهجية الديمقراطية. هناك من قال أن تعيين عباس على رأس الوزارة الأولى شيء لا يهمه، مثل محمد مجاهد زعيم اليسار الاشتراكي الموحد. وهناك من أخرج عينيه وعوض أن يعطي رأيه في تعيين عباس قال أنه لن يتنازل عن حصته من الحقائب الوزارية، مثل المنصوري زعيم الأحرار. فحزبه قد حصل على 22 بالمائة من مقاعد الأغلبية ويجب أن يحصل على جطو. العنصر زعيم الحركيين قال أن عباس يجب أن يأخذ في الاعتبار التوازنات البرلمانية. يعني «كول وقيس»، وعنداك تنسى راه حنا هنا.

أما العدالة والتنمية فظهروا كمن يريد تسبيق العرس بليلة، وبدؤوا يتحدثون عن إمكانية تخلي عباس عن اليازغي وحزبه وقلب وجهه باتجاه العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة.

وحده محمد اليازغي زعيم الاشتراكيين المكردعين في الانتخابات لم يعلق بكلمة واحدة على تعيين زميله في الكتلة وزيرا أول والتزم الصمت. حتى أنه لم يبارك له عيد ميلاده، فعباس الفاسي يطفئ اليوم شمعته السابعة والستين، وقد كانت هدية القصر لعباس بمناسبة عيد ميلاده حقيبة وزارية من الدرجة الأولى.

سنة حلوة يا كميل، تاكل الحلوى الحكومية اليوم وغدا وبعدو، وعين الحسود فيها عود.
والحقيقة أن عباس الفاسي رجل محظوظ ومرضي الوالدين (حنا اللي مساخيط)، فليس هناك في العالم رجل تلقى في عيد ميلاده وزارة أولى كهدية. ربما لأنه رجل مؤمن، والدليل على ذلك هو أن أوراق الدعاية التي وزع في إقليم العرائش كانت تحمل كلها آية كريمة من سورة هود، التي تأتي بالمناسبة مباشرة بعد قصة قوم لوط، يقول فيها الله عز وجل على لسان رسوله «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

وعباس الفاسي الذي قدم نفسه في العرائش خلال الانتخابات كرسول الحزب الذي يتعهد أمام الله وأمام السكان بالاستمرار في جلب المشاريع إلى العرائش (كما لو أنه جلبها في السابق)، لم يحصل في مكاتب تصويت العرائش المدينة سوى على أوراق معدودة ويتيمة. وعندما بدأ مراقبو المكاتب يحصون أصوات المرشحين وجدوا أن 5642 صوتا التي حصل عليها عباس كانت أغلبها قادمة من صناديق مناطق قروية نائية بإقليم العرائش، وخصوصا منطقة بعينها لم يستطع أي من وكلاء اللوائح أن يضعوا فيها مراقبين.

المضحك في فوز عباس الفاسي في العرائش هو أنه احتل المركز الأخير ولم تتجاوز نسبة فوزه سوى تسعة بالمائة من الأصوات مقابل 36 بالمائة للعدالة والتنمية و12 بالمائة للأحرار. وهذا يعني أن عباس فقد بالمقارنة مع الانتخابات السابقة أكثر من عشرة آلاف صوت. عشرة آلاف مواطن فقدوا ثقتهم في عباس الفاسي في ظرف خمس سنوات. ومع ذلك يعتبر حزب الاستقلال أن فوز زعيمهم كان انتصارا عظيما يعيد الثقة للمغاربة في المستقبل ويستحق عليه منصب الوزير الأول.

الآن المشكلة ليست هي أن عباس أصبح وزيرا أول، بل هي أنه سيعيد إلى الحكومة وجوها استقلالية أقصتها حكومة جطو لصالح وجوه شابة لا علاقة لها بالحزب سوى ريحة الشحمة فالشاقور. وهؤلاء الذين ظلوا يتغددون على الوزارة طيلة خمس سنوات، يريدون اليوم حقائبهم. وعلى رأسهم السي محمد خليفة، الذي يردد هذه الأيام أن فشله في الحصول على مقعد في البرلمان لن يشكل بالنسبة إليه أي عقدة تمنعه من المطالبة بوزارة.

وهذا طبعا من حقه، فالمغرب هو البلد الوحيد في العالم الذي يمكن أن يسقطك فيه الشعب في الانتخابات ومع ذلك يأتي الوزير الأول وينصبك في الحكومة.

هناك بالإضافة إلى محمد الخليفة ومحمد العربي المساري وآخرين، هناك الأبناء والأصهار. فحزب الاستقلال لديه شعار سري اشتغل به دائما هو الأسرة أولا والفاسيين ثانيا والحزب ثالثا والوطن أخيرا. وداخل كواليس الحزب يروج منذ مدة اسم نزار بركة، زوج ابنة عباس الفاسي. وهناك من يقول أنه يحمر في حقيبة وزارة المالية منذ زمان، وآخرون يقولون أن عباس يريد أن يوفره لمنصب وزير الشؤون العامة للحكومة، وهو المنصب الذي كان يحتله الحليمي قبل أن يتحول إلى المندوبية السامية للتخطيط حيث يهز الخط للعمل الحكومي. أما واحد ياسمينة بادو فيبدو أنها تعبت من العمل الحكومي والتصبيح كل يوم على شعارات المعوقين أمام باب وزارتها في الرباط، ولم تعد تطمع سوى فشي سفارة. ولشدة ولع ياسمينة الوزيرة الضاحكة بالأثواب فيمكن أن نقترح على عباس أن يرسلها إلى الهند مكان السفير محمد الوفا، زوج أخت زوجة عباس.

فالعائلة الاستقلالية شيء مقدس في أدبيات حزب الاستقلال. ولولا انتساب عادل الدويري لوزير سابق وانتساب كريم غلاب لعائلة عريقة في الحزب وكون ياسمينة بادو هي ابنة بادو وزير العدل السابق، وكون توفيق حجيرة هو ابن حجيرة الوزير السابق أيضا، لما قبل عباس الفاسي وضع أسمائهم في اللائحة التي قدمها إلى جطو لتشكيل حكومة 2002. ولعل الجميع لازال يتذكر عندما غضب وزير السياحة عادل الدويري في البرلمان عندما سأله أحد نواب المعارضة بخصوص صفقة ذكر فيها اسم زوجته، فقال له أنه وزير وابن وزير وجده كان وزيرا، وأنه يجب أن يعامل بالاحترام الواجب للوزراء أبناء الوزراء.

والمرجح أن عباس الفاسي سيجد صعوبة كبيرة في تقسيم الكعكة الحكومية على الجميع بالتساوي. خصوصا وأنه قال في آخر حوار له مع إحدى الأسبوعيات الاقتصادية أن الحكومة المقبلة لن يكون عدد الحقائب بها كبيرا، ولن يتعدى عدد الوزراء فيها خمسة وعشرين وزيرا على الأكثر.

زعما بحال إلى 25 ماشي بزاف.
لكن الملف الشائك والصعب الذي يمكن أن يدمي أصابع عباس هو ملف الخارجية، وخصوصا العلاقة مع الجيران الإسبان. فرغم التهنئة التي توصل بها عباس من ماريانو راخوي زعيم الحزب الشعبي ومن رئيس الحكومة الإسبانية، فإن مدريد لم تنس أن حزب الاستقلال طالب ذات يوم الرباط عبر جريدة الحزب بدعم الانفصاليين في الشمال ومنظمة إيطا الباسكية، ردا على دعم مدريد لانفصاليي البوليساريو. وقد أحدث المقال الذي وقعه عبد الكريم غلاب المدير السابق لجريدة العلم رجة دبلوماسية قوية آنذاك.
كما أن موقف حزب الاستقلال من احتلال سبتة ومليلية والجزر الجعفرية واضح ولا غبار عليه. وقد كان الحزب يطالب أيضا باستعادة موريتانيا التي كانت تدخل ضمن التراب المغربي ولم يعترف باستقلالها إلى الآن. وفي إحدى جلسات البرلمان الأخير طالب أحد النواب الاستقلاليين باسترجاع الصحراء، لكن الشرقية على الحدود مع الجزائر. فهل سيبقى حزب الاستقلال ثابتا على مطالبه الوطنية أم أنه سيغيرها عند الطلب.

أحد الذين سألناهم في الشارع عن رأيه في تعيين عباس الفاسي وزيرا أول، سألنا مندهشا عند سماعه للسؤال :
- علاه شكون اللي جا الأول فالانتخابات ؟
- حزب الاستقلال...
- هيا المغرب معاود العام وصافي...

عباس الفرناس

قال وزير الدولة المنتدب سابقا، والبرلماني الرحماني حاليا فؤاد عالي الهمة، عندما جاء إلى التلفزيون أن مشكلة هذه البلاد هي أن هناك أشخاصا يرون المغرب بنظارات الماضي. الآن مع تعيين عباس الفاسي وزيرا أول لم تعد النظارات وحدها هي التي تعود إلى الماضي بل حتى صاحب النظارات بنفسه جاؤو به من الماضي.

ومنذ أن صعد عباس الفاسي فوق أكتاف بعض المناضلين الاستقلاليين فرحا بفوزه بدائرة العرائش، وصدرت صوره في الصحف وعلى فمه ابتسامة واسعة ورجلاه النحيلتان تتدليان فوق كتفي حامله، فهمت أنه يرسل إشارة سياسية إلى الملك يقول له فيها أنه مولا نوبة، وأن وقته قد حان ليجلس خمس سنوات فوق كرسي الوزير الأول. فليس هناك أي وزير مرشح فاز في الانتخابات وحمله أنصاره على الأكتاف. مع أن فوزه الصغير تم الطعن فيه مباشرة بعد صدور النتائج. ويبقى احتمال إلغاء فوز عباس الفاسي بدائرة العرائش قائما إذا ما تم قبول الطعن. وهكذا سنجد أنفسنا أمام حكومة يرأسها وزير أول مهدد بفقدان كرسيه البرلماني.

وخلف الابتسامة البريئة التي كان يحرص عباس على رسمها على وجهه خلال الحملة الانتخابية وبعدها، كان يخفي شراسة غير معهودة في المطالبة بجطه من كعكة الوزارة الأولى. فقد انتظر عباس دوره في حكومة التناوب الأولى ولم يكن حظه منها سوى وزارة التشغيل التي خرج منها بفضيحة النجاة التي لازال عشرات الآلاف من ضحاياها يطاردونه. وانتظر دوره في حكومة جطو وكان نصيبه منها حقيبة فارغة بدرجة وزير دولة متفرغ لاستقبال ضيوف المملكة بالشاي والحلوى، والنيابة عن الملك في حضور أعياد وطنية لدول لا أحد يعرف مكانها فوق الخريطة.

وبعد كل هذا الجلوس الطويل في غرفة الانتظار، قرر عباس أن يطلب يد كرسي الوزارة الأولى بعد أن يقصي كل عشاق الكرسي الذين كانوا ينافسونه من داخل حزبه، أولئك الذين يتفاخرون وراء ظهره بشبابهم ونسبهم العائلي داخل الحزب و شواهدهم التي حصلوا عليها في الخارج. فقادة حزب الاستقلال دافعوا كثيرا عن تعريب التعليم، وعندما وصلوا إلى الحكومة ذات سبعينيات بعيدة طبقوا قرار التعريب، وفي الوقت ذاته ظلوا حريصين على إرسال أبنائهم للدراسة في الخارج، ومنهم عادل الدويري وكريم غلاب، واللذين راج خبر تولي أحدهما لحقيبة الوزير الأول طيلة الأيام الأخيرة.

وفي الوقت الذي ظل فيه الحزب يعطي عن نفسه صورة البيت السياسي المنظم والهادئ، كانت السكاكين الطويلة تشهر في السر لكي تقطع الطريق على كل من تسول له نفسه مزاحمة عباس الفاسي على يد معشوقته. وقد ذهب أنصار عباس إلى حد التشكيك في مغربية عادل الدويري وكريم غلاب، بحكم أن الاثنين يحملان جنسيتين أجنبيتين. أما بالنسبة لتوفيق حجيرة فقد كان الأمر أسهل نسبيا، فهو على الأقل ابن الحزب ولم يسقط بالمظلات مثلما حدث مع غلاب الذي فرضه جطو على حزب الاستقلال، والدويري الذي راجت شائعات داخل الحزب بأن مارغاريت تيتويلر سفيرة أمريكا السابقة في المغرب هي التي فرضته على جطو بحكم المصالح الأمريكية التي تتطلب وجود وزير كعادل الدويري حاملا لحقيبة السياحة. ولم تكتف الألسنة الطويلة في حزب الاستقلال باتهام الدويري بالقرب من الأمريكيين بل روجت أيضا لقربه من الممثل الإنجليزي «ميستر بين»، خصوصا في ملامح الوجه، حتى أن بينهم من أصبح يطلق عليه «منيستر بين» في جلساته الساهرة تندرا وسخرية.

وداخل حزب الاستقلال هناك منظفون مهمتهم حك وجه وسيرة المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة بمساحيق التنظيف القوية المفعول. إلى درجة أن بقعة كبيرة وسوداء على قميص عباس مثل فضيحة النجاة، التي سبق له أن قال أنه يتحمل فيها المسؤولية مع اليوسفي ووزير الداخلية الساهل، يمكن أن تزول بسهولة.

ولذلك فإن آلة تصبين الحزب روجت بأن عباس الفاسي بريء براءة الذئب من دم يوسف، ففضيحة النجاة دبرتها المخابرات مع أطراف أخرى لتشويه سمعة حزب الاستقلال. مع أن حزب الاستقلال خرج رابحا في الانتخابات من وراء فضيحة النجاة، فقد نجى عباس الفاسي بحقيبته الفارغة فيما غرق ثلاثون ألف مغربي في كابوس لازالت تداعياته قائمة إلى الآن.

ومع ذلك، فهذا الرجل الذي قضى خمس سنوات وزيرا بلا شغل ولا مشغلة، وهذا الرجل الذي يحمل فوق كتفيه مأساة ثلاثين ألف مغربي، منهم أربعة انتحروا بسبب النجاة، هذا الرجل هو الذي سيكون وزيرا يدير شؤون ثلاثين مليون مغربي لخمس سنوات.
ولكم أن تتخيلوا كيف سيستطيع وزير فشل في حل مشكل ثلاثين ألف مغربي أن يحل مشاكل ثلاثين مليون مغربي.

وحتى لا نكون متحاملين على وزيرنا الأول عباس، فمن المفيد أن نذكر ببعض مناقب الرجل. خصوصا في الفترة التي كان فيها سفيرا للمغرب بباريس بداية التسعينات. فقد صادف وجود عباس على رأس السفارة الباريسية صدور كتاب «صديقنا الملك» لجيل بيرو. وبمجرد صدور الكتاب ثارت ثائرة الحسن الثاني وكلف البصري بالبحث عن وسيلة لمنع وصول الكتاب إلى القراء. ولو كان الكتاب قد صدر في المغرب لكان الأمر سهلا بالنسبة للبصري، ولكان بنى تازمامارت جديدة خصيصا لمدير دار النشر وعمال المطبعة الذين صففوا الكتاب وطبعوه وكل من حمله أو وزعه أو اشتراه. لكن المشكلة أن الكتاب صدر في فرنسا، حيث لا يستطيع وزير الداخلية أن يمنع صدور الكتب. فما كان من البصري سوى أن كلف عباس الفاسي، سفير جلالة الملك، باقتناء كل نسخ «صديقنا الملك» التي يصادفها في المكتبات.

وبالنسبة لدار النشر التي أصدرت الكتاب فالأمر كان كما لو أنك ضربتي الكلب بشفنجة، فوجدوها من الجنة والناس وراحوا يعيدون طبع الكتاب بكميات وافرة. والمطبعة تطبع والسفارة تشتري، إلى أن فهموا في الرباط أن هذا الحل غير مفيد، لأنهم كانوا كمن يبول في الرمل.
وهكذا تفتقت عبقرية البصري عن حل جهنمي يلزم مدراء الشركات والشخصيات الوازنة وحتى بعض المواطنين العاديين بالتوجه إلى مقرات البريد وإرسال تلغراف غاضب لدار النشر يحتجون فيه على نشرها لهذا الكتاب المسيء لملك المغرب.

لابد أنكم كلكم قرأتم قصة عباس بن فرناس الذي كان أول إنسان طائر، وكيف أن أضلاعه تحطمت على الأرض عندما حاول الطيران من أعلى ربوة. فقد فكر عباس بن فرناس في الأجنحة لكنه نسي أن يفكر في القزيبة.

يبدو أن عباس الفاسي فكر في الوزارة الأولى ونسي أنه يجر وراءه فضيحة كبيرة لن تفارقه أبدا مهما حاول التملص منها وتنظيف قميصه منها بمساحيق ومنظفات الحزب. عباس شاف الربيع ما شاف الحافة. وأول ملف يجب أن يضعه فوق طاولته ويفكر له في حل هو ملف ثلاثين ألف مغربي ضحك عليهم عندما كان وزيرا للشغل. أما ملف ثلاثين مليون مغربي فالله يتولى أمرهم.

العومان فالبانيو

في كل الدول الديمقراطية يتوجه الحزب الذي لم يستطع إحراز الأغلبية في البرلمان إلى كرسي المعارضة. والمعارضة كما هو معروف في أدبيات الفكر السياسي هي أداة لمراقبة أداء الأغلبية الحاكمة في البرلمان. ولم نسمع قط في أي مكان من العالم الديمقراطي أن حزبا معينا فكر في عدم المشاركة في الحكومة وفضل العودة إلى المعارضة لكي يسترجع بريقه القديم الذي شحب بسبب كثرة استعمال «مساميره» في دواليب الحكومة. وكأن المعارضة أصبحت هي علبة السيراج الذي يحكه كل حزب على وجهه كلما فقد بريقه وبهت لونه. وعندما يضربون الشيتة جيدا في المعارضة ويلمعون صورتهم التي علاها الصدأ، سيرجعون للانتخابات أكثر لمعانا من «مسيو بروبر»، وهكذا سيحصلون على ثقة المواطنين من جديد.

هذا بالضبط ما يفكر فيه الاتحاد الاشتراكي هذه الأيام. وهناك أصوات من داخل الحزب تدعوه صراحة إلى أن يعود إلى كرسي المعارضة لإعادة بناء نفسه و«استرجاع إشعاعه». يعني عليه أن يعود إلى كراسي المعارضة في البرلمان ويخبط الطبالي على وزراء الحكومة، كما كان يصنع فتح الله والعلو أيام المعارضة المشهورة مع وزير المالية آنذاك، مطالبا إياه بتخفيض الضرائب على الشعب المغلوب، وعندما أخذ والعلو مكان وزير المالية فرض الضريبة حتى على بوربوارات نادلي المقاهي.

والحقيقة أن هذا الفهم السياسي للمعارضة هو أغرب فهم سمعته في حياتي. فالمعارضة لا تصلح في نظر هؤلاء «المعارضين السابقين» سوى لاسترجاع الإشعاع الضائع، واستعادة البريق المفقود. وكأن هؤلاء الرافعين للواء العودة إلى زمن خبيط الطبالي وتخراج العينين والكشاكش تحت قبة البرلمان لم يسمعوا بتلك الحكمة المغربية العميقة التي تقول «وجه الشارفة ما يخفى ولو تحكو بالحلفة».

وعندما نتأمل الرسالة التي يحاول بعثها هؤلاء المعارضون السابقون للملك عبر التلويح بإمكانية العودة إلى كرسي المعارضة، بحكم أن الملك هو المخول دستوريا باختيار الوزير الأول، نكتشف بأنهم في الحقيقة يخفون وراءها رغبة متحرقة للبقاء في الحكومة لخمس سنوات إضافية. وهم يذهبون في سبيل هذه الرغبة إلى حدود التهديد.

ولكي نفهم فحوى هذه الرسائل المبطنة دعونا نقرأ ما بين السطور في المقال الذي كتبه عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي عبد الرفيع الجواهري، الذي بالمناسبة فشل في المحافظة على كرسيه في دائرة المنارة بمراكش، والذي يتحدث فيه عن سحب البساط من تحت أقدام عبد الرحمن اليوسفي بعد انتخابات 2002. ويقول الجواهري «عين الملك محمد السادس السيد إدريس جطو، القادم من عالم رجال الأعمال، في الوقت الذي كان ينتظر فيه رجل ورع كعبد الرحمن اليوسفي الذي أحرز حزبه الأغلبية في انتخابات 2002، ينتظر مجازاته على النجاح الذي حققه كوزير أول على رأس تلك الحكومة في انتقال العرش من الملك الراحل الحسن الثاني إلى خلفه الملك محمد السادس، بطريقة سلسة لا يمكن أن ينكرها أحد».

يعني أن الاتحاد الاشتراكي هو الذي أنجح انتقال العرش، بشكل سلس وبدون مشاكل، من الملك الراحل إلى ولده. وعوض أن يكون جزاؤه الوزارة الأولى فإن الملك قرر أن يجازي اليوسفي بكلمة شكر مقتضبة وأن يرسله إلى بيته ليستريح ويضع مكانه رجلا قادما من عالم المال والأعمال.

ومع ذلك امتص الحزب هذه الصفعة السياسية التي سماها في بلاغه الشهير «الخروج عن المنهجية الديمقراطية».
ولعل ما يثير الاستغراب في مقال عبد الرفيع الجواهري هو قوله بأن هذا الخروج عن المنهجية الديمقراطية من طرف القصر، لأن ضمير المخاطب يعود عليه بالتأكيد، لم يستغلها الحزب لكي يقوم برد فعل سياسي، ولو قرر القيام بذلك، يضيف كاتب المقال، «لكان قد حشد من ورائه جل المغاربة».
حشد جل المغاربة ضد من يا ترى، ضد قرار الملك طبعا.

عندما قلت في عمود سابق بأن الاتحاد الاشتراكي يجيد عادة التقلاز من تحت الجلابة فإنني لم أكن مبالغا. هناك أشياء يريد قادة الحزب إيصالها إلى الملك مباشرة، لكنهم دائما يختارون لغة غامضة يختلط فيها الوعد بالوعيد. ولعل افتقار الحزب للجرأة السياسية في التعبير عن مواقفه ومطالبه هي التي أوصلته إلى الحالة التي يوجد عليها اليوم. أيام الراحل عبد الرحيم بوعبيد كانت لغة الحزب واضحة ولا مواربة فيها. عندما كان عبد الرحيم بوعبيد يقرر قول لا للملك فإنه كان يقولها له بالعلالي. وقد قالها للحسن الثاني في عز جبروته وأدى ثمنها من حريته عندما صوت ضد الاستفتاء وتبنى الآية التي تقول «السجن أحب إلي مما تدعونني إليه»، وذهب إلى سجن ميسور مرفوع الرأس. ومحمد اليازغي كان إلى جانبه آنذاك في المعتقل ويعرف التفاصيل.

آنذاك كان الحزب يقول لا ويعرف أن الشعب يسند ظهره. أما اليوم فنتائج الحزب في الانتخابات أظهرت أن الشعب أعطى للحزب ظهره بعد أن أعطاه في السابق صوته ولم يحسن الحزب استعماله.

لذلك فسؤال «المنهجية الديمقراطية» الذي يطرحه الحزب اليوم مجددا، لديه سبب واحد، وهو التفاوض عن طريق الكتلة للبقاء في الحكومة خمس سنوات أخرى والحصول على حقيبة الوزير الأول من داخل أحزاب الكتلة.
وقد فضل الحزب هذه المرة أن يطبق سياسة «سبق العصا قبل الغنم» حتى لا يفاجئه الاختيار الملكي كما وقع في انتخابات 2002.

وشخصيا أرى أنه ليست هناك لا مفاجأة ولا سيدي زكري. فالوزير الأول رسم ملامح الحكومة المقبلة قبل ستة أشهر خلال زيارته لباريس عندما قال أمام رجال المال والأعمال الفرنسيين بأن لا يخافوا من وصول العدالة والتنمية للحكم، لأن هناك احتمالا كبيرا لعودة الأغلبية الحكومية نفسها بعد الانتخابات.

فسيناريو الحكومة المقبلة كان مكتوبا سلفا، ولذلك وضعت وزارة الداخلية قانونا انتخابيا لا يسمح لأي حزب بمفرده أن ينال الأغلبية في البرلمان ويحكم لوحده.

سترون نفس الوجوه تعود لتتقاسم مقاعد المجالس الحكومية. سترونهم يتفاوضون بينهم حول الحقائب ويعطون الانطباع بأن الحكومة التي سيعلنون عنها هي حكومة جديدة. سيستمرون لخمس سنوات مقبلة يتبادلون الأدوار. مع العلم أن الغالبية العظمى للمغاربة لم يختاروا هذه الحكومة التي ستمثلهم.

اليوم قرأت خبرا في إحدى الجرائد يقول بأن الحكومة قررت أن تمنح رخص عمل لحوالي 2100 مغربي، فقلت إن وعود المرشحين بدأت تتحقق على أرض الواقع حتى قبل أن تتشكل الحكومة. لكنني عندما أنهيت المقال وجدت أن الحكومة التي تقترح كل هذه المناصب من الشغل على المغاربة ليست حكومة المغرب ولكن حكومة الأندلس بإسبانيا.
مع أن حكومة الأندلس لم ينتخبها المغاربة ولم يصوتوا على أي وزير فيها، إلا أنها تهز الهم لنا أكثر من حكومتنا التي ندفع رواتب وزرائها من ضرائبنا.

لقد فرعو لنا رؤوسنا بضرورة استغلال هذه الفرصة التاريخية لممارسة واجبنا في التصويت، والذي تتبرع به علينا الدولة مرة واحدة فقط كل خمس سنوات. لكن الدولة في غمرة مطالبتنا بالقيام بواجبنا تنسى أنها هي الأخرى لم تقم بواجبها الوطني معنا في أحيان كثيرة.

الدولة لم تقم بواجب ضمان تعليم عمومي فعال وقوي لأبناء الشعب، وتركتهم اليوم بين أيدي تجار المدارس الخصوصية، وبين أيدي البعثات التعليمية الأجنبية.

الدولة لم تقم بواجب ضمان نظام رعاية صحي عمومي للمواطنين، وسكتت عندما كتبت كل الصحف عن المواطنين الذين يموتون أمام أبواب المستشفيات العمومية بسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليف الدخول إلى المستشفى، وتخلت عن متوسطي الدخل منهم لصالح جزاري المصحات الخاصة.

الدولة لم تقم بواجب ضمان عدالة صارمة ومستقلة للمواطنين. وبالمقابل ضمنت للمحظوظين من أبناء الوزراء السابقين إفلاتا محترما من بين أيديها. ويكفي أن نتأمل الحكم الذي أصدرته المحكمة ضد مريم بنجلون في قضية المخدرات، خمسة وعشرون يوما نافذة. يحيا العدل. لو كان اسم المعتقلة هو مريم بوخرواعة لحصلت على عشر سنوات سجنا بحال اللعب.

لذلك فقبل أن تعطينا الدولة اليوم الدروس المستفيضة حول الواجب الوطني، فيجب أن تبدأ بنفسها أولا، وتتساءل بكل صدق هل قامت بواجبها الوطني كدولة أمام المغاربة.

لقد كانت كل وسائل الإعلام يوم الاقتراع منشغلة بتتبع نسبة المشاركة وألوان الأحزاب الفائزة والساقطة. ونسي الجميع خبرا مريعا كانت تبثه القنوات الإسبانية في ساعة الذروة مرفقا بصور لجثث ثمانية شبان مغاربة تطفو بالقرب من شاطئ جزيرة من جزر الكناري. ليس كون الشبان المغاربة الثمانية قد ماتوا غرقا هو المريع، ولكن كونهم غرقوا لأنهم اعتقدوا أنهم وصلوا إلى اليابسة فنزلوا إلى الماء في الظلام وغرقوا على مبعدة عشرات الأمتار فقط من الشاطئ.

أحيانا يعتقد المرء أنه وصل إلى جنة الديمقراطية بمجرد ما يلمح أضواءها اللامعة، لكن عندما ينزل لكي يبلغها يجد أن المياه تحته كانت أعمق مما تصور.

لذلك فمن الأحسن دائما قبل الإبحار نحو الديمقراطية تعلم السباحة. واللي موالف يعوم فالبانيو يعوم فالبانيو.

2007-09-11

الوجبة المسمومة

يظهر أن كثيرا من السياسيين المشاركين في الانتخابات لم يستوعبوا جيدا الرسالة التي وجهها إليهم الشعب المغربي الجمعة الماضية. وفي الوقت الذي كان يجب على هؤلاء السياسيين الحزبيين أن يعترفوا بأن عزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات هو تصويت صريح وواضح في حد ذاته، بدؤوا يلقون باللائمة على الشعب الذي لم يتجاوب مع برامجهم الانتخابية ولم يكلف نفسه مشقة التحرك إلى مكاتب التصويت للقيام بواجبه الوطني. حتى أن هناك جريدة مستقلة كتبت يوم الاقتراع أن الامتناع عن التصويت جريمة لا تغتفر. وعلى هذا الأساس فهناك اليوم ملايين المجرمين المغاربة الذين قرروا التخلي عن القيام بهذا الواجب الوطني، ويجب على شكيب بنموسى وزير الداخلية أن يفتح تحقيقا تمهيدا لاعتقالهم بتهمة الإخلال بالواجب الوطني.
هناك زعماء حزبيون آخرون لم يجدوا تبريرا آخر لفشلهم في الانتخابات سوى القول بأن الشعب لم يتجاوب مع مشروع الجيل الجديد من الإصلاحات الذي تقدموا به في الانتخابات. ونسي هؤلاء الزعماء أنهم أتوا بجيل جديد من الإصلاحات ولكن احتفظوا بالجيل القديم من الصنطيحات.
وعندما سأل صحافي في قناة الجزيرة أحد هؤلاء عشية الإعلان عن هزيمتهم عن سبب هذه الهزيمة قال له أن حزبه ترشح في إطار الكتلة، وأن النتائج التي حصلت عليها الكتلة تضعه معها في المرتبة الأولى.
وهذا ذكرني بذلك الشاوش الذي ذهب لكي يطلب يد فتاة من والدها، فسأله هذا الأخير عن المرتب الشهري الذي يربح، فقال له الشاوش :
- أنا والقايد كانشدو تسعين ألف...
وهذه واحدة من أم المهازل في الحياة السياسية المغربية، أن ينتهي محمد اليازغي زعيم الحزب الذي كانت لديه أكبر قوة برلمانية قبل عشر سنوات، مختبئا وراء جلايل عباس الفاسي، الذي نجح بالكشيفة في العرائش. وشخصيا أعتقد أن لعباس الفاسي علاقة غامضة بالبحر ورجاله. ففي انتخابات 2002 استطاع حزبه أن يحصل على عشرات الآلاف من الأصوات بفضل هدية النجاة المسمومة عندما كان حينها وزيرا للتشغيل، ووعد عشرات الآلاف من الشباب بوظائف فوق بواخر في أعالي البحار. واليوم استطاع أن يعود إلى البرلمان بفضل أصوات بحارة العرائش، كما لو أن الرجل واقفة معاه عيشة البحرية الله يستر.
أحد المواطنين علق ساخرا عندما سمع وزير الداخلية وهو يتحدث عن العازفين عن التصويت ينطق نسبة المشاركة المتدنية بصعوبة بالغة، إلى درجة أن أسنانه العلوية كانت تطحن الأرقام والحروف فوق أسنانه السفلية فتخرج مقرشلة، وقال :
- حنا ماشي عازفين عن التصويت، حنا زاعفين أوصافي أسي بنموسى...
وقد لخص هذا المواطن الزعفان حكاية نسبة المشاركة المتدنية في اقتراع يوم الجمعة. وأجاب مكان الآخرين مدام فتحية بنيس نائبة نور الدين عيوش في جمعية 2007 دابا التي صرحت لإحدى الجرائد يوم الاقتراع بأنها تنتظر أن تصل نسبة المشاركة في التصويت إلى سبعين بالمائة.
وها نحن نرى أن مدام فتحية بنيس ربما كانت لديها دراية كبيرة في هزان مسؤوليات كثيرة لكن ليست لها دراية كبيرة فهزان الخط. لأن الذي وقع هو أن سبعين بالمائة التي كانت تحلم بها فتحية بنيس هي بالضبط التي لم تذهب للتصويت. ربما فقط تخلطت العرارم على مدام فتحية، فهم في جمعية دابا 2007 ظلوا يحسبون وحدهم، ولذلك فمن الطبيعي أن يشيط لهم.
والذين تابعوا الندوة الصحافية التي أعلن فيها وزير الداخلية عن نتائج التصويت، لا بد أنهم شاهدوا نبيل بنعبد الله وزير الاتصال مطويا على جوج في الصف الأمامي. فالرجل الذي كان يتحدث عن القضاء على سراق الزيت في التلفزيون كما لو كان بايغون المغرب الجديد، وكيف أنه رفع راية الحداثة وذهب لكي يغرسها في دائرة تمارة ليحرر سكانها من الخطر الذي يتهددهم، رأيناه جالسا بوجه بعثرته الحسرة وهو يرى مديرة مكتبه بوزارة الاتصال فتيحة العيادي تنجح في بنغرير مع مول التراكتور فؤاد عالي الهمة، بينما هو الوزير الذي يختار أي وقت يمر فيه في أي واحدة من قنواته الكثيرة لم يستطع أن يضمن مقعده البرلماني. وهذه سنة الحياة، ويوجد في بنغرير ما لا يوجد في الرباط.
أما أمينه العام مولاي إسماعيل العلوي الذي قال أنه ضحى من أجل الحزب وكلف على نفسه وذهب ليترشح في تاونات، فلم يكن حظه أحسن من حظ بنعبد الله. والغريب في أمر هؤلاء الزعماء والوزراء الذين قرروا ترشيح أنفسهم في دوائر لا يسكنونها أنهم لم يصوتوا على أنفسهم، لأنهم مجبرون قانونيا على التصويت في الدوائر التي يسكنون بها. وبعد ذلك يشتكي هؤلاء من عدم تصويت المواطنين لأجلهم. سيرو بعدا حتى تصوتو على روسكم عاد طلبو الناس يصوتو عليكم.
وعكس ما ذهب إليه وزير الداخلية الذي قال بأن نسبة المشاركة كانت دون المتوقع، فأنا شخصيا أعتقد جازما بأن الشعب المغربي صوت بكثافة وعبر عن اختياره السياسي بوضوح. لقد منح المغاربة أصواتهم بالأغلبية، أي بنسبة 63 بالمائة للحزب الأكبر في المغرب، والذي يحمل اسم «حزب الأغلبية الزاعفة».
هؤلاء الزاعفون عن الانتخابات صوتوا لصالح الرفض. ولذلك فإن ادعاء وزير الداخلية بأن هذه النسبة الضعيفة تحدث في دول كثيرة هي مجرد محاولة لقراءة رسالة الشعب من القفا. كما أن اتهام الأحزاب التي فشلت في الانتخابات للمواطنين بالتخلف عن أداء الواجب الوطني، هو مجرد محاولة للبحث عن مشجب يعلقون عليه خسارتهم.
الشعب المغربي صوت بكثافة، لكن دون أن يتحرك نحو مكاتب التصويت. وحتى الذين كلفوا أنفسهم الذهاب للتصويت ألقى منهم حوالي مليون مواطن ورقة بيضاء أو ملغاة.
نحن اليوم أمام برلمان صوت عليه ثمانية وثلاثون بالمائة فقط من المواطنين الذين هم في سن التصويت. وبين هؤلاء الثمانية والثلاثين هناك أكثر من ستين بالمائة في البوادي. أي أن أكثر من ستين بالمائة من الذين صوتوا هم أميون ولم يمسكوا قلما في حياتهم إلا داخل مخادع مكاتب التصويت يوم الجمعة الماضية.
أما ثلاثة وستون بالمائة من المغاربة فإنهم غير معنيين بهؤلاء النواب البرلمانيين الذين نجحوا في الانتخابات. وغير معنيين بالتشكيلة الحكومية التي ستخرج منهم، وغير معنيين باسم الوزير الأول الذي سيختاره الملك وسطهم.
إن هذه الانتخابات طبخة ستصيب الشعب عما قريب بعسر في الهضم. ولعل ما وقع لمراقبين وعناصر من الشرطة والقوات المساعدة بمكتب التصويت بمراكش يوم الاقتراع يخفي في طياته دلالات عميقة. فقد تسببت أكلة دجاج جلبتها الولاية لعناصر مكتب التصويت في تسميمهم بالكامل وانتهت بهم الوجبة المسمومة في غرفة الإنعاش بمستشفى المامونية.
على الأقل إذا لم تنفع هذه الانتخابات في شيء فإنها على الأقل نبهت المغاربة إلى خطر التسمم، خصوصا عندما يكون مصدره مركز تجاري مشهور كمرجان يعرف الجميع إلى أي شركة قابضة تعود أسهمه.
تعليقك على

2007-09-09

أصدقاء الأمس

صديقي الذي لم يكن يوما يحب السياسة أصبح هذه الأيام لا يتكلم إلا عنها. وبعد أن كان لا يستطيع التمييز بين ملف مطلبي وملف طبي أصبح اليوم يملك قدرة خطيرة على الحديث عن مطالب الطبقات الشعبية، وأصبحت له براهين وحجج تستطيع أن تزلزل أشد المحاورين تماسكا.

صديقي لم يكن في يوم من الأيام معتقلا سياسيا، فهو كان يحب الحرية أكثر من أي شيء آخر، ولذلك ظل طوال عمره حرا طليقا، ومع ذلك كتب عن السجن أحسن من الذين دخلوا إليه بسبب حبهم للحرية بشكل آخر.
صديقي أصبحت له مكانة مرموقة في المجتمع، ولشدة ما تعود على حفر اسمه بشتى أنواع الطرق كبرت له أظافر ومخالب حادة، وأصبح من المستحيل تنظيم لقاء تلفزيوني حول واحدة من قضايا الساعة، دون استدعائه. وبسبب حضوره الدائم في كل الأمكنة التي توجد بها كاميرات أصبح يطلع على شاشة التلفزيون أكثر مما يطلع إشهار الفوطة الصحية.

آخر مرة صادفته فيها كان خارجا لتوه من مقر إحدى الإدارات العمومية، وبيد قوية كأيدي الواثقين من أنفسهم صافحني وسألني عن أحوالي السياسية وعن آخر مقال سياسي قرأت وعن برنامجي السياسي لذلك اليوم. وبما أن أحوالي السياسية ليست على ما يرام هذه الأيام، وبما أن مطالعاتي السياسية لا تتعدى افتتاحيات الجرائد الحزبية التي تكيل لي الشتائم كل يوم، وبما أنني لا أملك حتى برامج التلفزيون لذلك المساء فبالأحرى أن أملك برنامجا سياسيا واضحا وخاصا بي، فقد اعتذرت منه وتذرعت بأنني كائن غير مسيس إطلاقا.

لكن صديقي لازال يتذكر جيدا مواقفي السياسية في الجامعة، وكيف كنا نمشي لأسابيع طويلة في مسيرات غاضبة احتجاجا على ثمن خبزة بائسة، ولذلك ضغط على يدي برفق كما لو أنه ليذكرني بهذا الماضي السياسي المخجل. فقلت له أنني شفيت بعون من الله، وأن ملفي السياسي عند الدوائر الأمنية أنظف من وسادة في فندق مصنف، وأنني لم أعد أثق في المشي خلف الأحياء وصرت أفضل بالمقابل المشي خلف الأموات في مواكب الجنازات، حتى إذا لم أكسب عطف الناس كسبت على الأقل الثواب من الله.

وبما أن وقت صديقي أصبح ثمينا ولا يسمح بإطالة الحديث، فقد ودعني وتمنى لي يوما سياسيا طيبا، وتمنيت له بدوري مستقبلا سياسيا سعيدا، ومضى كل منا في طريقه.

وفي المساء، عندما وضعت رأسي فوق الوسادة، تذكرت صديقي وفكرت قليلا في مستقبله السياسي السعيد الذي ينتظره. سيصبح وزيرا في الحكومة، سيصبح رجلا مهما. كلمة منه ستكون كافية لكي يرتعد منه موظفو السلالم الإدارية الشاهقة، ونصف كلمة منه ستكون كافية لكي يغمى على موظفي السلالم الواطئة. سيصبح لديه نفوذ في كل مكان، وهكذا سيشبه أخيرا حيوان الأخطبوط الذي كان مغرما بصيده بالغانجو في شبابه تحت الصخور البحرية التي كانت تقابل منزل والده القروي وبيعه للأجانب الذين يأتون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع على الشاطئ.

صديقي سيركب أفخم السيارات، هو الذي كان يركب حافلة الخط الوحيد الذي كان يصل قريته بالعاصمة. سيقطن أرقى الأحياء، هو الذي لم يسكن أبعد من حذائه. وستصبح له أيضا بطن سمينة، هكذا لن يسخر منه زملاؤه بعد اليوم بسبب سراويله الساقطة دائما عن محزمه النحيل.

لفرط حرص صديقي على احترام «النظام»، ابتعد طوال حياته عن الفوضى، لذلك صار تنفسه منتظما ودقات قلبه منتظمة ومشيته نظامية إلى أبعد حد. وبسبب نظامه الزائد عن اللزوم صار على أطفاله إذا أرادوا مشاغبته في البيت أن يطلبوا أولا ترخيصا قانونيا من طرفه.

كما أن صديقي لفرط مجاملاته تحول إلى منافق فوق العادة، وبسبب الإفراط في النفاق أصبح صديقي يحسب كل صيحة عليه، فانتهى مصابا بالقشعريرة المزمنة، وهكذا تشققت أسنانه في أكثر من مناسبة.

ولكثرة ولع صديقي بالخوض في الوحل اشترى محلا كاملا من الأحذية ذات العنق الطويل. وصار يصطاد في الماء العكر، ويتنقل مثل بطة متسخة من بركة موحلة إلى أخرى.

صديقي رجل وطني، ولذلك لم يفقد أي عضو من أعضائه في الحرب دفاعا عن الوطن، واحتفظ بأطرافه كاملة، بما في ذلك لسانه الطويل الذي لا يتوقف عن رواية البطولات. وبسبب ثقل النياشين والأوسمة التي على صدره صارت خطواته رزينة وكلامه رزينا، حتى خوفه القديم صار رزينا، ولم يعد ينبطح على بطنه كلما سمع صوتا غريبا، وإنما صار ينط من كرسي إلى آخر متأبطا حقيبة وزارية ثقيلة عوض البندقية القديمة التي غيرها من كتف إلى كتف.

ومن شدة استغراقي في التفكير حملني النوم، وحلمت أنني التقيت صديقي ذات يوم صدفة خارجا من مقر إحدى الوزارات. فمددت له يدي مصافحا فلم يستطع مد يده لمصافحتي. فقد تحول المسكين كله إلى بطن كبيرة واختفت يداه ورجلاه ورأسه وراح يتدحرج ككرة أسمال بين الطرقات. وعندما استيقظت مفزوعا من النوم، خفت على مستقبل صديقي السياسي ورحت أسأل عنه لأخبره بالكابوس. فأخبروني بأنني لن أعثر عليه لأنه منشغل هذه الأيام كثيرا بالبحث عن جهة عليا تحتضن مشروعه السياسي الطموح، وأنه بسبب ذلك يتدحرج بين مقرات الأحزاب، وأن بطنه ينتفخ أكثر فأكثر.

لشدة حب صديقي للسياسة أسس حزبا خاصا به يعفيه من مذلة تسول تزكية الأحزاب الأخرى، ولفرط تشبثه بمبادئ حزبه انخرط فيه بمفرده، ولكي يفسح المجال لنصف المجتمع للمشاركة في برامج الحزب أدخل معه زوجته وحماته. وعندما انتهت الانتخابات وتعب من الصراخ والشعارات حان الوقت لكي يجني ثمار نضاله السياسي المستميت، وذهب إلى مقر الحكومة ليتسلم حقيبته الوزارية. عندما سلموه الحقيبة علق عضويته من الحزب على مشجب دورة المياه وارتدى بيجامته ودخل إلى غرفة نومه وسكن إلى نفسه.

صديقي تغير كثيرا، إلى درجة أنني لم أعد أتعرف عليه بسهولة وسط مستنقع السياسة. في الواقع إنه لم يتغير، أنا الذي تغيرت نظرتي إليه، أما هو فقد كان دائما هكذا، الذي تغير اليوم أنه ظهر على حقيقته، هذا كل ما في الأمر

2007-09-06

هواء جديد

عادة التقلاز من تحت الجلابة أصبحت عادة متأصلة في ما ينطق به لسان حال الاتحاد الاشتراكي هذه الأيام. فعوض أن تخرج لها جريدة الحزب نيشان وتسمي الأشياء بمسمياتها تختار أسلوب حشيان الهضرة من تحتها. والواقع أن لسان الحزب الذي يقود ما يسمى بالكتلة يصبح طويلا عندما يريد ويدخل جواه عندما يريد، حسب أحوال الطقس السياسية. ومع اقتراب موعد الاقتراع أصبح هذا اللسان يتحدث بلغة الغوص لكي يوجه رسائل سياسية مفخخة لمن يهمهم الأمر.
لنتأمل حشيان الهضرة التالي مثلا «فكرة جديدة أبدعتها الفاشية الجديدة في المغرب وهي الدعاية ضد الزعماء الحزبيين بحجة أنهم كبار في السن، وهذه الحكاية السخيفة تنسى أن ما يحتاج إليه الشباب في المغرب هو الكف عن تكريس مظاهر الجمود والرجعية في الفكر أو الممارسة، مثل بروتوكول القرون الوسطى أو تقديس الأشخاص».
هذا الكلام ليس مقالا افتتاحيا من أرشيف جريدة المحرر، وإنما هو مقتطف من مقال صادر في جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي الأسبوع الماضي يتحدث كاتبه عن الفاشيين الجدد في المغرب.
من عادة الاتحاد الاشتراكي أن يخرج العتاد الثقيل، كما يقول العسكر، بمجرد ما يشعر قادته أن مواقعهم أصبحت في خطر. والعتاد الثقيل الذي تعتبره القواعد الخلفية للحزب فعالا هو موضوع الملكية. ولعل كاتب المقال عندما كان يتحدث عن البروتوكول الجامد والفكر الرجعي الذي يقدس الأشخاص لم يكن يقصد البروتوكول الملكي في بريطانيا أو بروتوكول الملكة بياتريس بهولندا، وإنما كان يقصد بالتحديد بروتوكول المملكة المغربية. وعندما يتحدث كاتب المقال عن الفكر الرجعي الذي يعود إلى القرون الوسطى والذي ينص على تقديس الأشخاص لم يكن يتحدث عن لويس السادس وإنما عن محمد السادس تحديدا.
لكن الجبن السياسي وعادة التقلاز من تحت الجلابة التي يجيدها الحزب كثيرا، منعته من توضيح الواضحات، ربما لأنه يعرف أن توضيح الواضحات من المفضحات. لذلك اختار أن يستغل موضوع الحديث عن مطالب الشباب المغربي لكي يدس هذه الجملة الاعتراضية كالسم في الدسم وهو يعرف أنها ستصل إلى من يهمهم الأمر.
نفهم من هذا الكلام أن الاتحاد الاشتراكي يريد أن يصعد من مستوى حملته الانتخابية برفع سقف مطالبه السياسية. نحن إذا أمام خطاب سياسي جديد لم نسمع بأن محمد اليازغي قد تحدث عنه خلال هذه الحملة، وبهذا المعنى فالاتحاد الاشتراكي يريد حذف الفصل الذي يتحدث عن شخص الملك كشخص مقدس، وإحداث ثورة جذرية في البروتوكول الملكي وإلغاء تقبيل يد الملك وأفراد عائلته.
إذا كنا نفهم اللغة العربية فهذا ما يظهر من فحوى المقال، أما إذا كان كاتبه يتحدث عن الملكية في أندونيسيا فليسمح لنا على هذا الخلط غير المقصود.
وقد كان أفضل للاتحاد الاشتراكي، الذي يريد أن يلعب دور البطولة على بعد أيام من الاقتراع، أن يكون جريئا ويعبر عن موقفه من الملكية بشكل واضح، مثلا على اليازغي أن يشرح للشعب المغربي ماذا يقترح كبروتوكول عوض البرتوكول الحالي الذي يراه لائقا بالقرون الوسطى. وهل مطلب فصل السلطة عن القداسة في ما يخص شخص الملك موقف يتبناه الاتحاد الاشتراكي وحده أم يتبناه معه حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية بحكم أنهم يجتمعون ثلاثتهم في الكتلة. أم أن الأحزاب الثلاثة متفقة فقط على اقتسام الحقائب الوزارية أما في ما يخص المواقف السياسية كلها يضرب على عرامو.
لحسن الحظ أننا لم نصب بالزهايمر بعد، ولازالت ذاكرتنا تحتفظ بمطالب الحزب بخصوص تعديل الدستور. هذا المطلب الذي كان الحزب يتخلى عنه فجأة بمجرد ما يحصل على حصته من الحقائب الوزارية. أكثر من ذلك، فقد قال اليازغي في أحد حواراته هذه السنة أن ما يقوم به الملك محمد السادس هو تماما ما كان الاتحاد الاشتراكي يناضل من أجله طيلة ثلاثين سنة. ولولا أن اليازغي لعن الشيطان لكان أضاف أن محمد السادس لديه بطاقة عضوية في الاتحاد الاشتراكي.
في الحقيقة مقال «الفاشية الجديدة» الذي نشره الاتحاد الاشتراكي بتوقيع الجريدة، يستحق أن يفتح حوله نقاش سياسي في وسائل الإعلام. فهذه أول مرة يتهم الاتحاد الاشتراكي، الذي شارك في الحكومة لعشر سنوات كاملة بحقائب حساسة كالعدل والتعليم والمالية، مباشرة البروتوكول الملكي بالتخلف والرجعية والقروسطوية. ويتهم الفصل الذي يضع الملك ضمن المقدسات بالفكر الجامد والرجعي. وربما نفهم الآن ذلك الشعار الذي رفعه الحزب مؤخرا مسنودا بتابعه الصغير حزب التقدم والاشتراكية، حيث يخيرون المغاربة بين الحداثة أو الرجعية. وقد كنا نعتقد أنهم يقصدون بالرجعية حزب العدالة والتنمية، إلى أن جاء مقال «الفاشية الجديدة» ونورنا وأضاف إلى لائحة الرجعيين البروتوكول الملكي والفصل 19 من الدستور.
ولعل من يقرأ بين سطور المقال سيتبين ملامح هؤلاء الفاشيين الجدد الذين يتحدث عنهم اليازغي وحزبه. تأملوا هذه التحفة مثلا «وآخر إبداع في دعاية الفاشية الجديدة هو ذلك الذي يروج لفكرة أن المواطن البسيط لا يريد السياسة ولا الأحزاب ولا البرلمان ولا الحكومة، إنه يريد فقط الشغل والخبز، ويقدم زعيم الفاشية نفسه (شكون هوا، الله أعلم) وكأنه «نظيف» جاء يخدم الشعب البسيط، بلا أغلبية ولا معارضة».
وارد جدا أن الكلام هنا موجه إلى وزير الداخلية المنتدب السابق فؤاد عالي الهمة، فهو المرشح المستقل الذي رفع شعار الكرامة والمواطنة، والكرامة أساسها الشغل أولا وأخيرا. وقد يكون المقصود أيضا هو الوزير الأول إدريس جطو الذي لم يأت إلى منصبه من الأغلبية أو المعارضة، والذي تضايق الاتحاد الاشتراكي من الانتقادات المبطنة التي وجهها لبعض وزراء الحزب، وليس جطو وحده الذي انتقد أداء هؤلاء الوزراء الذين لم يستطيعوا مسايرة الركب، وإنما الملك أيضا عبر صراحة في خطاب العرش عن عدم رضاه عن تسيير حقيبتين وزاريتين هما العدل والتعليم يوجدان لدى الاتحاد الاشتراكي منذ عشر سنوات.
وإذا كنا مخطئين في تحديد المقصود بهذا الكلام فإننا نتمنى أن يصدر اليازغي بيانا توضيحيا يشرح لنا بالضبط من يقصده بزعيم الفاشية. فنحن حقيقة حتى وإن اجتهدنا فإننا لن نصل إلى المستوى الذي وصل إليه في لغة الغوص.
ولعل كاتب المقال التحفة فكر في ترك رسالة هامة في آخر فقرة من مقاله، موجهة مباشرة إلى من يهمه الأمر، يتساءل فيها قائلا «متى كانت الديمقراطية بلا أغلبية ولا معارضة، متى كانت الديمقراطية بدون انتخابات وبدون برلمان وبدون حكومة. جواب الفاشية الجديدة واضح، إن كل هذا لا يصلح لشيء، ولا يبقى إلا وجه الحاكم الذي يستمد «شرعيته» مباشرة من الشعب».
مشكلة الاتحاد الاشتراكي أنه يلخص الديمقراطية في نفسه، إذا شارك في الحكومة وحصل على حقيبة الوزارة الأولى فالمغرب ديمقراطي، وإذا لم يشارك فهناك تراجع عن الخيار الديمقراطي ونكوص نحو الوراء وعودة إلى سنوات الرصاص.
وكأن المغرب لا يمكنه أن يحيا إذا لم يكن هناك حزب اسمه الاتحاد الاشتراكي. والحال أن المغاربة جربوهم لعشر سنوات كاملة وأثبتوا عن جدارة واستحقاق أنهم لم يكونوا في مستوى الآمال التي عقدها عليهم الشعب الذي منحهم أصواته، فخذلوه في العدل والتعليم والمالية والماء وغيرها من الحقائب التي ظهر أنها كانت أكبر من حجمهم.
يتهم الحزب من يسميهم بالفاشيين الجدد بأنهم يدفعون الناس للعزوف عن المشاركة في الانتخابات وذلك بتشويه الأحزاب وبخسها قيمتها. وينسى الحزب أن من شوه الأحزاب ليس شيئا آخر سوى قادتها، خصوصا عندما ظهروا أمام الرأي العام يتسابقون لترشيح أبنائهم وأخواتهم وقريباتهم وصديقاتهم للانتخابات.
لذلك يجب أن يعرف هؤلاء القادة أنهم فعلا كبار، لكن في السن فقط. لقد جربناكم طويلا وخذلتمونا في الأخير، ولذلك دعونا نجرب غيركم، هناك يسار آخر غيركم، ويمين آخر غيركم، ووسط آخر غيركم. أنتم لستم قدرا محتما علينا إلى الأبد. دعونا نتنفس هواء آخر غير هذا الهواء المستعمل الذي تجبروننا في كل مرة على استنشاقه. اذهبوا لترتاحوا قليلا اتركوا مقاعدكم لغيركم، غيروا الجو، فأنتم في أمس الحاجة إلى ذلك، ونحن أيضا.

2007-09-05

إنك ميت وإنهم ميتون

كان أول شخص انتظرت أن يحضر مراسيم دفن وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري هو الوزير الأول الاتحادي السابق عبد الرحمن اليوسفي. لأكثر من سبب، أولها أنه اشتغل معه في حكومة التناوب، وثانيا لأنه كان أول من كرمه بحفل الشاي في بيته عندما أعفاه الملك من منصبه. رغم الاعتراض الشديد لضحايا سنوات الرصاص وعلى رأسهم الراحل إدريس بنزكري الذي ستبقى صورته وهو واقف أمام بيت الوزير الأول محتجا بتلك اللائحة على صدره والتي كتب عليها فوق صورة اليوسفي «المهزلة» ماثلة في الأذهان إلى الأبد.

لكن لسبب معروف لا أحد من أقطاب اليسار ولا اليمين الذين كانوا يعرفون الطريق إلى دار البصري في طريق زعير أكثر مما يعرفون الطريق إلى بيوتهم، حضر جنازته. بل فضلوا جميعهم نشر بلاغ مقتضب صادر عن وكالة الأنباء الرسمية في جرائدهم الحزبية، والانشغال بالحملة الانتخابية. فهذه الجنازة جاءت في الوقت غير المناسب تماما، ومن الأفضل للجميع التصرف وكأن الأمر لا يعنيهم مطلقا. والحال أن جنازة البصري مناسبة حقيقية لطرح بعض الأسئلة المهمة حول السلطة ورجالها وأوهامها ومخاطرها.

يحلو لبعض السياسيين والصحافيين الحزبيين أن يطلقوا النار دائما على سيارات الإسعاف، وسيارة الإسعاف التي نقلت البصري من المطار إلى بيته واحدة من هذه السيارات التي تعرضت لإطلاق النار. ومعظم هؤلاء القناصة كانوا لا يستطيعون تصويب أقلامهم نحو البصري عندما كان يصنع المطر والشمس في سماء السياسة المغربية. وهم الآن يحاولون أن يجعلوا من البصري وحده المسؤول الأول والأخير عن ثلاثين سنة من الخيبات والخسارات والمواعيد الخاطئة مع التاريخ التي عاشها المغرب.

ولعل أحسن شرح سمعته للفترة التي قضاها البصري في الحكم هي تلك الحكاية التي سمعتها من فم أحد سائقي سيارات الأجرة، وتقول الحكاية إن شركة أمريكية لقياس أخطاء الزعماء والملوك حاولت أن تعرف حجم أخطاء ثلاثة زعماء في العالم، وهم الرئيس الفرنسي الراحل ميتران، والرئيس الأمريكي الراحل ريغان، والملك الراحل الحسن الثاني. ولقياس حجم الأخطاء فإن الشركة تعمد إلى إدخال الزعيم في صهريج وتلاحظ مستوى المياه. وفي حالة الرئيس الفرنسي فقد وصل مستوى المياه إلى الركبة، أما في حالة الرئيس الأمريكي فالمياه وصل مستواها إلى العنق وكاد يغرقه، فأخطاء ريغان كانت كثيرة بلا شك. وعندما وصل دور الحسن الثاني لكي يدخل في الصهريح لاحظوا باندهاش أن المياه لم تتجاوز كعب حذائه.

فاستغربوا كيف أن الملك الذي ظلوا يسمعون عن معتقلاته السرية وإطلاق جيشه للنار على المتظاهرين في الشوارع من أجل الخبز، لم تتجاوز أخطاؤه كعب حذائه. وبعد فحص دقيق سيكتشفون سبب عدم تجاوز مستوى المياه لكعب حذاء الحسن الثاني، فقد كان يحمله إدريس البصري فوق كتفيه، وهذا الأخير كان غارقا في المياه حتى الأذنين.

إن الذين يريدون إقناعنا بأن إدريس البصري هو الذي عرقل وحده مسيرة المغرب نحو التقدم والديمقراطية، إنما يريدون منا أن نقتنع بأن المياه في الصهريح لم تتجاوز حذاء الحسن الثاني لأن هذا الأخير كان بلا أخطاء.

إدريس البصري لم يكن سوى تلك الفوطة التي كان نظام الحسن الثاني يمسح فيها السكين. ولذلك فإذا كان هناك من نقد يجب أن يوجه فللنظام الذي أنتج إدريس البصري وأمثاله. ويعلم الله كم هم ورثته موجودون داخل كل الأجهزة، يطبقون بالحرف ما جاء في كتابه «رجل السلطة» الذي ألفه عندما كان يعطي دروسا في الجامعة، والتي كان في الحقيقة يأتي إليها ليختار الطلبة الذين سيأتي بهم إلى حظيرة النظام لكي يتربوا فيها، ومنهم طالب اسمه محمد معتصم أتى به ذات يوم إلى الرباط فأصبح مستشارا ملكيا.

لقد كتب إدريس البصري عن رجل السلطة كما يفهمه، ونسي أن يضيف فصلا في كتابه يتحدث فيه عن موت رجل السلطة. فهو كغيره من الجبابرة كان يتصور أنه لن يموت أبدا، وأن الحياة من دونه ستختل، لا محالة. إن الخطأ الذي يقترفه أغلبية رجال السلطة، وهنا نتحدث عن السلطة الحقيقية وليس سلطة الوهم التي تسلمها عبد الرحمن اليوسفي، هو أنهم ينسون رجلا مهما يجلس في الركن يدون كل شيء اسمه التاريخ. والتاريخ هو الذي يحكم على الجميع، وينصف الذين اغتصبت حقوقهم، ويعاقب الطغاة الذين يعتقدون أنهم سيظلون أحياء إلى الأبد.

ورجل السلطة غالبا ما ينسى هذا الرجل القابع في الركن والآخذ بصمت في تدوين شريط الأحداث بدقة متناهية.
لأن رجل السلطة يكون مأخوذا بجبروته، يترنح بفعل تأثير السلطة الذي يشبه تأثير النبيذ. وعندما يسكر رجل السلطة بنبيذ سلطته يحدث أن يعربد.

أغلب رجال السلطة في نظام الحسن الثاني أسكرتهم السلطة، واعتقدوا أنهم خالدون في مناصبهم. إلى أن مات الحسن الثاني وتزعزعت أركان المذبح الذي جرت تحته سيول من الدماء. آلاف الشهداء الذين ماتوا في الشوارع، آلاف المعتقلين ومجهولي المصير، مقابر سرية ظهرت فجأة وأخرى علنية كان يعلم بها الجميع. جاء الذين ظلوا أحياء إلى التلفزيون لكي يبكوا قليلا أبناءهم. مدوا أيديهم إلى جيوبنا وأعطوهم مقابلا ماليا لكرامتهم المهدورة. منهم من أخذ ومنهم من رفض.

واليوم يرى الجميع كيف وصل صندوق من باريس يحمل جثمان رجل كان بمثابة الغمد الذي يرتاح فيه سيف النظام. لقد كان البصري يد الحسن الثاني التي يبطش بها. وعندما تعبت اليد من البطش استعملها لمصافحة أعداء الأمس ودعوتهم إلى الجلوس حول نفس الطاولة الحكومية. وقبل الجميع الجلوس وصافحوا بعضهم البعض أمام أنظار الشعب. وعندما قرر الملك الشاب أن يتخلى عن منديل والده الملطخ بالدماء استدعاه الوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي، وصنع من أجله الشاي. فجاء رفاقه السابقون وصاحوا أمام بيته يا للمهزلة. بعد سنوات سيدخل أغلب هؤلاء اليساريين إلى مؤسسات رسمية وسيصنعون كل ما في وسعهم لجعل الجميع ينسى وقفتهم الغاضبة تلك من تكريم البصري بكأس شاي.

والشعب في كل هذه الحكاية، ما هي حدود مسؤوليته في ثلاثة عقود من ضياع الوقت في صراعات وتناحر بلا رحمة بين نظام مستبد يريد أن يحكم بمفرده بقبضة من حديد وبين معارضة حالمة ومتصلبة معزولة عن واقع الشعب تريد هي أيضا أن تحكم بالوكالة نيابة عن معسكرات أوربا الشرقية البعيدة بآلاف الكيلومترات عن واقع المغرب والمغاربة.

مسؤوليته ثابتة أيضا، بل إنه يتحمل النصيب الأكبر من هذه المسؤولية. لأنه سمح لرجل السلطة بأن يرقي نفسه إلى مصاف أنصاف الآلهة. السلطة عندما لا تجد من يكبحها ويلجمها ويرسم لها حدودها فإنها تتحول إلى آلة هوجاء تطحن كل ما تجده في طريقها.

وهذا ما حدث في مغرب الحسن الثاني بالضبط. لقد تحولت السلطة ورجالها إلى وحش كاسر يستعمل الخوف والرعب للحفاظ على النظام. ولعل المغاربة الذين عاشوا فترة حكم الحسن الثاني والبصري لا زالوا يشعرون بأنهم معطوبون نفسيا بسبب هذه الفترة العصيبة من حياتهم. شيء ما تم تدميره في داخل المغاربة، ولكي يتعافوا منه يحتاجون إلى جيل أو جيلين على الأقل.

إذن ليست هناك قراءة واحدة لموت البصري، بل هناك قراءات متعددة. هناك قراءة الذين كانوا يأكلون من يده، وعندما جرد من سلطته أصبحوا يعضون هذه اليد ويشتمونها. وهذا النوع من القراءة يحركه الإحساس بالذنب أكثر من أي شيء آخر. ثم هناك قراءة أعدائه الذين تحولوا فيما بعد إلى أصدقائه، وهؤلاء اختاروا الصمت، لأن الصمت هو أبلغ ما يعبر عن حيرتهم. وهناك القراءة المحايدة التي سيتكفل بها التاريخ.

لذلك فليس هناك ضحايا بالمعنى الموضوعي للتاريخ، بل هناك مسؤولون عن مأساة ما وقعت في بلد اسمه المغرب. مأساة شارك فيها الشعب بسماحه لرجل السلطة بتقديس نفسه، وشاركت فيها الطبقة السياسية بالكثير من الأوهام والقليل جدا من الواقعية السياسية، وشارك فيها النظام بتقديمه لمصلحته الخاصة في البقاء على مصلحة البلاد في التقدم.
هذه ببساطة شديدة القراءة التي خرجت بها وأنا أرى صندوق إدريس البصري ينزل إلى القبر، وأنا أستحضر الآية الكريمة التي يخاطب فيها تعالي نبيه الكريم «إنك ميت وإنهم ميتون». وكنت أتمنى أن يكون جميع رجال السلطة حاضرين لكي يروا جيدا المكان الذي ينتظرنا جميعا والذي سننزل إليه مجردين من النياشين والأوسمة والتيجان و الألقاب والسلط. وحدها أعمالنا سترافقنا إلى الحفر

2007-09-04

الفاشلون الجدد

قبل أيام بشرتنا وكالة المغرب العربي للأنباء بأن معدل سحب الجرائد في المغرب عرف قفزة نوعية لم يشهد مثلها من قبل. وأضافت بأن سوق الصحف في المغرب انتعش إلى درجة أن جريدة واحدة طبعت ما يزيد عن مائتي ألف لوحدها. والحقيقة أننا في جريدة المساء بقينا حائرين ونحن نبحث عن اسم هذه الجريدة المحظوظة التي تتحدث عنها وكالة الأنباء الرسمية ونشرة الأخبار بالقناة الثانية. بحثنا طويلا عن اسم هذه الجريدة، لكننا لم نهتد إليه. وسبب البحث هو أنه صادف أن طبعنا نحن أيضا في المساء ما يزيد عن مائتين وخمسين ألف نسخة. طبعا وكالة الأنباء الرسمية كانت تتحدث عن جريدة المساء، ولأنها تكن لها حبا عميقا فإنها لم تشأ أن تذكرها بالاسم، حتى لا تقدم إليها ربما دعاية مجانية هي في غنى عنها طبعا. الجريدة وليس الوكالة.

ستلاحظون أنه لا الوكالة ولا قصاصتها ولا تعليق الصحافي الذي أنجز الروبورتاج لنشرة أخبار القناة الثانية ذكر اسم هذه الجريدة التي استطاعت أن تحطم، بفضل ثقة قرائها، رقما كان إلى حدود الأمس ضربا من المستحيل. ونحن في المساء متعودون على تجاهل وسائل الإعلام الرسمية لنا، ومتعودون من وكالة الأنباء فقط على نشر بلاغات وزارة العدل وبلاغات وزارة التشريفات والأوسمة التي تذكرنا بالاسم عندما تتحدث بغضب عن «الأضاليل» و«الأكاذيب» التي ننشر.
لذلك فنحن لسنا غاضبين من هذا التصرف الصبياني، بالعكس، نحن سعداء. ونتمنى أن يستمر هذا التجاهل أطول وقت ممكن، لأننا لسنا محتاجين إلى اعتراف رسمي بقدر ما نحن محتاجون إلى المزيد من الاعتراف الشعبي الذي هو رأسمالنا الحقيقي.

وكان يمكن اعتبار هذه القصاصة التي تتحدث عن أرقام قياسية لسحب الجرائد في المغرب مجرد كلام عابر، لولا أن جريدة العلم الحزبية التي تمثل لسان حزب الاستقلال أرادت أن تقنع بضعة آلاف من القراء لا زالوا يقرؤونها أن ارتفاع سحب الجرائد سببه هو اهتمام هذه الجرائد بالانتخابات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المواطنين المغاربة مهتمون بالانتخابات أيما اهتمام. وهذا هو الكذب بعينه. لأنه لو كان سحب الجرائد قد ارتفع بسبب الانتخابات لكان ارتفع سحب الجرائد الحزبية التي تخصص أغلب صفحاتها لنشر وجوه مرشحيها ومرشحاتها. والحال أن سحب هذه الجرائد لم يتزحزح من مكانه سوى ببضع مئات من النسخ. أما المبيعات فلا أعتقد أن المغاربة أغبياء إلى درجة صرف درهمين ونصف فقط من أجل التملي بطلعة مرشحي هذه الأحزاب المنشورة صورهم على طول الجريدة وعرضها.

إنهم لا يريدون فقط بخس جريدة المساء حقها في ذكرها كأول جريدة في المغرب يصل سحبها إلى مائتين وخمسين ألف نسخة، بمبيعات وصلت إلى مائة وثمانين ألف، بل تريد الصحافة الحزبية أيضا أن تحشر نفسها ضمن هذا الإنجاز متحدثة عن الرقم القياسي الذي حققته «الصحافة الوطنية»، هكذا بصيغة الجمع، فكما يقول المثل «إذا عمت هانت». ونحن نتحداهم أن يكونوا مثلنا ويكشفوا عن أرقام مبيعاتهم في صحفهم لكي يرى القارئ حجم مشاركتهم في تحطيم هذا الرقم القياسي الذي يتحدثون عنه اليوم بفخر. فحسب علمنا فمشاركتهم الوحيدة كانت هي محاولتهم تحطيم مشروع المساء منذ ولادته، وليس تحطيم أي رقم قياسي.

لقد استمعت طيلة هذه الأيام إلى تعليقات السياسيين والحزبيين حول ارتفاع معدل سحب الجرائد، وقد حاولوا جميعهم ربطها باهتمام هذه الجرائد بالانتخابات، وهذا ما يفسر، حسبهم، اهتمام المواطنين بها عكس ما يروج له بعض «الفاشيين الجدد» كما سمتهم جريدة الاتحاد الاشتراكي.

ورغم تفاؤل جريدة الاتحاد الاشتراكي باهتمام المواطنين بالانتخابات فإن أرقام وزارة الداخلية تكشف أن هذه الانتخابات هي أبرد انتخابات سيعرفها المغرب. فكل التجمعات الخطابية التي نظمتها الأحزاب لم تستطع أن تجمع أكثر من ثلاثة وعشرين ألف شخص. أي أن ثلاثة وثلاثين حزبا كاملة، خمسة منها لم تبدأ حملتها بعد، لم تستطع أن تملأ ربع ملعب تافه لكرة القدم. كيف إذن سيهتم المواطنون بالانتخابات في الجرائد ويتجاهلونها على أرض الواقع.

وانطلاقا من تجربتنا المتواضعة في المساء فإن أكبر سحب وصلت إليه الجريدة كان بمناسبة نشر ملفات اجتماعية بالأساس لا أثر فيها لرائحة السياسة أو الانتخابات. وهذا ما ينفي ما ذهبت إليه الأحزاب من أن انتخاباتها هي التي رفعت معدل سحب الجرائد. كان أكبر سحب قمنا به هو 210 آلاف نسخة في العدد الذي تضمن ملفا حول الجنس الرخيص في الدار البيضاء، و250 ألف في العدد التي تضمن خبر وفاة إدريس البصري. وحسب علمنا فالجنس الرخيص والشذوذ لا علاقة لهما بالانتخابات. اللهم إذا اعتبر البعض خروج رئيس جمعية «كيف كيف» التي تدافع عن حقوق الشواذ الجنسيين بالمغرب، للتعبير على صفحات إحدى الجرائد يومين بعد نشرنا لملف الجنس الرخيص في الدار البيضاء، حملة انتخابية لصالح بعض الوزراء. فسعادة الرئيس الذي يطمح إلى جعل شواذ المغرب وسحاقياته متساوين في الحقوق والواجبات كما هو الحال في بعض الدول الأوربية، قال للجريدة بأن جمعيته تستفيد من دعم شخصيات نافذة في المغرب. كما دعا الوزراء المغاربة الذين يخفون شذوذهم الجنسي إلى امتلاك شجاعة الإعلان عنه كما يحدث في الدول المتقدمة، وأن يتحملوا مسؤولية اختياراتهم الجنسية.

هذا التصريح الصادم قوبل بالصمت من طرف الحكومة. ونحن في الحقيقة نريد أن نعرف هل حقيقة هناك وزراء شواذ يتسترون على «اختلافهم» الجنسي، أم أن رئيس جمعية «كيف كيف» يتحدث عن حكومة في بلاد أخرى. لكن عندما نعود إلى الحوار نجد أن رئيس الجمعية يؤكد أنه يتحدث عن المغرب بالتحديد.
فهل يصدر بلاغ حكومي ينورنا في الموضوع وينور معنا الرأي العام، أم أن الغموض سيستمر.
إن بعضا من مقاطعي هذه الانتخابات ينتمون إلى شريحة الشواذ. والحقيقة أن موقف الشواذ المغاربة من الانتخابات واضح جدا، فهم لن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع لأنه لا يوجد أي حزب يضع حقوقهم ومطالبهم ضمن برامجه الانتخابية. ليس هناك أي حزب، مهما كان تقدميا، استطاع أن يتعهد بضمان تحقيق مطلب صغير للشواذ. مع أنهم ليسوا محتاجين لهذه الأحزاب للدفاع عنهم، فرئيس جمعية «كيف كيف» قال في حواره مع الجريدة أنهم يتلقون دعما من جهات نافذة ومسؤولين كبار، ونحن نتحرق شوقا لمعرفة من تكون هذه الجهات النافذة وهؤلاء المسؤولون الكبار الذين يساندون الشواذ ويدعمونهم.
وإذا كان رئيس جمعية «كيف كيف» لا يريد أن يفصح عن الجهة التي تدعمهم، فإن الجهة التي تدعم «المساء» قد تم التوصل إليها أخيرا في زيارة عيادة قام بها وفد حزبي فيه أعضاء من الحكومة لأحد الشخصيات البارزة. فقد قال أحد هؤلاء الزعماء والنصر يلمع في عينيه أنه اهتدى إلى من هي الجهة التي تقف وراء «المساء»، إنها الحزب الشعبي الإسباني.

وقبل يومين كتب أحدهم في جريدته الحزبية يتهم رئيس تحرير المساء بـ«ضلوعه» في تيار البديل الحضاري، وقبله اتهموا مديرها بانتمائه إلى العدالة والتنمية، وعندما رأوا أن التهمة ليست على مقاسه قالوا أنه يشتغل مع الأمريكيين، وعندما تعبوا من هذه التهمة جربوا الحزب الشعبي الإسباني. ولو أنهم عادوا إلى كتابي «يوميات مهاجر سري» لوجدوا صفحات «غير مشرفة» حول رمز الحزب الشعبي خوسي ماريا أزنار، وبسبب هذا الانتقاد اللاذع لأزنار لم يقبل مدير مركز سيرفانتيس بالرباط تقديم ترجمته الاسبانية في مركزه لأن هذا الأخير كان عضوا في الحزب الشعبي الإسباني.
وحتى لا يتعبوا كثيرا في البحث عمن يقف وراء مشروع «المساء» سأفصح لهم عن السر، وسأكشف لهم الجهة التي تقف وراءنا وتدعمنا حتى يستريحوا ويريحونا من اتهاماتهم الخرقاء.

نعم إننا نحظى بدعم جهة نافذة وذات سلطة كبيرة في المغرب. لقد وقفت إلى جانبنا منذ البداية وشجعتنا على الاستمرار والتطور، ونحن مدينون لهذه الجهة بكل النجاح الذي عرفه هذا المشروع.

هذه الجهة لا توجد في الحكومة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجرائد الحزبية، ولا في الدولة كما هو الشأن بالنسبة إلى الجرائد المدللة التي تولد وفي فمها ملعقة من ذهب. هذه الجهة هي أنتم أيها القراء، وبفضل دعمكم ووقوفكم إلى جانبنا استطعنا أن نحطم هذا الرقم القياسي الذي يتحدثون عنه اليوم، والذي بالمناسبة يريد أن يحشر بعض «الفاشلين الجدد» أنفسهم فيه وينسبوا إليهم شيئا من بريقه، مع أن أرقام سحبهم ومعدلات بيعهم تدل عليهم وعلى فشلهم الذي يحاولون ستره بادعاء البطولات.
فهل عرفتم الآن من يقف وراءنا..

الذين يهمني رأيهم

كثيرون يسألون حائرين لمن أكتب، ولماذا أكتب كل صباح. البعض يعتبرني مواطنا صالحا يهتم بمشاكل أشباهه من المواطنين، وآخرون يعتبرونني خطرا عموميا، وسببا من أسباب هذه المشاعر العدمية التي بدأت تظهر علاماتها على وجوه المواطنين وسلوكياتهم.
لذلك فمن المفيد التذكير بملامح وأنواع المواطنين الذين أتوجه إليهم كل صباح بكتاباتي، والتذكير أيضا بملامح الذين لا أتوجه إليهم ولا يهمني أن يقرؤوا ما أكتب كل صباح.
الذين ينامون بلا مشاكل ولا يحتاجون وساطة الحبوب المنومة وملاعق المحاليل الصيدلية، الذين لا يحلمون بالكوابيس ولا توقظهم ساعة المنبه إلا بمشقة بالغة. الذين لا تهتز شعرة واحدة في رؤوسهم كلما اهتز مكان ما من العالم. الذين يبتسمون كلما شاهدوا نشرة أخبار فيها الكثير من الجثث والجرحى, الذين لا يمارسون أي نوع من الرياضات ومع ذلك تجد أعصابهم فولاذية كأعصاب المصارعين اليونانيين. الذين يعتنون بأسنانهم جيدا كل صباح، لأنهم يحتاجونها كاملة وناصعة في كل ابتسامة صفراء مرفقة بمجاملة كاذبة. الذين يملكون لكل كتاب النظارة المناسبة ولكل لقاء جماهيري ربطة العنق الملائمة والابتسامة الملائمة والتدخل غير المواتي تماما. الذين يقدمون التعازي دائما لأنهم لا يموتون أبدا، والذين يواظبون دائما على حضور حفلات التأبين لأنهم يتلذذون بتعداد مناقب الموتى، لأن هذا يطمئنهم بأن الشرور هي من نصيبهم ولا يزاحمهم عليها أحد. الذين يملكون أكثر من موقف في قضية واحدة. الذين لفرط تغييرهم لمعاطفهم أصبح لديهم دولاب كبير من المعاطف الحزبية، والذين لفرط تغييرهم لجلودهم انتهوا عراة بالكامل. الذين يجلسون دائما في الصفوف الأمامية والذين تلتقطهم عدسات المصورين دائما آخذين في التفكير مثل تماثيل الحكماء في المدن اليونانية. الذين يعطون التصريحات في كل مناسبة بأثمان معقولة، ويشرحون الأمور دائما بسبابات مرفوعة في الهواء وحواجب مقوسة كحواجب زعيم الحزب الكردستاني عبد الله أوجلان. الذين يبرمجون دائما أوقاتهم نكاية بأوقات الآخرين، ويبنون شهرتهم فوق أنقاض المتواضعين الذين اختاروا فضيلة الصمت.
الذين يملكون ما يكفيهم لكي يعيشوا حتى آخر يوم قذر من أعمارهم الطويلة، ومع ذلك يبحثون لكي ينغصوا على الآخرين عيشتهم النظيفة والقصيرة. الذين يتجولون بين كل التيارات بأفكار متخمة وقناعات مصطنعة. الذين لا يملكون غير حقارتهم يدافعون عنها في كل مناسبة، ولا يضيعون في دفاعهم المستميت هذا غير القليل من وضاعتهم. الذين ليست لهم مياه في وجوههم يدافعون عنها وليست لهم ذمم يحرصون على طهارتها. الذين لا يتعهدون أي نباتات في شرفات بيوتهم ولا يربون أي حيوان أليف في بيوتهم، لأن أزهار الشر التي تنمو في دواخلهم والحيوانات الضارية التي تتزاحم داخل أقفاصهم الصدرية تأخذ منهم كل وقتهم الثمين. الذين لا يذهبون إلى البحر مخافة أن تبتل مواقفهم الوسخة. الذين لم يكملوا تعليمهم إلى المستوى الذي يجعلهم قادرين على تركيب كلمة «وطن»، والذين بسبب ذلك بعثروا الحروف بلا رحمة فأصبح الوطن بسببهم عسيرا على النطق والعيش. الذين يدافعون عن قضايا المرأة برجولية نادرة في الخارج وينددون بأعداء الأمة في الداخل بصوت أنثوي خفيض وبنبرات أنثوية للغاية.
الذين لا يعلقون المرايا داخل بيوتهم مخافة أن تلتقي نظراتهم بوجوههم المخيفة فتفزعهم. الذين لم يحاربوا عدوا في حياتهم ولم يحرروا وطنا ولم يشاهدوا سلاحا طوال عمرهم غير بنادق الصيد المعلقة على حيطان بيوتهم الفسيحة، ومع ذلك يمرون في الاحتفالات الوطنية بالنياشين والأوسمة، ويستطيعون أن يحكوا عن الحرب أكثر مما يستطيع المقاومون الحقيقيون أن يفعلوا. أولئك المقاومون الذين ماتوا دون أن يغيروا نوع تبغهم ولا موجتهم الإذاعية ولا ماركة شرابهم الرخيص.
الذين لا حول لهم ولا قوة كلما تعلق الأمر بمصير الشعب في الشوارع والساحات، والذين يتحولون إلى وحوش كاسرة في القاعات المكيفة وأمام ميكروفونات الجرائد المأجورة. الذين ما إن تحتك مع أحدهم في الشارع حتى يستعرض أمامك لائحة طويلة بأسماء معارفه في الوزارات والدواوين. الذين يسكنون داخل المغرب عوض أن يسكن المغرب داخلهم.
هؤلاء لا أكتب لهم ولا يهمني رأيهم في ما أكتب كل صباح.
أكتب للذين لا ينامون إلا بعد أن يمر شريط طويل بأحداث يومهم أمام أعينهم، شريط بطيء وقاس يمر أمامهم فيصيبهم بالأرق ولا يركبون سفينة النوم إلا بعد أن يكونوا قد فاوضوا طويلا كوابيسهم المخيفة.
أكتب للذين ينامون بلا حراك وبصوت مطبق، بحيث لا تستطيع أن تميز بينهم وبين الجثث في مستودعات الموتى، رغم أن أعماقهم يقظة أبدا. أكتب للذين تفزعهم ضربات قلوبهم كلما اضطجعوا على الجانب الأيسر، والذين يستفيقون قبل ضربات ساعة المنبه بساعات. أكتب للذين كلما نشبت حرب ما في مكان ما من العالم أحسوا بالذنب بسبب أيديهم المسدلة مثل أيدي الجبناء. أكتب للذين يكرهون ابتسامات المذيعات البلهاء وهن يحصين أعداد القتلى والجرحى في انتفاضة ما من هذا الوطن العربي الجريح. أكتب للذين يمارسون رياضة الركض وراء الأوهام بلا توقف. أكتب للذين أعصابهم متلفة دائما مثل لعب الأطفال وأسنانهم في تساقط مستمر. أكتب للذين يملكون نظارة طبية واحدة تصلح لقراءة كل الكتب وتصلح لرؤية كل المواقع. أكتب للذين أعمارهم قصيرة مثل جبل الكذب ومواقفهم راسخة مثل الوشم على سواعد الريفيات. أكتب للذين يملكون معطفا واحدا يستعملونه في كل الفصول وربطة عنق واحدة تذكرهم دائما بحبل المشنقة. أكتب للذين حلقوا بجلد واحد لم يغيره شيء سوى شمس غشت على شواطئ البحر.
أكتب للذين يجلسون في الصفوف الخلفية دائما بحيث تعفيهم آلات التصوير والكاميرات من أضوائها الكاشفة، وفي المساء يعودون إلى بيوتهم بأيديهم في جيوبهم رفقة ظلالهم فقط. أكتب للذين لم يقدموا أبدا تصريحا حول قضية ولم يرفعوا سبابتهم يوما لطلب شيء سوى أمام زحام المحلات التجارية لطلب حليب لأطفاله. أكتب للذين لا يشيدون شهرتهم فوق أنقاض أحد ولم يشيدوا في حياتهم شيئا آخر غير قصور الرمال خلال لحظات شرودهم الطويلة.
أكتب للذين تنظر إليهم فتخيفك الصفرة التي على وجوههم ونحول أجسادهم، والذين إذا تكلموا تركوك بفم مفتوح من الدهشة ومضوا حسيري الرؤوس إلى الظل.
أكتب للذين يعيشون في وحدة قاسية ومع ذلك لا يستطيعون الحديث عن الغربة، لأن هناك من يعيش في ألفة دافئة ويستطيع أن يتحدث عن الغربة أحسن منهم بعد أن يستعيروا ألم الآخرين.
أكتب للذين تحتقرهم موظفات الاستقبال في الإدارات الفخمة، والذين يشكك الباعة في المحلات الراقية في طلباتهم مخافة أن لا يكون معهم ما يكفي لتسديد مشترياتهم. أكتب للذين لا يحتاجون أوراق هوية تثبت انتماءهم إلى هذا المغرب، لأن عيونهم تفضح عشقهم لهذا البلد. أكتب للذين تخذلهم عفويتهم أمام أبواب السفارات، الذين يخجلون من أنفسهم عندما لا يجدون في جيوبهم ثمن البوربوار فيتركون النقود فوق الطاولة ويغادرون خلسة مخافة أن تلتقي نظراتهم بنظرات النادل الذي يبتسم لفرط تعاسته.
أكتب للذين يقفون أمام المستشفيات العمومية متأبطين الصور الإشعاعية لصدور آبائهم المخنوقة والملطخة بالألم. أكتب للذين لا يملكون ما يسددون به ثمن التحاليل الباهظة، والذين يملكون بالمقابل ما يكفي من دموع تحت الأغطية عندما ينصرف الجميع إلى النوم.
أكتب للذين يرتبكون عندما يسعلون في مقصورة القطار مخافة أن يكتشف الآخرون أن مكانهم الطبيعي يوجد فوق سرير أبيض في مستشفى الأمراض الصدرية وليس فوق مقعد في مقصورة قطار.
هؤلاء يهمني رأيهم كثيرا، لأنني أكتب لهم كل صباح.

2007-09-02

أحلام المواطن بوبليغ

في الوقت الذي يستعد فيه السادة الوزراء لمغادرة كراسيهم الوثيرة، يجلس المواطن «بوبليغة» مفكرا في طريقة لعرض خدماته على الحكومة المقبلة. فسيرته الذاتية حافلة بالتجارب التي من الممكن أن يستغلها المسؤولون لخدمة هذا الوطن. وشهاداته، بما فيها الطبية، كثيرة. وربما حان الوقت لإنزالها من الجدران وإخراجها من إطاراتها وتخليصها من خيوط العنكبوت وتقديمها داخل ملف أنيق يليق بمواطن صالح مثله. فهو في نهاية المطاف لم يمزق سراويله فوق كراسي مدرجات الجامعات لتنتهي شواهده معلقة جنب آية الكرسي في صالون البيت
لهذا السبب فهو مستعد اليوم لتحمل جميع المسؤوليات الجسيمة أو السهلة أو حتى التافهة، فكل شيء في سبيل الوطن يهون، بما في ذلك الكرامة.
لذلك فالمواطن «بوبليغة» مستعد لتقبل جميع العروض، من وزير منتدب ووزير متدرب، إلى وزير سابق أو عضو في أحد الدواوين، غير الشعرية طبعا، أو سفير في أفغانستان، أو قنصل عام أو شرفي أو هما معا، أو كاتب دولة، أو كاتب عمومي. يعني أي شيء لا يحتاج سوى للصنطيحة وربطة العنق الفاخرة.
وبما أن الحكومة المقبلة لم تتشكل بعد، فإن المواطن «بوبليغة» خريج مدرسة القناطر والطرق، قنطرة واد شراط والطريق التي تعبر فوقها تحديدا، يقترح إحداث حقيبة وزارية جديدة اسمها وزارة التصنطيح، وأظن أنه سيكون أهلا لها وسيكون في مستوى الآمال التي سيعقدها عليه الشعب المغربي، على الأقل لن يكون أسوأ من الذين سبقوه في التصنطيح.
صحيح أن المواطن «بوبليغة» لم يعتقل في درب مولاي الشريف بسبب السياسة، ولم يعش سنوات الجمر، لأنه كان منغمسا في سنوات الخمر. لكن سبق له أن اعتقل عندما طالب بوظيفة عندما تخرج. صحيح أنه لم ينخرط طيلة حياته في أي تنظيم سياسي ممنوع، لكن سبق له أن انخرط في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لحضور فاتح ماي إلى جانب بطاليي المغرب والاستماع إلى خطبة الزعيم النقابي الخالد الذي وصف أعضاء الحكومة باللصوص وذهب إلى السجن قبل أن يخرج وينسى ما قاله ويجلس معهم من جديد وكأن لا شيء حدث.
صحيح أنه لم يصدر في حقه حكم بالإعدام ولا مرة واحدة، لكن صدر في حقه حكم بالعيش مدى الحياة في المغرب، وهو حكم لا يقل قسوة عن الأحكام السالبة للحرية.
صحيح أنه بلا خبرة سياسية، لكنه يجيد فنون الطبخ، وبما أن لكل حزب مطبخه الداخلي فإن وصفاته صالحة للتطبيق على كل الموائد، بما في ذلك الموائد المستديرة للاجتماعات الحكومية.
صحيح أنه لم يكن مقاوما ولم يطرد الاستعمار مثلما يدعي حزب الاستقلال، فالاستعمار للأسف خرج قبل أن يولد المواطن «بوبليغة»، ولذلك فهو يتحسر عليه هذه الأيام ويتمنى فقط لو بقي لكي يكمل خيره ويصلح الطرقات التي شيد ويوسع قليلا تلك المستشفيات التي ترك ويرمم الثانويات التي بقيت تتآكل منذ ذهابه. فيبدو أننا بعد كل هذه السنوات من الاستقلال لازلنا محتاجين كثيرا إلى الحماية.
صحيح أنه لم يحترق بسنوات الجمر، التي تحولت إلى سنوات الخمر بعد أن سكر الجميع تحت تأثير ويسكي المرحلة الحالية. وصحيح أنه لم يكن منفيا خارج الوطن ذات يوم كما كان عبد الرحمان اليوسفي، وصحيح أنه لم يتلق أية مساعدة من أية جهة أجنبية مثل حزب البعث مثلا. لكنه مع ذلك عاش حياته كلها يشعر بنفسه منفيا داخل وطنه، والمساعدة الوحيدة التي ظل يتلقاها في سنوات محنته هي دعوات والدته بأن يخلصه الله من هذه البلاد قبل أن يصاب بالجنون.
صحيح أيضا أنه لم يخطط لأي انقلاب ضد أي أحد، ولم يحمل سلاحا في حياته غير المعوذتين وآية الكرسي. لكنه مع ذلك انقلابي في مزاجه ويحمل دبلوما عاليا في فن الرماية، وبفضل هذا الدبلوم رمى حتى الآن نصف أحلامه وراء ظهره لاستحالة تحقيقها على أرض الواقع.
صحيح أن والده ليس من عائلة كريمة وأن نسبه ليس شريفا ولا ينحدر من شجرة معروفة كأبناء أغلب الوزراء. وصحيح أنه لا يملك حسابا من العملة الصعبة في سويسرا يوفر فيه الدولار الأبيض لليوم الأسود، وليست لديه ضيعات تربى فيها قطعان البقر الهولندي ولا مراكب لصيد الأخطبوط في أعالي البحار. ولكن لديه بالمقابل حساب عسير مع بقال الحي، وحساب آخر أشد عسرا مع الجزار، ولديه ضيعات شاسعة من الأوهام ترعى فيها أفكاره ومشاريعه وتسمن على مهل. ولديه أسطول من المراكب الورقية التي يصنعها بنفسه ويتركها تسبح في حوض الحمام إلى أن تبتل وتغرق فيرتاح منها ومن مشاكلها ويذهب إلى النوم مرتاح البال.
وصحيح أنه لم يسبق له أن سرق صندوقا أو ميزانية، وليس قادرا حتى على اختلاس أوراق الدعاية من صندوق رسائل جاره. لكنه مع ذلك مستعد لكي يتعلم منكم، أنتم اللصوص البارعون الذين سرقتم بلادا بكاملها دون أن يفطن إليكم أحد.
صحيح أنه عصبي المزاج ولا يليق لحضور مجلس حكومي، فيما أنتم هادئون مثل القتلة.
صحيح أن أطرافه ترتعش بمجرد أن يتكلم معه أحد بنبرة حادة، فيما أنتم تعرفون كيف تحافظون على ابتسامتكم الصفراء حتى ولو بصقوا على وجوهكم السمينة.
صحيح أنه غير كتوم ومتسرع ويمكن أن يصفق باب الوزارة وراءه في أية لحظة، فيما أنتم متثاقلون وعميقون مثل بئر.
صحيح أنه بدوي وخشن ويأكل بفم مفتوح، فيما أنتم متمدنون وتجيدون الأكل بفم مقفل بإحكام وشهية مفتوحة للغاية.
صحيح أنه لا يجيد البروتوكول ومفكرته خالية من المواعيد الهامة، وليس لديه رقم أي مسؤول سام في هذه البلاد، لكن مفكرته مليئة بالمواعيد الغرامية التي يخرج منها بصداع حاد في الرأس وثقب كبير في الميزانية. وعوض هواتف المسؤولين لديه هواتف كل سائقي سيارات الأجرة، فهم أحسن من يمكن أن يعول عليهم الإنسان في ليل الرباط أكثر من أي مسؤول سام.
وصحيح أن هذه السيرة الذاتية لا تليق بوزير محترم في حكومة محترمة، لكن صحيح أيضا أن هناك أكثر من وزير في الحكومة تبدو معه هذه السيرة قلادة مرصعة بالدرر.
المهم في كل الأحوال أنه لا يسع المواطن «بوبليغة» سوى أن يقوم بواجبه الذي يمليه عليه ضميره في هذه اللحظات المهمة من تاريخ البلاد، وأن يعرض خدماته لصالح الوطن. وهكذا سيستمر في العيش خلال الأيام القادمة وهو يصحو وينام مرتديا بذلته الأنيقة وربطة عنقه، واضعا يدا فوق قلبه ويدا فوق هاتفه المحمول بانتظار المكالمة التي ستخلصه من البطالة.
فالظاهر أنه في هذه البلاد ما يلزم لتقلد المسؤولية هو الكوستيم والصنطيحة، أما الباقي فالقدرة الإلهية وحدها تتكفل به.