2007-11-07

موروس وكريستيانوس

خلال الأسبوع الأخير من شهر غشت تنظم في العديد من المدن والقرى الإسبانية احتفالات صاخبة وراقصة بمناسبة طرد المسلمين على يد المسيحيين من الأندلس.

مرة في السنة تعطي البلديات والإدارات العمومية عطلة مفتوحة للمشاركين في هذا الاحتفال للاستعداد لتجسيد دور المسلمين والمسيحيين في شوارع المدن والمحافظات. هناك من يختار دور المسلم بسيفه المعقوف ولحيته الطويلة ولون بشرته السمراء التي يستعينون بألوان الصباغة للحصول عليها، وهناك من يختار تجسيد دور المسيحي ببشرته البيضاء وسيفه الطويل المصنوع على هيئة صليب كبير.

في المحافظة التي كنت أعيش فيها متخفيا نهاية التسعينيات، كان الكثير من سكان المدينة الذين يفتخرون بدمائهم العربية القديمة التي تركها أجدادهم الذين استوطنوا الأندلس، يتسابقون لكي يلعبوا دور الموروس. وأذكر أن عمدة إحدى المحافظات بمنطقة أليكانتي كان يتفاخر بلعب دور الملك المسلم ويصرف على الاحتفال الذي يقام في مدينته مبالغ طائلة حتى تكون الألبسة العربية والزرابي المبثوثة في الطرقات أحسن من تلك التي سيعرضها الملك المسيحي.

وقد كانت احتفالات موروس وكريستيانوس إحدى أجمل الاحتفالات التي تابعتها طيلة ثلاث سنوات خلال وجودي بإسبانيا. ولكم أن تتخيلوا منظر مهاجر سري بلا أية وثيقة تسمح له بالتواجد فوق أرض أجنبية، يتابع احتفالا يروي جزءا من تاريخ أجداده الذين حكموا لثمانية قرون الأرض نفسها التي جئت لأعمل عند أصحابها.

كنت أرى نظرات الإعجاب على وجوه السياح الإنجليز والألمان وهم يفتحون أفواههم مندهشين من جمال أزياء الجنود المسلمين وهم يمرون راكبين خيولهم رافعين رايات مكتوبا عليها «لا غالب إلا الله». وكم مرة وددت لو أشرح لهم أنني أنحدر من سلالة هؤلاء الجنود، وأن أجدادي كانوا يحكمون هذه الأراضي قبل قرون خلت. لكنني كنت أعود وأقول بأنهم سيشكون في أمري وسيعتقدون أنني واحد من أولئك المغاربة المحتالين الذين يحترفون جذب السياح إلى الحديث لكي يسرقوهم فيما بعد.

وكم مرة تابعت الاحتفال وأنا أوزع بصري بين أزياء فيالق الجنود المسلمين والمسيحيين الذين يسيرون بالتناوب في الشوارع، وبين جموع المتفرجين بحثا عن أزياء رجال الشرطة المكلفة بالمهاجرين لكي أتبخر في الوقت المناسب.

وقد كانت غربتي في تلك اللحظات غربة مضاعفة، غربتي في أرض ليست أرضي، وغربتي أمام تاريخ يتحدث عن مجد قادم من الماضي أتابع مجرياته وكلي خوف من أن تلقي علي شرطة الأجانب القبض بتهمة العيش في حاضر بدون تصريح يسمح لي بذلك.

لماذا أتحدث لكم اليوم عن هذه الذكريات التي تعود إلى حوالي عشر سنوات؟ ببساطة لأن الزيارة الأولى لملك إسبانيا وزوجته إلى سبتة ومليلية جعلتني أفكر قليلا في القيمة التي يعطيها الإسبان للتاريخ، مقارنة بالتجاهل والتنكر الذي نبديه نحن في المغرب أمام التاريخ بانتصاراته وهزائمه، بأمجاده وخساراته.

الإسبانيون يصرفون ميزانيات ضخمة لتخليد حدث طرد المسلمين من الأندلس. فخلف الاحتفال وطقوسه هناك آلة جبارة لصناعة أدوات الاحتفال من ألبسة وبارود وأسلحة ومراكب لتجسيد وصول طارق بن زياد إلى الشواطئ الأندلسية. ومنذ عشرات السنين دخلت هذه الاحتفالات إلى الذاكرة الجماعية كمحطة تاريخية لتذكير الأجيال الصاعدة بالرواية الرسمية لطرد المسلمين من الأندلس.
لذلك يستحيل اليوم في إسبانيا أن تقنع أحدا بأن ثمانية قرون من التواجد الإسلامي على أرض الأندلس كانت كلها تعايش وسلام ومودة، لأن احتفالات كموروس وكريستيانوس والكثير من الأفلام السينمائية الإسبانية تقدم هذه القرون الثمانية من التواجد الإسلامي في الأندلس كاحتلال إسلامي لأرض مسيحية.

كما أنه يستحيل في إسبانيا اليوم إقناع أحد بأن سبتة ومليلية هما مدينتان تحتلهما إسبانيا. فالجميع لديه اعتقاد راسخ بأن المدينتين كانتا إسبانيتين منذ الأزل.

لقد طرد المسيحيون المسلمين من الأندلس بشكل مهين، حيث بلغ الخوف بالموريسكيين المطرودين أنهم وصلوا إلى سلا وفاس بعد أن بلغتهم إشاعات بأن الملك المسيحي سيتعقبهم داخل أرض المغرب لكي يقطع رؤوسهم بسيف يدعى إلى اليوم «ماطاموروس»، أي قاطع رؤوس الموروس. وهذا اسم عائلي لازال متداولا في إسبانيا بشكل عادي إلى اليوم.

وتخليد هذه الهزيمة التاريخية التي لحقت بالمسلمين إلى اليوم في احتفالات راقصة وصاخبة، وجميلة يجب أن نعترف، ليس من باب العبث أو إهدار الأموال العمومية.

إن الوطنية والاعتزاز بالانتماء إلى الأرض والتشبث بالهوية أشياء يتم غرسها في الأجيال الصاعدة عن طريق إعطاء التاريخ وانتصاراته وأمجاده قيمته الحقيقية في تدبير الشأن اليومي للشعب.

نحن أيضا طردنا الإسبان من الصحراء بشكل جعل مدريد تحس بالإهانة، خصوصا وأن الطرد تزامن مع احتضار الجنرال فرانكو. فالمسيرة الخضراء التي دعا إليها الحسن الثاني لازالت إلى اليوم تشكل عقدة نفسية للإسبانيين، بعد أن شاهدوا صور هروب جنودهم المسلحين عندما بلغ إلى علمهم أن 350 ألف مورو مسلحين فقط بالقرآن والرايات يمشون فوق رمال الصحراء ويقتحمون الأسلاك الشائكة.
فماذا صنعت الدولة بهذا الانتصار غير ملاحم غنائية سخيفة في التلفزيون، وماذا يعرف المغاربة عن المسيرة الخضراء خارج صورة عصمان وهو يلبس نظارتيه الواقيتين من العواصف الرملية حتى لا تتضرر مقلتاه. تقريبا لا شيء. وها هي ذكرى المسيرة الخضراء تمر دون أن تعني للمغاربة شيئا آخر غير عطلة رسمية يأخذونها مرة في السنة.

إن الوطنية الحقيقية ليست ردة فعل تحدث عند المواطن تحت الطلب. وليست غضبة عابرة في الزمن، وليست بيانا متشنجا يرسله البرلمان إلى سفارة دولة أجنبية. الوطنية شعور عميق تتعهده الدولة بالرعاية على مدار الأيام. وعلى هؤلاء الذين يطلبون اليوم من المغاربة أن يكونوا وطنيين أن يعطوا الدليل على وطنيتهم هم أولا.

جميل أن يقود فؤاد عالي الهمة رؤساء الفرق البرلمانية للاحتجاج أمام مصالح السفارة الإسبانية بالرباط ضد زيارة خوان كارلوس وعقيلته لسبتة ومليلية. لكن الأجمل منه كان سيكون هو أن يحمل مظروفا كبيرا يضع فيه أوسمة إزابيلا الكاثوليكية التي تسلمها قبل سنوات في مدريد كل من الجنرال العنيكري وحسني بنسليمان ومزيان بلفقيه، وفاضل بن يعيش (الإسباني من جانب أمه) وغيرهم من المنعم عليهم بهذا الوسام الذي يرتبط اسمه بملكة كانت وراء طرد أجداد هؤلاء المغاربة من الأندلس، ويسلم المظروف إلى السفير الإسباني.
إن قبول مغربي مسلم بوسام إزابيلا الكاثوليكية يشبه إلى حد ما قبول يهودي بوسام يحمل اسم هتلر. فالأولى طردت آلاف المسلمين من بيوتهم وجردتهم من ممتلكاتهم بعد إهانتهم بمحاكم التفتيش، والثاني طرد اليهود من ألمانيا وعذبهم في سجونه ومعتقلاته وسرق حليهم وذهبهم ومجوهراتهم.

وعلى كل هؤلاء الذين استفاقت فيهم الوطنية بشكل متأخر اليوم أن يعيدوا الأوسمة التي تسلموها من الحكومة الإسبانية، كما على الذين يحملون جنسيات إسبانيا أن يعيدوها ويكتفوا بجنسيتهم المغربية. آنذاك سيكون لكلامهم معنى. أما أن يمثل بعضهم أمامنا دور الوطني المدافع عن مغربية سبتة ومليلية بالنهار وفي المساء يذهب إلى إحدى المدينتين ليتمتع في باراتها بنبيذها الأحمر وشطائر الخنزير المجفف، فهذا ما لا يقبله الوطنيون الصادقون.

إن فكرة بنكيران التي طرحها في البرلمان حول تنظيم مسيرة خضراء إلى سبتة ومليلية تلاقي صدى عند بعض شرائح المجتمع المغربي. وشخصيا أراهن عبد الإله بنكيران أنه إذا تزعم مسيرة شعبية نحو سبتة ومليلية فإنه سيرجع منها في الغد وحيدا، لأن الجميع سيبقى هناك إلى حين إنجاز وثائق الإقامة. لقد شد انتباهي رأي أحد الشبان الذين سألتهم «المساء» عن موقفهم من زيارة خوان كارلوس لسبتة، فقال «صراحة لا تقلقني الزيارة وأعتبرها عادية، وكل ما أسعى إليه هو الالتحاق بأخوي في الديار الإسبانية».

بالإضافة إلى الموقف السائد في المغرب حول ضرورة استرجاع سبتة ومليلية هناك مواقف أخرى لا يقدمها الإعلام الرسمي، وهي مواقف المغاربة القاطنين بسبتة ومليلية والريف المغربي عموما من فكرة عودة المدينتين إلى المغرب.

أستطيع أن أقول بأن الأصوات المطالبة في صفوف مغاربة سبتة ومليلية بعودة المدينتين إلى المغرب تكاد تكون منعدمة. والسبب واضح «حتى قط مكايهرب من دار العرس».

هذا لا يعني أن المغرب يجب أن ينسى مطلبه التاريخي بعودة المدينتين، بل يجب أن يعمل على جعل الحياة في المناطق المتاخمة لسبتة ومليلية ترقى إلى مستوى احترام كرامة المواطن وحقه في العلاج والعمل والتعليم.

إنه لمخجل حقا أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نبعث نساءنا ليلدن في مستشفيات المدينتين، وأطفالنا ليدخلوا خيرياتها. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نقف على أبوابهما لتسول خبزنا اليومي. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية ونشاهد يوميا آلاف النساء يتعرضن على أيدي الموروس والكريستيانوس في شرطة الحدود إلى الإذلال والابتزاز والقهر من أجل علبة حليب مهربة تحت الثياب.

هذه الحيوانات التي تحكمنا

قبل حوالي عشرين سنة صدر في فرنسا كتاب ساخر عنوانه «هذه الحيوانات التي تحكمنا»، خص فيه مؤلفه «رامبال» كثيرا من الزعماء السياسيين بالنقد اللاذع، حيث أنه اجتهد في البحث عن الأصل الحيواني لكل رئيس أو زعيم أو ملك. فرسم مثلا الملكة إليزابيث وأخضع ملامحها لريشته الساخرة إلى أن وصل بعد خمسة رسوم أو ستة إلى الحيوان الذي يجلس رابضا وراء ملامح الملكة. وأعتقد أنه وجدها في الأخير نعجة.

أتذكر أنني استمتعت بالكتاب حين قرأت عنه وشاهدت صوره في أحد أعداد مجلة «المستقبل» المنقرضة والتي كانت تصل من باريس أيام ازدهار الصحافة العربية بها على عهد فورة البيترودولار.

أتذكر مثلا أن الإمبراطور هيروهيتو بجلالة قدره وجدوا أن أصله نملة، وميناحين بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي هزم العرب في كل حروبهم التي خاضوها ضده وجدوا أن أصله سحلية، أما الراحل ياسر عرفات فقد عثروا له في وجه الجمل على شبيه بعد أن وضعوا فوق رأس الجمل المبتسم كوفية فلسطينية وعقالا. وحتى لا يتهم أحد مؤلفي الكتاب، الرسام والصحافي، بالعنصرية فإنهما افتتحا الكتاب بجاك شيراك ورسموه بأنفه الطويل إلى أن استقرت ريشة الرسام الشقي على رأس ديك منفوش الريش ومنقار بارز يشبه أنف شيراك البارز.

وبعد صدور الكتاب حقق أرقام مبيعات قياسية، ولا زال معروضا للبيع على الإنترنيت إلى اليوم. في كل الديمقراطيات الحقيقية يصف الصحافيون ورجال الإعلام والأكاديميون رجال السياسة الأقوياء بالحيوانات السياسية. وطبعا فلقب «الحيوان السياسي» لقب لا يطلق على أي كان. وكما أن هناك «حيوانات سياسية» فهناك أيضا «حشرات سياسية» تعيش حيثما كان العفن والماء العكر.

الرئيس الفرنسي ساركوزي مثلا حيوان سياسي مفترس، فهو يتربص بطرائده بحذر وصمت، وعندما يطبق فكيه على ضحيته فإنه لا يطلقها إلا وهي ميتة. ولعل المتتبع لمسار ساركوزي السياسي سيلاحظ أن الرجل طور عبر مساره السياسي برودة أعصاب لا يتحلى بها سوى محترفي القتل الرمزي والسياسي. وهو عندما ألح وتوسل إلى صحافي «باري ماتش» أن لا ينشر صور زوجته سيسيليا التي تركته وذهبت إلى نيويورك عند عشيقها اليهودي المغربي المولود بالدار البيضاء، كان يصنع ذلك لكي يوقف موجة عاتية ستجتاح حياته الخاصة وتقتحم عليه غرفة نومه. لكن الصحافي نشر صور سيسيليا وهي تتبادل الحديث مع عشيقها، بينما زوجها كان يقضم أصابعه من فرط العصبية في مقر وزارة الداخلية بباريس. وزير داخلية يضبط أمن ستين مليون فرنسي ويعجز عن ضبط زوجته.

لكن انتقام الحيوان السياسي كان سريعا، فقد قام بمساع «حميدة» عند إدارة المجلة انتهت بطرد الصحافي الذي نشر الصور. فساركوزي لديه علاقات صداقة متشعبة مع مالكي شركات الإعلام الفرنسية، وعلى رأسهم صديقه الثري لاكاردير الذي يوجد على رأس إمبراطورية إعلامية أخطبوطية.

ولعل مؤلف كتاب «هؤلاء الحيوانات التي تحكمنا» يفكر في البحث عن الأصل الحيواني لنيكولا ساركوزي فإنه لا محالة سيعثر له في الثعلب على شبيه. فالثعلب حيوان ذكي، وقمة ذكائه تتجلى عندما تسقط رجله في المصيدة. وعوض أن يترنح من الألم بانتظار وصول الصياد لكي يجهز عليه ويسلخ فروته، فإن الثعلب يقضم الرجل العالقة بين أنياب المصيدة إلى أن يقطعها بأسنانه ويتركها وراءه في المصيدة ويهرب بما تبقى من جسده. وهكذا صنع نيكولا ساركوزي عندما رأى أن زوجته سيسيليا هي قدمه الجريحة العالقة في المصيدة. ومنذ أن صار رئيسا للجمهورية وهو ينزف على صفحات كل المجلات والجرائد بلا توقف. لقد قال ذات لحظة ضعف لأحد الصحافيين بأن سيسيليا هي مصدر تخوفه الوحيد. وعندما اقتنع بأنه إذا استمر في تحمل النزيف والبقاء أسير المصيدة فإن مصيره سينتهي كحيوان سياسي، وسيأتي من يصوب نحوه رصاصة الرحمة لكي يجهز عليه سياسيا. لذلك تخلى عن قدمه في مصيدة الزواج وأفلت بجلده وبكرسي الرئاسة.

الحيوانات السياسية غالبا ما تكون مفترسة، تتشبه بالسباع والضباع والفهود. لكن هناك نوع آخر من الحيوانات السياسية تختار الدهاء والمكر والخديعة، ومثلها الأعلى هو الذئب والثعلب. لكن هناك حيوانات سياسية أخرى تختار نفاق التماسيح. وعندنا في المغرب محميات طبيعية واسعة حيث ترتع هذه التماسيح السياسية وتعيش. ومعروف عن التمساح أنه عندما يلتهم ضحيته، يبدأ في ذرف الدموع. ليس حزنا على ضحيته وإنما لأن عملية الهضم المعقدة التي يقوم بها الجهاز الهضمي للتمساح تتطلب ذلك، أي أنه يبكي لكي يهضم ضحيته بشكل أفضل.

وفي المغرب هناك وزراء يوقعون على قرارات سياسية ضد مصلحة المواطنين وفي الغد يقفون إلى جانب هؤلاء المواطنين لكي يبكوا معهم.

والأمثلة كثيرة ومتعددة، فهذا وزير الماء سابقا محمد اليازغي يوافق على تفويت مياه العين الوحيدة بقرية بنصميم، وفوق ذلك يرسل مبعوثا صحافيا عن الجريدة التي يديرها لكي يكتب تحقيقا عن مأساة سكان القرية المنكوبة.

وهذا وزير المالية الاتحادي السابق فتح الله والعلو يعطي موافقته لمديرية الضرائب لاقتطاع ضرائب جديدة من رواتب المتقاعدين، وفي الغد يكتب أحدهم في جريدة الاتحاد الاشتراكي مقالا افتتاحيا يبكي فيه على هذه الضريبة ويواسي المتقاعدين الذين تستهدفهم.

وهذا عباس الفاسي الوزير الأول يتعهد بتشغيل ملايين العاطلين عن العمل في تصريحه الحكومي، في الوقت الذي لازال ثلاثون ألف ضحية من ضحاياه ينتظرون فقط أن يرد إليهم دماءهم التي أعطوها للتحليل وتكاليف الملف الطبي الذي تقاضته المصحة منهم. أما الشغل فهم يعرفون أن عباس الذي وعدهم به ظل هو نفسه طيلة خمس سنوات في الحكومة بلا شغل. وفاقد الشيء لا يعطيه.

وبالإضافة إلى التماسيح السياسية هناك في المغرب «جراثيم» سياسية تتكاثر حول جرح متعفن يسمونه السياسة يعرف الجميع أن الحل المتبقي لعلاجه هو اقتلاع الورم عوض دهنه بالمسكنات.

وكما أن هناك حيوانات تعطينا دروسا في الانتهازية والمكر والخديعة، هناك حيوانات أخرى تعطينا دروسا عميقة في الحياة. وبالنسبة للسياسيين فالحيوان المثالي الذي يجب أن يتعلموا منه الدروس هو الفيل. فهذا الحيوان أولا لديه ذاكرة قوية، والذاكرة هي أهم جهاز يجب أن يحافظ عليه السياسي، لأنها تجنبه لعنة النسيان. حتى لا يخطئ المعركة ويخلط الجلاد بالضحية، ويضع رجله في المكان الخطأ ويده في يد الحليف الخطأ.

ثانيا عندما يشعر الفيل بقرب نهايته يجرجر أقدامه الثقيلة إلى مقبرة الفيلة ويجثو على ركبتيه بانتظار النهاية. فهو يجنب أشباهه رؤية العجز الذي يصل إليه حيوان ينحدر من آخر سلالة الحيوانات الضخمة.

ولعل رجال السياسة عندنا يحتاجون إلى تعلم أخلاق الفيلة، بحيث ينسحبون إلى الظل بمجرد ما يشعرون باقتراب نهايتهم السياسية.
المشكلة أن أغلب «الحيوانات السياسية» عندنا مولعة فقط بتقليد الضباع والتماسيح والثعالب والقردة، لكن القليل منها يبدو معجبا بنموذج الفيل. فهم يصرون على البقاء في «الحديقة» يتفرج عليهم العابرون، إلى أن يأتي من يطردهم منها أو يجهز عليهم بطعنة غادرة في الظهر.
ما أحوجنا في هذه الظروف السياسية العصيبة التي يجتازها المغرب إلى كتاب مثل «هذه الحيوانات التي تحكمنا»، حتى نتعرف على الوجوه الحقيقية الخفية لهذه الحيوانات السياسية التي تتنكر لنا كل يوم في صورة بني آدم.

2007-11-06

سينيماهم على وجوههم

حسب مجلة «لوجورنال» التي أوردت الخبر، فالسينمائيون المغاربة، أو بعضهم على الأقل، طالع ليهم الزعاف مني. ويضيف محرر الخبر أن «الاتهامات» التي كتبت في عمودي «ما وراء الشاشة» في حق بعض السينمائيين دفعت بعض هؤلاء الغاضبين إلى التفكير في احتمال متابعتي قضائيا.

أولا أنا لم أصدر اتهامات في حق أي مخرج سينمائي، وإنما عبرت عن موقفي ورأيي بوضوح في ما يصورونه بفضل أموال دافعي الضرائب ويقدمونه على أساس أنه سينما. ثانيا إذا كان هؤلاء السينمائيون يعطون لأنفسهم الحق في التعبير عن أفكارهم في أفلام تمتد إلى ساعتين، وفي الوقت نفسه يريدون أن يكمموا فمي لكي لا أعبر عن أفكاري في عمود لا تتطلب قراءته أكثر من عشر دقائق، فهذا خطير بالفعل، ويدل على ضيق أفق هؤلاء السينمائيين وعدم إيمانهم بحرية التعبير والاختلاف.

ثالثا إلى سميتهم رجال ومزغرتين عليهم ماواتهم يتابعوني قضائيا. فأنا نيت توحشت المحكمة وشحال هادي ما مشيت ليها. وسأكون سعيدا بالوقوف أمام العدالة لكي أدافع عن رأيي في ما يقترفه بعض هؤلاء السينمائيين من أفلام يشوهون بها التاريخ ويسيئون بها إلى فن راق اسمه السينما.

ماذا قلت حتى يفكر هؤلاء السينمائيون في اللجوء إلى القضاء ضدي. أحدهم قال أنني «أتهمهم» بالجري وراء صندوق الدعم السينمائي الذي يوزع كل سنة مئات الملايين من الدراهم على المحظوظين منهم. لقد أحيانا الله حتى أصبحنا نرى كيف أن الحديث عن «طلب» الدعم أصبح يدخل في نظر بعض هؤلاء المخرجين ضمن إطار الشبهات والتهم. وأنت عندما تقول لمخرج أنه يطلب الدعم من المركز السينمائي فأنت في الحقيقة تتهمه.

أحدهم غضب لأنني قلت أن اليهود هم أول من اكتشف السينما واستعملها كسلاح للدفاع عن ذاكرتهم الجماعية. واعتبر هذه الشهادة، التي تحسب لليهود، تهمة في حقهم. فيبدو أننا في المغرب سنصبح مطالبين بعدم ذكر اسم اليهودي حتى لا يتم اتهامنا بمعاداة السامية. والمدهش في هذا الأمر هو أن اليهود المعنيين بالموضوع ساكتين وخوتنا المسلمين حاميا فيهم البيضة.

والشيء نفسه نلمسه عندما يتجرأ أحد اليوم ويتكلم عن المركز السينمائي المغربي ومديره نورد الدين السايل. فمن يتولى الرد مكانه هم مجموعة من أشباه الصحافيين والنقاد الذين يلتصقون ببعض الجرائد والمجلات مثلما تلتصق البراغيث.

وعندما كتبت أن السبب الرئيسي في اتجاه معظم المخرجين المغاربة إلى موضوع الجنس وهجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل بهذا الشكل المبتذل والسطحي، هو التوجيه الذي أعطاه مدير المركز السينمائي المغربي في مهرجان طنجة قبل سنتين في معرض دفاعه عن فيلم «ماروك» لليلى المراكشي، لم يناقشني أحد في هذه الفكرة. وكل ما ركزت عليه خربشات أولئك «الكتبة» الذين يتحدثون نيابة عن أسيادهم، هو الدفاع عن الجنس كموضوعة أساسية في السينما، واعتبار المخرجين الذين استعملوا هذه «القيمة» المضافة في أفلامهم أبطالا يستحقون التكريم.

وشخصيا أعتبر هذا النقاش الذي بدأ يظهر بعد صدور المقال، شيئا صحيا. فأنا دائما كنت أعتقد بأن الرأي الذي يخلق النقاش والجدل هو ما نحتاج إليه اليوم. وما أحوجنا إلى نقاش مفتوح في الصحافة حول إشكالية الصورة التي نريد صنعها عن أنفسنا من خلال السينما الوطنية. أما إذا كان بعض هؤلاء المخرجين يريدون المناقشة في قاعات المحاكم، فلا مشكلة لدي. شرط أن يسجلوا دعاواهم القضائية في محاكم المملكة المغربية، فأنا أعرف أن أغلب الغاضبين مني يحملون جنسيات دول أجنبية، وإذا سجلوا دعاواهم في بلدانهم «الأصلية» التي يفتخرون يوميا بجوازات سفرها الحمراء، فأخشى ألا أستطيع السفر لحضور الجلسات.

وعلى ذكر جواز السفر والسينما، لا أعرف إن كنتم قد شاهدتم الغلاف الأخير لمجلة «تيل كيل» الذي خصص بالكامل لياسمين، النجمة الصاعدة في سماء سينما البورنو بفرنسا ذات الأصل المغربي الريفي. فالإخوان في «تيل كيل» لم يكتفوا فقط بالدفاع عن أغلب أفلام مهرجان طنجة التي غرقت في الجنس، إنما فاتو الجنس لهيه عندما وضعوا على الغلاف امرأة إنجازها «الحضاري» العظيم الوحيد هو أنها تمارس الجنس أمام الكاميرا وتتقاضى ثمنه مسبقا.

قبل «تيل كيل» كانت مجلة «جون أفريك مغازين» سباقة إلى اكتشاف «نجمة» مغربية قديمة أواسط التسعينات، ونشرت صورتها على غلاف المجلة وقدمتها كأول مغربية تنحدر من وجدة تمارس البورنو بالعلالي.

وهكذا فبعد الغلاف الذي أفردته «تيل كيل» للشاذ جنسيا عبد الله الطايع لكي يدافع عن شذوذه، ها هي تكمل «خيرها» وتخصص غلافا بالكامل لفنانة «عظيمة» يتبول عليها زملاؤها «الفنانون» ويرمون فوقها حيواناتهم المنوية أمام ملايين المتفرجين، لكي تدافع هي الأخرى عن «فنها» السينمائي.

ويمكن أن تقضي هذه «الممثلة» وغيرها من الشواذ جنسيا كل حياتهم يشرحون لنا فيها العمق الفني لما يقومون به، ويفلسفون أمامنا اختياراتهم الجنسية، فذلك لن يغير شيئا من الصورة الحقيقية لما يقومون به. فنجمة البورنو ياسمين التي تقول في «تيل كيل» أنها تنام مع الرجال أمام الكاميرا لأنها تريد أن تحقق حلما قديما راودها منذ الطفولة، لا تفعل غير الضحك على من يستجوبها. فياسمين مثلها مثل غيرها من اللواتي يمارسن الدعارة المصورة لا يصنعن ذلك سوى من أجل المال. وما تقوم به ياسمين، التي قالت في «تيل كيل» أنها تتحمل مسؤوليتها الكاملة فيه، هو نفس ما تقوم به آلاف العاهرات، والفرق الوحيد بينها وبينهن هو أنها تقبل بتصوير خلاعتها فيما الأخريات يفضلن ستر الفضيحة.

والحقيقة أن الحوار الذي أجرته المجلة مع هذه «الفنانة» المغربية، مادامت تحمل جواز السفر المغربي والبطاقة الوطنية التي لا أحد يعرف من وضع لها فيهما مكان الشغل وظيفة «ممثلة»، حوار يستحق أن يعرض على خبراء التحليل النفسي لكي يدرسوه لعلهم يتوصلون إلى الأسباب الخفية التي تدفع البعض إلى الارتماء في أحضان الدعارة.

فالنجمة «ياسمين» التي كل موهبتها أنها تمارس الجنس بالمقابل طبقا للعقد الذي يجمعها مع أكبر منتج للأفلام البورنوغرافية في فرنسا، مارك دورسيل، لا تخجل من إعطاء النصائح للفتيات المغربيات حول الأخلاق والتقاليد، مع أنها آخر من يمكنه أن يتحدث عن الأخلاق.
ومن يسمع ياسمين تجيب على سؤال الصحافي العبقري الذي سألها عن النظرة التي تحملها عن المرأة العربية المغربية، يشك للحظة في كونه يستمع إلى إحدى الداعيات وليس إلى ممثلة يرى العالم بأسره خلاعتها المصورة، خصوصا عندما تقول «أجد أن فتيات اليوم متمردات، لكن هناك حدود لا يجب تجاوزها. يجب أن يتعلمن كيف يحافظن على تقاليدهن والقيم التي تعلمنها في الصغر، لأنه بدون ذلك فإنهن سيصطدمن مباشرة بالحائط. شيء جميل أن يتطورن وأن يكن عصريات، لكن بدون هذه المرجعيات فالحياة تفقد معناها».
يمكن أن نفهم هذا الانفصام في شخصية ياسمين، فهي تطلب من المغربيات أن يتشبثن بتقاليدهن وتربيتهن لكي لا يصطدمن بالحائط، وفي الوقت نفسه تعطيهم مثالا مناقضا لما تدعو إليه بممارسة الجنس بكل أنواعه الشاذة في الأفلام التي تعرض على القنوات الإباحية.
لكن بالمقابل ما يصعب على الفهم هو اختيار مثل هؤلاء «النجوم» البورنوغرافيين لوضعهم في غلاف مجلة تصدر في بلد يقول في دستوره أنه بلد مسلم.

عندما قلت في مقال «الشاشة وما وراءها» أن فيلم «ماروك» كانت وراءه أموال يهودية ثار في وجهي العديد من «الكتبة» واعتبروا كلامي مزايدة تدخل في إطار معاداة السامية. مع أن قراءة بسيطة لجنيريك الفيلم كانت ستكون كافية ليشاهدوا أسماء كل شركات الإنتاج اليهودية المساهمة في الفيلم، على رأسهم سيمون الباز، وأطال، وأدلين ليكاليي، وستيفاني كاريراس. كما أنني لن أضيف جديدا إذا قلت أن أغلب المنتجين العالميين المسيطرين على صناعة سينما البورنو في العالم هم يهود. وهذا لا يعني طبعا أنه ليس هناك مخرجون سينمائيون يهود متميزون ولديهم مواقف إنسانية راقية وينتقدون هذا التوجه المتوحش لسينما البورنو التي تراكم الملايير عبر تحويل المرأة إلى كائن جنسي لا يصلح سوى لتهييج المختلين جنسيا.

أرجو ألا يثور في وجهي هؤلاء «الكتبة» من جديد عندما سأقول أن مجلة «تيل كيل» التي «تمتعنا» بين الحين والآخر بهذه الأغلفة، يوجد وراءها يهودي آخر اسمه سيرفان شرايبر، يملك أغلبية الأسهم في شركة «بريس ديريكت» التي تصدر تيل كيل ونيشان.
أرجو ألا يعتبروا هذا الخبر سبة لليهود وتحاملا عليهم. ويكفيهم أن يراجعوا السجل التجاري بالمحكمة التجارية بالدار البيضاء لكي يعثروا على من يقف وراء هذا المشروع ويدعمه ويرعى خطه التحريري.

لصوص ولصوص

لا أعرف كيف يمكن أن يشعر المواطن بالأمن في هذه البلاد وهو يسمع بين يوم وآخر أخبارا عن تورط بعض رجال الأمن والدرك والجيش في جرائم اعتداء وسرقة ونصب على المواطنين.

وفي آخر أسبوع من رمضان الماضي تحدثنا في هذا العمود عن ذلك اللص الذي سرق بالقرب من عمارتي التوين سانتر مبلغ 300 درهم من سيدة وهرب، وعندما ألقى عليه رجال الحراسة القبض واقتادوه إلى مخفر الأمن اكتشفوا أنه واحد من الجنود العاملين ضمن وحدات «البلير» التي أتوا بها من الثكنات لتعزيز عمل رجال الأمن في الدار البيضاء.
ومباشرة بعد ذلك صدر قرار بفصله عن العمل، دون مراعاة الظروف الاجتماعية التي دفعت به إلى السرقة، ومنها أنه لم يتوصل براتبه طيلة ستة أشهر الأخيرة.

وقبل أسبوع صدم الرأي العام وهو يكتشف أنه بين أفراد عصابة متخصصة في سرقة السيارات من الناظور ووجدة ومكناس وتهريبها إلى الجزائر ودول إفريقية أخرى، هناك رجلا أمن. وقد وجهت لهم محكمة الاستئناف بسلا تهمة تكوين عصابة إجرامية والسرقة الموصوفة والمشاركة فيها وإخفاء أشياء متحصل عليها من جناية والنصب والمشاركة وعدد آخر من التهم التي تعودنا أن نسمع رجال الأمن يوجهونها إلى اللصوص والمجرمين الذين يعتقلونهم، فإذا بنا نكتشف أنها تهم أصبحت توجه إلى بعض رجال الأمن أنفسهم.
وقبل ثلاثة أيام بقيت فاغرا فمي مثل غيري من المواطنين وأنا أقرأ كيف أن الأمن فكك عصابة مسلحة بالسيوف والسواطير بسلا يتزعمها رجل أمن.

وقبل يومين وبالضبط أمام فندق حياة ريجنسي بالدار البيضاء قام لص بسرقة هاتف نقال كانت تتحدث فيه صاحبته، وأطلق ساقيه للريح. فبدأت الضحية بالصراخ فسارع المارة إلى اعتراض سبيل السارق وتم بالفعل توقيفه واستطاع المارة اعتقاله على مشارف مدخل المدينة القديمة، وثم تسليمه إلى مقر الأمن.

وهناك سيصاب رجال الأمن بالذهول عندما تحققوا من هوية اللص وحجزوا المسروق بحوزته واكتشفوا أن اللص ليس سوى عسكري دوزيام كلاس يعمل بثكنة القنيطرة، ويدعى (ع.ح). فتم تقديمه لعناصر دائرة الروداني المداومة وإحالته على الشرطة القضائية.
وبالأمس فقط حجز حراس مصالح المياه والغابات بخنيفرة شاحنة في ملكية مستشار سابق رفقة دركي مملوءة عن آخرها بكميات غير مرخص لها من خشب الأرز الممتاز. وعوض أن يكون الدركي أول من يوقف الشاحنة لمخالفتها لقوانين مصالح المياه والغابات، نكتشف أنه لا يوقف الشاحنة فقط وإنما يركب إلى جانب سائقها ليسهل عليه عملية المرور.

كل هذه الجرائم والمخالفات التي وقعت في الفترة الأخيرة والتي تورط فيها رجال أمن وعسكر ودرك، ليست مصادفة بريئة. وفي نظري فكل هذه الحوادث ليست سوى الأعراض التي تخفي المرض الحقيقي الذي تعاني منه كل هذه المؤسسات الحساسة التي يعهد إليها القانون حماية أرواح وممتلكات المواطنين، فينتهي بعض أفرادها إلى عكس الآية وتهديد أرواح المواطنين وممتلكاتهم.

مبدئيا لا يجب التساهل مع أي رجل أمن أو دركي أو عسكري يخل بالواجب المهني ويخون رسالته الاجتماعية والأمنية التي أدى من أجلها القسم أمام الله. ثانيا لا يجب فقط اعتبار هذه الحوادث شيئا معزولا وعابرا، لأن ما يقع أمامنا اليوم من تورط لبعض رجال الأمن والدرك والعسكر في عصابات للسرقة والإجرام ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج. أما السبب الرئيسي لما يحدث فيختفي تحت المياه الباردة والعميقة لهذه المؤسسات التي يلتهمها الفساد من الداخل كما تلتهم الدودة التفاحة المصابة بالسوس.

عندما نحاول أن ندافع عن رجال الأمن والدرك والعسكر غالبا ما نسمع بعض الأصوات التي تقول إن هؤلاء الذين ندافع عنهم اختاروا مهنتهم بمحض إرادتهم ولم يضربهم أحد على أيديهم لكي يختاروا البوليس أو الدرك أو الجيش. وإذا لم يعجبهم الوضع ما عليهم سوى أن يعلقوا الكسوة ويبحثوا لهم عن شغل آخر.

والواقع أن أغلب هؤلاء المغلوبين على أمرهم من بوليس ودرك وعسكر لا يريدون تغيير مهنتهم، ولكن يطالبون فقط بشروط مادية تضمن لهم ولأسرهم العيش بدون حاجة لمد اليد، وبحد أدنى من الاحترام من طرف مرؤوسيهم.

ولنا أن نتصور نفسية عسكري يتقاضى 1500 درهم في الشهر تقذفه إدارته إلى حي المعاريف بالدار البيضاء، حيث مستوى العيش يقترب من مستوى العيش في أوربا، وحيث أغلبية المراهقين يتحدثون في هواتف نقالة يساوي كل واحد منها راتب العسكري لثلاثة أشهر كاملة، وحيث زبناء المقاهي يتناولون مثلجات ثمن الكأس الواحد منها يعادل ثمن وجبة العسكري لأسبوع كامل.

أية قيمة سيشعر بها هذا العسكري وسط مجتمع لا مكان له فيه، وفوق هذا وذاك يطلبون منه أن يحمي أمن وممتلكات هؤلاء المواطنين. طبعا نحن لا نطلب منه أن يسرقهم لكي يقوم بتسوية وضعيته المادية، ولكن نتمنى أن يستحضر الجنرالات والكولونيلات الذين يعيشون في محميات أشبه بمحميات الإقطاعيين ويشغلون فيها الجنود فلاحين وخدما وطباخين وحتى ربات بيوت، ويرسلون جنودهم إلى كبريات المدن لحماية أمن المواطنين هذه المفارقات التي يمكن أن تتسبب للعسكري في خلق سلوك عكسي، فعوض أن يحمي يهدد، وعوض أن يحارب اللصوصية يتحول هو نفسه إلى لص.

وهذه المأساة لا تتوقف فقط عند البوليس والدرك والعسكر، وإنما تشمل أيضا حتى رجال الوقاية المدينة. وقبل أسبوع شبت حرائق مهولة في حي صفيحي بالدار البيضاء وعندما جاءت سيارات الإسعاف لكي تخمد الحريق اتضح أن هذه السيارات هي نفسها بحاجة إلى إسعاف، لأنها ببساطة كانت فارغة من المياه.

ولو فتحنا ملف رجال الوقاية المدنية بدوره لعثرنا على السبب الحقيقي لتذمر آلاف الإطفائيين الذين يعرضون حياتهم يوميا للخطر رغم الوسائل البدائية التي يشتغلون بها.

وفي مقابل الوسائل البدائية التي يشتغل بها هؤلاء الأبطال المنسيون نصاب حقيقة بالدهشة عندما نكتشف حجم وسائل العمل المريحة التي يتمتع بها الجنرال اليعقوبي والكولونيل بنزيان ورئيس مصلحة الوقاية محمد السلامي، بالإدارة العامة للوقاية المدينة بالرباط.

فسعادة الجنرال وضع رهن إشارته أسطولا كاملا من أحدث السيارات التي توجد بالمغرب، فلديه سيارة من نوع (بي إم دوبل في، أ 66099) وسيارة ميرسيديس زرقاء 82269 أ، وكات كات بورضو، ورونو لوغان، ووبوجو 605، وكليو آخر موضيل، هذا دون الحديث عن السيارات الأخرى التي وضعها رهن إشارة أبنائه بسائقها. وآخر سيارة أهدته إياها الإدارة بمناسبة مناقشته لرسالة الدكتوراه كانت هي بي إم دوبل في آخر صيحة ترقيمها هو 159386، ربما حتى الرئيس الفرنسي ساركوزي لا يملك مثلها. وقد كانت مناقشة الجنرال لرسالته بكلية الحقوق أكدال يوم 27 أكتوبر الماضي، مناسبة لكي يتفرج الطلبة على أسطول من أحدث السيارات التي يمتلكها مسؤولو الوقاية المدنية، ومن ضمنها سيارة الميغان التي يمتلكها الكولونيل بنزيان.

أما سعادة رئيس الوقاية السلامي فهو المدني الوحيد الذي يحتل سكنا وظيفيا مخصصا لرجال الإطفاء، فقط لأنه الكاتب المساعد لجمعية مستخدمي الوقاية المدنية.

وفي الوقت الذي يتمتع فيه هؤلاء بالسيارات الفاخرة والسكن الوظيفي والاشتراكات المجانية في الهاتف النقال، لا يجد رجال الإطفاء وموظفو الإدارة العامة حتى حافلات النقل الوظيفي لتوصلهم إلى إدارتهم. هذا في الوقت الذي تتوفر فيه الإدارة على حافلات «ميني بيس» تظل طيلة الوقت مركونة بالقرب من الثكنة قبالة مدينة العرفان.

وفوق هذا وذاك يتساءلون لماذا يتمرد رجال الأمن ولماذا يسرق العسكر ويتحول رجال الدرك إلى قطاع طرق. جانب كبير من الجواب عن تساؤلهم يكمن في الظلم الصارخ الذي يتعرض له صغار الموظفين على يد كبارهم. وزيرو السمطة شوية ولا غادي تدور عليكم السمطة.

وا أسفاه...

رأى كثيرون في حضور ولي العهد الإسباني وزوجته ليتيسيا إلى جانب الأمير رشيد في مراكش لتدشين المركز الثقافي سيربانتيس، رغبة في مد جسور التلاقح الثقافي والحضاري بين الضفتين. أما أنا شخصيا فقد رأيت فيه حبا من طرف واحد فقط. فقد كنت سأكون سعيدا لو أنني رأيت الأمير رشيد في مدريد يفتتح مركزا ثقافيا مغربيا لكي يكون لعشرات الآلاف من المهاجرين المغاربة وأبنائهم بيت مغربي صغير يذهبون إليه لإعارة كتاب أو مشاهدة شريط مغربي أو الاستماع إلى محاضرة أو ندوة.

حسب البنك المركزي الإسباني فالمغرب اليوم يوجد على رأس قائمة الدول التي تستقبل الأموال التي تغادر إسبانيا (حوالي 7000 مليون أورو سنة 2006). ورغم ذلك فإن الحكومة المغربية لم تفكر يوما في فتح مركز ثقافي صغير لهؤلاء المهاجرين في مدريد أو برشلونة أو إشبيلية، حيث عاش أجداد المغاربة حوالي ثمانية قرون. فهي تعتبرهم مجرد يد عاملة خشنة مهمتها الوحيدة جمع العملة الصعبة وإرسالها إلى الوطن. فالدولة ترى هؤلاء المهاجرين على شكل حوالات بريدية وليس كجالية لديها حقوق على الدولة، أبرزها الحق في الثقافة الوطنية.

لا يعرف المغرب كم يخسر على المستوى الاقتصادي عندما يرى الفرنسيين والإسبان والإيطاليين والإنجليز يتسابقون لافتتاح مراكز ثقافية في مدن المغرب، بينما هو يكتفي فقط بتسجيل أغنية تافهة وسخيفة مرة كل صيف ويذيعها على أمواج الإذاعة لكي يستقبل بها وفود الجالية المغربية المقيمة بالخارج.

إن واحدا من أخطر أنواع الجهل وأكثرها كلفة لاقتصاد المغرب هو جهل حكامه بأهمية الثقافة وقدرتها على تغيير مستقبل البلاد نحو الأفضل. وعندما نراجع قائمة أسماء وزراء الثقافة الذين تعاقبوا على الحكومات المغربية منذ 1955، سنلاحظ أن أغلبهم لا تتوفر فيه شروط وزير الثقافة كما هي متعارف عليها في الدول ذات الحضارات العريقة مثل المغرب. ووزارة الثقافة هي الوزارة الوحيدة في المغرب التي يمكن أن تسند حقيبتها إلى وزير غير حاصل على شهادة الإجازة، كما حدث مع الوزير السباق محمد الأشعري. أو إلى وزيرة غير حاصلة حتى على شهادة الباكالوريا، كما حدث مع السعدية قريطيف (ثريا جبران) وزيرة الثقافة في حكومة عباس، التي قالت للقسم الفرنسي في إذاعة روسيا خلال أول زيارة رسمية لها أن الحسن الثاني هو الذي عينها وزيرا للثقافة وستة وزيرات أخريات.
وقد ظلت وزارة الثقافة منذ حكومة البكاي تابعة لوزارة الصناعة التقليدية والسياحة والفنون الجميلة، حيث تختلط الثقافة بصناعة الشرابيل والطواجين. ثم انتقلت إلى مجرد مديرية في وزارة التعليم، إلى أن حصلت مع محمد الفاسي على استقلالها الذاتي وأصبحت وزارة قائمة بذاتها اسمها وزارة الشؤون الثقافية.

ولعل ما يكشف عن احتقار الدولة للثقافة في المغرب هو تخصيص صفر فاصلة خمسة من ميزانية الدولة لوزارة الثقافة. وهي ميزانية لا تصل حتى إلى مستوى الميزانية التي ترصدها إسبانيا أو فرنسا مثلا لمركز واحد من مراكزها الثقافية المنتشرة في المغرب.
والواقع أن أهم قطاع وزاري اليوم في المغرب يجب أن يحظى بأكبر اهتمام هو قطاع الثقافة. فالمغرب اليوم بلد لا ينتج شيئا مهما يستطيع أن ينافس به الأسواق العالمية. ليست لدينا ثروات طبيعية مهمة نستطيع أن نغزو بها العالم مثلما هو الأمر بالنسبة لبلدان أخرى. كل ما لدينا هو حضارتنا وثقافتنا المغربية التي تضرب في أعماق التاريخ. والحضارة والثقافة اليوم ليست فقط دروسا سخيفة في كتب التاريخ الذي يتم تعليمه للتلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات، من قبيل «وبنى مدرسة ومارستانا وسك النقود باسمه»، وإنما مشروع استثماري ضخم ترصد له ملايير الدراهم في الداخل والخارج.

إن جزءا كبيرا من السياح الإسبان الذين يختارون قضاء عطلتهم في مصر يصنعون ذلك بفضل ما يقوم به المركز الثقافي المصري في مدريد من أجل التعريف بالثقافة والحضارة المصرية، والذي افتتحه طه حسين في الخمسينات.

وقد قامت ضجة كبيرة في وجه طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف في الخمسينات وقرر فتح مراكز ثقافية مصرية في بعض العواصم الأوربية، وكان هناك بعض الجهلة من الذين اتهموه بتبذير أموال الدولة، فكتب رسالة يشرح فيها موقفه ويدافع فيها عن مشروعه، الذي ظهر اليوم كم كان رائدا وسابقا لزمنه.

والدولة المغربية عندما ترفض أن تفتح مراكز ثقافية في الدول التي لديها مراكز ثقافية أجنبية عندنا، إنما تحرم خزينة المملكة من عائدات ملايين السياح الذين كانوا سيكتشفون المغرب وثقافته وحضارته من خلال أنشطة هذه المراكز الثقافية التي ستصدر صورة المغرب وتبيعها للآخر.

المصيبة في المغرب أن القائمين على شؤونه ينظرون إلى قطاع الثقافة كقطاع معاق يستحق الصدقة. والواقع أنه القطاع الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ المغرب ويضمن له مكانة في المستقبل. فالحروب التي يعرفها العالم اليوم ليست سوى حروب ثقافية وفكرية، وكل دولة قوية تسعى إلى فرض هيمنتها على الدول الضعيفة بواسطة لغتها وثقافتها، وبعد ذلك يأتي الاقتصاد بسهولة أكبر.

يجب أن نفهم أن فرنسا وإسبانيا لا تتنازعان اليوم حول اقتسام المغرب لغويا وثقافيا عبر مراكزهما التي تتكاثر كل سنة، فقط من أجل سواد عيون المغاربة. وإنما هناك مصالح اقتصادية كبيرة جدا وراء هذا الاهتمام اللغوي والثقافي. فوراء فيكتور هيغو وألبير كامي هناك اتحاد المقاولات الفرنسية، ووراء سيربانتيس هناك فاديسا وشركات التدبير المفوض. والذي يعتقد أن الإسبان والفرنسيين والإيطاليين والإنجليز يصرفون ملايير الأورو لترويج لغتهم وثقافتهم في المغرب، إنما يصنعون ذلك لأننا «بقينا فيهم» فهو واهم ويحتاج أن يتأمل قرار حكومة الأندلس صرف مبلغ 300 مليون سنتيم لجريدة مغربية في طنجة فقط من أجل أن تصدر ملحقا أسبوعيا باللغة الإسبانية. وهذا المبلغ هو نفسه الذي تمنحه الدولة المغربية مرة في السنة كدعم لأكثر الجرائد اليومية انتشارا.

وعندما قرأت تصريحا بالأمس للسيدة السعدية قريطيف وزيرة الثقافة، وهي تتحدث عن اجتماعاتها المتكررة مع الفنانين والممثلين لتدارس الوضع الثقافي والبحث معهم عن حلول لمشاكلهم، اقتنعت بأن السيدة لم تفهم بعد ما معنى أن تكون وزيرا للثقافة. فهي تحصر الثقافة فقط في زملائها الفنانين والممثلين، وتعتقد أن مهمة وزير الثقافة هي عيادة الفنانين الذي يجرون عمليات جراحية في بيوتهم، أو السعي لطلب الرعاية الملكية لفنانين يشهرون شهادات الضعف في صفحات الجرائد في ما يشبه التسول.

في الدول الديمقراطية هذه الأشياء تتكفل بها النقابات وشركات التأمين، وليس هناك فنان في فرنسا أو أمريكا يبعث رسالة إلى رئيس الدولة يطلب فيها منه التكفل بصحته. لأن الصحة حق من حقوق الإنسان وكل المواطنين سواسية أمام هذا الحق، وليس لأنك فنان أو كاتب يجب أن يتكفل بك القصر من دون عباد الله الآخرين.

إن مهمة وزير الثقافة اليوم في المغرب هي أن يعيد الاعتبار لهذا الإرث الحضاري والإنساني الذي يندثر أمام أعيننا يوميا في مدن عتيقة وتاريخية يستحيل أن تجد لها نظيرا في أي مكان من العالم.

مدن عاش وعبر منها كتاب عالميون وعباقرة موسيقيون وثوار لازال مجرد ذكر اسمهم يثير الإعجاب. هل تعرف مثلا السعدية قريطيف أن الثائر تشي غيفارا نزل ذات يوم ضيفا على فندق باليما الذي يقابل البرلمان. ماذا كانت ستخسر وزارة الثقافة لو أنها أعادت تأثيث الغرفة التي نام فيها غيفارا ووضعت صوره على جدرانها وروجت لها في كتب السياحة العالمية. إن خصلة واحدة من شعر تشي غيفارا بيعت في مزاد علني قبل يومين بمبلغ 119 ألف دولار. وعشرات الآلاف من السياح سيتدافعون لقضاء ليلة واحدة في غرفة نام فيها تشي غيفارا ذات يوم في باليما.

وفي مقبرة منسية بالعرائش هناك قبر أعزل ومجهول لواحد من كبار الكتاب العالميين الذي بالمناسبة مثلت له فوق الخشبة ثريا جبران أحد نصوصه المسرحية حول فلسطين. إنه جون جوني. ولو عرف عشاق أدبه أنه مدفون في العرائش لزاروه بالمئات ولكانوا اكتشفوا بالمناسبة مدينة ساحرة اسمها العرائش لديها أروع سردين في العالم، وأسوأ نائب في البرلمان اسمه عباس الفاسي.

وفي طنجة عشرات البيوت التي استوطنها كتاب عالميون من الأمريكي تينيسي ويليامس وبول بولز، إلى محمد شكري الذي ترجم إلى ما يفوق عشرين لغة. والذي ظلت شقته مقفلة إلى أن وزع ورثته ممتلكاته وباعوها في الخردة.

وفي منطقة الديابات بالصويرة سكن جيمي هندريكس حوالي ثلاثة أشهر، وفي طنجة مر الرولينستونغ، وفي بجعد عاش الكاتب الفرنسي شارل دو فوكو، الذي لم يعر الحبيب المالكي ابن بجعد ذكرى هذا الكاتب أي اهتمام طيلة وجوده على رأس وزارة التعليم.

ومن المؤسف حقا أن لا نعثر في أي دليل سياحي على عناوين بيوت هؤلاء الفنانين والكتاب العالميين والأماكن التي مروا منها، ولو بلوحة رخامية بسيطة تدل على أثرهم. وكيف سنعثر على أثر لهؤلاء والمجالس البلدية يرأسها الأميون وأشباه الأميين الذين يزيلون أسماء العظماء من لوائح الشوارع ويعوضونها بأسماء النكرات الذين لا يعرف لهم أثر أو إنجاز.

وكيف ستهتم وزارة الثقافة بأسماء هؤلاء الكتاب والفنانين الأجانب الذين مروا بالمغرب، في الوقت الذي نرى فيه كيف تتجاهل الوزارة حتى بيوت ومقابر مؤسسي مدن المغرب. من يعرف مثلا أن بيت لسان الدين الخطيب يوجد في حي الطالعة بفاس، وبيت ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في فاس أيضا، وبيت الفيلسوف ابن رشد في مراكش. مراكش التي يتبول السكارى والمشردون بالقرب من الضريح المهمل لمؤسسها العظيم يوسف ابن تاشفين.
وا أسفاه...

المعاني التي بها نحيا

قبل سنة وشهرين تقريبا كنا منشغلين بهدم الجدران الداخلية لما كان سيكون المقر الأول لجريدة المساء. وهو شقة صغيرة لا تكاد تتجاوز مساحتها بالكاد 120 مترا مربعا. ووسط الغبار المنبعث من ركام الأتربة دار بيني وبين أحد الأصدقاء حوار حول الدمار الذي كانت تحدثه طائرات العدو الصهيوني بالجنوب اللبناني خلال ذلك الصيف القائظ.

كنت أتحدث بتوتر ظاهر عن همجية الإسرائيليين وتعطشهم للدماء ونهمهم الوحشي للتدمير، بحيث لم تنج من مدافعهم وقنابلهم لا القناطر ولا البيوت ولا المستشفيات. ابتسم صديقي وقال لي أنني غاضب بسبب الخراب الذي حل بالبيوت والحيطان في جنوب لبنان، والمفروض أن أكون سعيدا من كون أن هناك شيئا أقوى من الإسمنت والطوب لم تستطع إسرائيل وجيشها المسلح بأقوى الأسلحة الأمريكية أن يدمره، وهو الكرامة وروح المقاومة والإيمان بالوطن والتشبث بالأرض مهما كلف ذلك من ثمن.

وأثار صديقي انتباهي إلى قضية خطيرة غابت عن ذهني، وهي أن التخريب والتدمير اليومي المقصود الذي تتعرض له الهوية المغربية والكرامة الوطنية للمغاربة هو أخطر بكثير من التدمير الذي تتعرض له حيطان بيوت جنوب لبنان بسبب القصف. فعادت بي الذاكرة إلى ذلك الحوار الذي قرأته ذات يوم في أحد الكتب، والذي يحكي عن حوار دار بين الطاغية نيرون وبين فيلسوفه.

فعندما وقف نيرون في شرفة قصره يتمتع برؤية روما وهي تحترق بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف. فسأل نيرون هذا الأخير كيف وجد منظر روما وهي تحترق فقال له الفيلسوف :
- إذا أنت أحرقت روما يا سيدي الإمبراطور فسيأتي بعدك من يعيد بناءها، ربما أحسن وأروع مما كانت عليه. لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعب روما تعلم شعر رديء، فقتلت فيهم المعاني. وهيهات إذا قتلت المعاني في شعب أن يأتي من يعيد إليها الحياة من جديد.

تذكرت هذه الحكاية التاريخية وأنا أتأمل حالنا نحن المغاربة اليوم. ففهمت أن ما وصلنا إليه من انحطاط ثقافي وأخلاقي ليست له أسباب مادية وإنما كل أسبابه مرتبطة بالتربية. أو بسوئها على وجه الدقة. يعني أن مشكلتنا الحالية في المغرب ليست اقتصادية ولا سياسية، وإنما هي مشكلة أخلاقية تربوية بالأساس.

فطيلة ثلاثين سنة من القمع والرعب قتل المسؤولون عن أمننا، أو عن رعبنا تحديدا، الكثير من المعاني في نفوسنا. قتلوا الوطنية التي هي جوهر بقاء الشعوب وتطورها، وحولوها إلى مجرد وسام تافه يعلقه بعض المخصيين وعملاء الاستعمار ولاعقي الأحذية في المناسبات الوطنية. أما المقاومون الحقيقيون الذين وهبوا أرواحهم لكي يعيش الوطن حرا فقد أطلقوا أسماء بعضهم على الأزقة، وفي الوقت نفسه فرقوا أبناءهم على الأزقة نفسها بعد أن أغلقوا في السبعينات المدرسة التي بناها محمد الخامس ليدرس بها أبناء الشهداء، وحولوها إلى مقر لشيء آخر. كان ذلك الإغلاق درسا عميقا لأبناء الشهداء الذين تعلموا منذ ذلك الوقت الباكر أن آباءهم ماتوا ربما خطأ في الوقت الضائع من مباراة الشرف.

قتلوا النخوة والكرامة في النفوس، وأرادوا تحويلنا إلى مجرد قطعان يسوقونها نحو المراعي طيلة النهار ويعيدونها إلى الحظيرة كل مساء. والنتيجة أنهم نجحوا في تربية أجيال من الخرفان يكفي أن تقود واحدا منها من قرنيه حتى يتبعه الآخرون مهرولين. ولا يهم إن كانوا يتجهون بأرجلهم نحو المجزرة، فالاحتجاج هو آخر ما تتعلمه الخرفان. وحتى إذا ما احتجت فغالبا ما يحدث عندما يقرب الجزار السكين من العنق، أي بعد فوات الأوان.

قتلوا الحب في النفوس، وتعهدوا بالرعاية حبا واحدا لا شريك له هو حب المال والسلطة والذين يدورون في فلكها. حتى أصبحنا بسبب المال نبيع أعراض بناتنا ونسائنا في أسواق النخاسة العالمية. وكم يشعر المرء بالغثيان عندما يقرأ عن وجود ستمائة فتاة جامعية مغربية يتعاطين الدعارة في خمارات تل أبيب والقدس مع اليهود.

لذلك أقول دائما أن أزمتنا الحقيقية هي أزمة ضمير وأخلاق قبل أن تكون أزمة اقتصاد وسياسة. الاقتصاد عندنا لا أخلاق له، لذلك تجد وزارة المالية تعطي الحق لشركات قروض الاستهلاك لكي تقتطع ديونها مباشرة من حسابات زبنائها بفوائد متوحشة. وترخص لشركات مشبوهة وممنوعة عالميا بالعمل في المغرب وابتزاز جيوب الناس، كشركات البيع الهرمي والتي فتحت فروعا لها في كامل التراب المغربي وخربت بيوت المئات من المغاربة بعقودها المبنية على التحايل والكذب.

السياسة عندنا لا أخلاق لها، وأغلب السياسيين يعطون نموذجا مسطحا وانتهازيا وجد متسلط لرجل السياسة. حولوا أحزابهم إلى مقاولات وشركات غير محدودة يستثمرون فيها أسهم النضال ويتاجرون بالقتلى والشهداء والجثث ومجهولي المصير للحصول على المزيد من المساهمين بين الأحياء. يوهموننا بأنهم يصالحوننا مع الماضي، في الوقت الذي يخاصموننا بشدة مع الحاضر.

حتى التربية والتعليم انعدمت فيهما الأخلاق وأصبحا مجالا للمزايدات النقابية الرخيصة، وأصبح مستقبل الأجيال مجرد ورقة ضغط في يد محتالين حزبيين همهم الوحيد هو تسلق السلالم الإدارية، حتى ولو كان ذلك فوق ظهور تلاميذ أبرياء.
وقد أحيانا الله حتى أصبحنا نرى كيف تعرض وزارة التعليم مدارسها العمومية للبيع، وتدافع عن ذلك أمام الرأي العام.
ولو أن نيرون يعود إلى الحياة وينظر عبر شرفة قصره إلى المغرب كيف تحترق فيه أعصاب المواطنين وسأل صديقه الفيلسوف عن رأيه في المنظر لأجابه :
- كم هم مشغولون بالبناء والتشييد وترميم الحيطان والأسوار، وفي الوقت ذاته يحطمون أهم جدار واقي يضمن أمن الوطن...
وكان سينظر إليه نيرون وسيسأله :
- عن أي جدار واقي تتحدث ؟
- جدار المعاني يا سيدي الملك. الشعب لا يحيا فقط بالخبز والماء الذي توزعونه عليهم، وإنما يحيا أيضا بالمعاني. وأنا أعلم أن جلالتكم تعرفون أن وزراءكم ورجال بلاطكم فرضوا على الناس تعليما رديئا، وسياسة رديئة واقتصادا متوحشا، فقد معها المواطنون الكثير من المعاني. لقد كرهوهم في أنفسهم وكرهوهم في وطنهم وكرهوهم حتى في الهواء الذي يتنفسونه. حتى أصبحت حياتهم في وطنهم بلا معنى. ولذلك تراهم يا سيدي كيف يجمعون حقائبهم كل يوم ويرحلون.
الحيطان والأسوار والطرق إن تهدمت سيأتي من يعيد بناءها من جديد، أما المعاني إذا ماتت في نفوس المواطنين فهيهات أن يأتي من يحييها ذات يوم من جديد...

ولعل أبلغ ما يلخص المعنى الذي نقصد إليه ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة حول موت المدن وخلود المعاني :
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت
فتملأ الوادي سنابل..

مجانين الحكم

قبل يومين سمعنا خبرين مهمين، لكن يبدو أن لا أحد أعطاهما حجمهما الذي يستحقانه. الأول هو إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في مؤتمر صحافي أنه مصاب بسرطان البروستات، وأنه سيخضع لعملية جراحية وأنه لن يغادر السلطة بسبب هذه الإصابة.

الخبر الثاني كشفت عنه مجلة «مهنة السياسة» الفرنسية المتخصصة في عددها الأخير، ويتعلق براتب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي قرر رفعه بنسبة 140 بالمائة. فالرئيس الفرنسي لا يتقاضى في الشهر سوى تسعة آلاف يورو، حوالي عشرة ملايين سنتيم مغربية. أي ما يعادل تقريبا إذا احتسبنا التعويضات راتب السعدية قريطيف وزيرة الثقافة عندنا.

ولا بد أن «جلالة» الرئيس المصري حسني مبارك الذي تعتبر صحته من المقدسات التي لا يجب الحديث عنها في الصحافة، سيعض على يديه غضبا وهو يسمع إيهود أولمرت يتحدث بلا عقد أمام الصحافيين عن سرطانه الخبيث الذي اكتشفه أطباؤه، ويكشف لهم عن نوع العضو المصاب بالسرطان وتاريخ العملية الجراحية التي سيخضع لها.

فجلالة الرئيس المصري سجن نصف رؤساء تحرير الصحف المستقلة الموجودة في مصر المحروسة لمجرد أنهم تحدثوا عن اعتلال صحته. فصحة الرئيس المصري كما يقول المصريون، زي البمب، وكل من يشكك في سلامة صحة سعادة الرئيس ويذكره في مقالاته بالاسم، ينتهي مصيره في الاسم، (زعما بالدارجة ديالنا الحبس).

صحة حسني مبارك زي البمب وصحة الشعب المصري زي الزفت. لكن في جمهورية جلالة الرئيس يمكن للصحافيين أن يتحدثوا كما يحلو لهم عن أمراض الشعب المصري المزمنة، من انتشار فيروسات الكبد الوبائية من كل الأصناف، (13 مليون مصري مصاب)، وضغط الدم العالي (وأغلب المصابين به سببهم نظام حسني مبارك وليس الملح)، والعجز الجنسي الذي يعتبر الاكتئاب والخوف من القمع السياسي أحد أسبابه الرئيسية. لكن ليس من حق أي صحافي أن يتجرأ بالحديث عن صحة جلالة الرئيس ولا عن طبيعة العمليات الجراحية التي خضع لها خارج مصر. ولعل الجميع يتذكر عندما خرج رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير يتحدث لصحافة بلاده عن قرار أطبائه إخضاعه لعملية جراحية على القلب، حيث أحاط الرأي العام بتفاصيل حالته الصحية قبل أن يدخل غرفة العمليات، وصادف أنه في الفترة نفسها كان حسني مبارك يزور ألمانيا للخضوع لفحوصات طبية، وكان أحد الناطقين باسمه يخرج إلى الصحافة أمام أنظار أطبائه الألمان ويقول لهم إن سعادة الرئيس يتمتع بصحة جيدة. وكان الأطباء الألمان ينظرون إلى أخونا الناطق الرسمي المصري باستغراب وكأنهم يتساءلون في ما بينهم حائرين :
- إلى كان الرئيس ديالكم ماعندو باس، لاش جاي يشد لينا ناموسية فالسبيطار ؟

الرؤساء والحكام العرب لديهم عقدة تاريخية مع الاعتراف بالمرض. فالمرض في نظرهم مرادف للضعف، والاعتراف بالضعف يضعهم في مصاف البشر الفاني، فيما أغلبهم لولا الخوف من سخرية الأمم المتحدة لأعلنوا ألوهيتهم وأجبروا شعوبهم على السجود لهم من دون الله.
ولعل المضحك في قرار القضاء المصري حبس الصحافيين الذين تحدثوا عن اعتلال صحة الرئيس حسني مبارك، هو دخول مفتي الجمهورية على الخط وإفتاؤه بجلد الصحافيين طويلي اللسان، لأنهم تجرؤوا على قذف المحصنات. ونحن في الحقيقة في المغرب لم نفهم سبب هذا الخلط الإفتائي بين صحة الرئيس وقذف المحصنات.

والواقع أننا في هذا العالم العربي الغارق في التخلف من الماء إلى الماء أشد ما نحتاج إلى من يذكر الزعماء والحكام والملوك العرب بالمرض والموت كل يوم، لعل بعضهم على الأقل يضع في حسابه أن ذلك الجسد الذي يتباهى به سينتهي في حفرة مظلمة ورطبة وسيأكله الدود ذات يوم. وعوض أن يغضبوا لأن هناك من يتحدث عن مرضهم كان يجب أن يفرحوا لأن هناك من ذكرهم بأن الصحة زائلة والسلطة لها تاريخ صلاحية محدود ينتهي عندما يصبح الجسد «بيريمي».

وعندنا في المغرب هناك تكتم شديد على صحة بعض الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة. ولم يحدث طيلة التاريخ السياسي للمغرب منذ حكومة 1955 التي تولى رئاستها مبارك الهبيل البكاي، أن كشف أي وزير أول عن حالته الصحية للمغاربة.

وحاليا هناك نقاش في الدوائر السياسية المغلقة والصالونات الخاصة حول صحة الوزير الأول، ومدى قدرته على إدارة الملفات والأوراش التي تركها إدريس جطو مفتوحة. خصوصا وأن الجميع يلاحظ التعب البادي على ملامح عباس في جميع المناسبات التي يظهر فيها بسبب الهبوط المفاجئ في السكر الذي يعاني منه، شافاه الله.

وهناك وزير آخر لاحظ جميع من تابع استقبال الملك لأعضاء حكومة عباس تقاسيم وجهه الشاحبة وشعره الذي سقط بالكامل، وهو وزير الأمانة العامة للحكومة عبد الصادق ربيع، والذي يعاني، شافاه الله، من مرض لا تخطئ العين أعراضه الجانبية.

وعبد الصادق ربيع الذي عين أمينا عاما مساعدا للحكومة في فبراير 1993، ثم أمينا عاما للحكومة في نونبر 1993 واستمر في المنصب نفسه في الحكومات الموالية إلى الآن ليس وزيرا عاديا. إن مهمته الأساسية هي أن يسهر على دفن القوانين التي يصادق عليها البرلمان إلى الأبد. إنه أشبه بوزير مكلف بمقبرة الفيلة التي تنتهي إليها الهياكل المتعبة لكل القوانين التي تفلت بجلدها من «قرقارة» البرلمان دون أن تكون محط رضا القصر. فالأمانة العامة للحكومة تشبه كثيرا «مول الأمانة» الذي يقبض أرواح القوانين والتوصيات التي لا يجب أن ترى النور.
ومنصب خطير كهذا لا يجب أن يسند لرجل مريض يخضع للعلاج المكثف، حالته الصحية يجب أن تكون أهم ما يشغل باله. ولعل الكثيرين رأوا في التمديد لعبد الصادق ربيع على رأس الأمانة العامة للحكومة، حرصا غير مفهوم من جانب من يصر على الاحتفاظ به، على إقناع المغاربة بأن البلاد تخلو من أي رجل يستطيع أن يحل مكان عبد الصادق ربيع.

وإذا أراد أي متتبع للحياة السياسية أن يتفحص صور كل وزراء حكومات الدنيا فإنه لن يقع على صورة أكثر إثارة للشفقة من صورة رجل مثل الأمين العام للحكومة المغربية. وهذا ليس تشفيا في الرجل، فالمرض ليس مدعاة للتشفي حتى في العدو فالأحرى أن يكون ذلك مدعاة للتشفي في أخيك المسلم، ولكن من حق الرأي العام أن يعرف أن وزيرا يحمل مفاتيح الأمانة العامة للحكومة، التي بدونها تبقى أقفال المشاريع مغلقة، يوجد في حالة صحية تؤهله لاعتزال العمل الحكومي والتفرغ لصحته.

رؤساء الوزراء والوزراء ليسوا أشخاصا عاديين، إنهم مسؤولون يقررون في الشأن اليومي للشعب، ومن حق الشعب أن يكون متأكدا من أن قراراتهم تؤخذ في ظروف وشروط صحية طبيعية. لأن المرض، سواء كان عضويا أو نفسيا، يؤثر بشكل أو بآخر على الإنسان ساعة اتخاذه لقراراته.

وهنا تحضرني رواية «مجنون الحكم» الممتعة للروائي والفيلسوف بنسالم حميش، الذي بالمناسبة شمله الله بألطافه الخفية وجنبه في آخر لحظة مهزلة تسلم حقيبة وزارة الثقافة في حكومة عباس. وفي «مجنون الحكم» يتحدث بنسالم حميش عن أحوال وغرائب الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، الذي كان نموذجا للحاكم المتسلط المريض نفسانيا والذي يسحق رعيته من أجل تحقيق رغباته الأنانية المريضة.
وتتحدث الرواية عن الخليفة الفاطمي وغرائبه وجرائمه، لكنها في الواقع تحيل على نظام سياسي عربي مبني على التسلط والقمع تحت ذريعة الحكم بأمر الله.

وهكذا، فبعد قرون من حكم هذا المجنون، تأكد للناس أن خليفتهم لم يكن سوى شخص معتوه يستحق إدخاله إلى المارستان وإلباسه ثياب المجانين،عوض إدخاله قصر الخلافة وإلباسه عمامة أمير المؤمنين.

الشاشة وما وراءها

وضع مهرجان السينما، المسماة وطنية، أوزاره في طنجة نهاية الأسبوع الماضي، ولعل الرأي العام تابع كل الجعجعة التي رافقته، والتي كان أبطالها مخرجون سينمائيون مغاربة موهبتهم الوحيدة أنهم يخرجون عيونهم في ملايين الدراهم التي يصرفها لهم المركز السينمائي المغربي من أموال دافعي الضرائب كل سنة.

عائلات كثيرة جاءت لكي تتابع بعض الأفلام المشاركة في المهرجان، فانتهت غارقة في الخجل وغادرت القاعة بعد لقطة أو لقطتين. متفرجون يعشقون السينما جاؤوا لكي يتمتعوا بالفن السابع فاكتشفوا أن الفن الذي يقدم لهم يستحق أن يسمى الفن الهابط إلى ما تحت الصفر وليس الفن السابع.

بعض أشباه الصحافيين، ممن يزاولون مهنة النقد السينمائي خلال نهاية الأسبوع، وجدوا في نزوع أغلب المخرجين السينمائيين نحو الجنس والخلاعة نوعا من الجرأة المقبولة والتي تدل على أن هؤلاء المخرجين بدؤوا يتجرؤون على الممنوعات.

وكأن مخرج فيلم «بابل» مثلا، والذي صور أغلب مشاهده في المغرب وشارك فيه ممثلون مغاربة والذي لا نعثر فيه على لقطة عري واحدة، هو فيلم غير جريء. وقد كان باستطاعة المخرج أن يعري بطلة فيلمه، وهي بالمناسبة أجمل بكثير من كل الممثلات المغربيات اللواتي قبلن أن يعرين أجسادهن في أفلام مهرجان طنجة، لكنه فضل بالمقابل أن يعرضها للقطات قاسية حولت وجهها الجميل إلى وجه يبعث النظر إليه على الشفقة أكثر من أي شعور آخر.

وللذين يرون أن الجنس ضروري في السينما، نحيلهم على أفلام الإيراني عباس كيروستامي الذي لا يمكن أن تجد في كل أفلامه لقطة عري واحدة، ومع ذلك أينما ذهبت أفلامه تحصل على أرفع الجوائز العالمية. كما أن الأفلام المغربية التي حصلت على أكبر عدد من الجوائز العالمية لا توجد فيها لقطات جنسية أو مشاهد إغراء. كفيلم «الراكد» لياسمين قصاري (ما يفوق 15 جائزة)، و«الرحلة الكبرى» لفروخي، و«فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق» لمحمد العسلي الذي منح المغرب لأول مرة في تاريخه السينمائي جائزة التانيت الذهبي الذي ظل يتبارى حولها منذ 1966.

والواقع أن استعمال الجنس بذلك الشكل الفج، والحضور الطاغي للقطات التعاطي للخمور، ودفاع البعض الآخر عن الحشيش والحرية الجنسية، في أفلام المهرجان الوطني للسينما بطنجة لم يأت اعتباطا. ودعونا نتسلل إلى ما وراء شاشة المهرجان، المسمى وطنيا يا حسرة، لكي نكتشف الأيادي الخفية التي تحرك بعض المخرجين الكراكيز كما تشاء لكي تصنع وتروج الصورة التي تريد عن المغرب، أو ما يجب أن يكون عليه المغرب في المستقبل القريب.

هناك اليوم موجتان يستحلي أغلب المخرجين المغاربة التزحلق فوقها، الأولى موجة الجنس وما يرافقه من خمر وحشيش، وموجة الحديث عن هجرة المغاربة اليهود إلى فلسطين المغتصبة التي أوهمتهم الصهيونية العالمية بأنها أرضهم الموعودة.
والموجتان يحركهما المركز السينمائي في الخفاء تحت ذرائع مختلفة، لعل أهمها مواجهة الأصولية المتطرفة وإعطاء صورة عن المغرب للغرب كأرض للتسامح والتعايش بين اليهودية والإسلام.

والموجتان السينمائيتان بدأت أولى حركات مدهما قبل سنة عندما ألقت ليلى المراكشي قنبلتها السينمائية المسماة «ماروك» في لائحة الأفلام المتبارية حول جوائز المهرجان السينمائي الوطني في طنجة. وقد كنت عضوا في لجنة التحكيم ورأيت كيف كان بعض أعضاء اللجنة، الذين جيء بهم خصيصا لهذا الغرض، يحاولون الضغط لكي يحصل فيلم ليلى المراكشي على إحدى جوائز المهرجان. وعندما اقتنعوا أن «ماروك» سيخرج خاوي الوفاض من المهرجان، نظمت له إحدى جمعيات النقاد السينمائيين، الذين لا يستطيع بعض أعضائها التفريق بين النقد السينمائي والنقود السينمائية، وبدعم من المركز السينمائي المغربي، مسابقة ومنحت الفيلم جائزة على مقاسها.

والنتيجة اليوم أنه عوض أن يكون لدينا فيلم «ماروك» واحد، أصبحت لدينا «ماروكات» كثيرة تسير على منواله. فقد نجح «لوبي» ليلى المراكشي في التأثير على بعض المخرجين وجعلهم يقتنعون بنظرية المركز السينمائي المغربي القائلة بأنه لا سبيل لمحاربة الأصولية اليوم في المغرب سوى إشاعة ثقافة الجنس في الأفلام السينمائية، والتطبيع مع لغة الحشاشين وثقافتهم وموسيقاهم وطريقة فهمهم للحياة. خصوصا عندما خرج نور الدين السايل مدير المركز السينمائي خلال الدورة السابقة من مهرجان طنجة يدافع أمام الصحافة عن فيلم «ماروك» ومخرجته، وقال بأن هذا الفيلم يجسد السينما التي نريد اليوم في المغرب. وكلنا نعلم أن المخرجين المغاربة في غالبيتهم لديهم ارتباط عضوي ومعيشي بصندوق الدعم، وإذا سمعوا مديره يتحدث عن «السينما التي يريد اليوم في المغرب» فإنهم يلتقطون الإشارة ويعكفون على كتابة سيناريوهات تحترم التوجه العام الذي خطط له المركز السينمائي المغربي ومديره. فهم يعرفون أن أفلامهم إذا لم تحترم «فلسفة» هذه «الحرب» التي يقودها مدير المركز على الأصولية من داخل خندق الجنس، فإن أفلامهم لن تحظى بأغلفة الدعم السخية. ولعل المخرجين السينمائيين في المغرب هم الأكثر حظا بين كل مخرجي العالم، فهم بفضل الدعم يضمنون مداخيل أفلامهم وأرباحها حتى قبل أن توزع في القاعات السينمائية. عكس كل مخرجي العالم الذين يغامرون ببيع ممتلكاتهم من أجل إنجاز فيلم سينمائي قد ينجح وقد يفشل. والغريب في الأمر أنه في كل العالم يخصص الدعم السينمائي لتشجيع المخرجين الشباب، بينما عندنا لازال المخرج لطيف لحلو والذي بدأ السينما عام 1959 يتلقى الدعم كلما أراد تصوير فيلم. ولهذا فإن برنامج الدعم الذي يقوده المركز السينمائي يستحق أن يسمى «الدعم من المهد إلى اللحد».

ولهذا السبب لا نكاد نجد مخرجا مغربيا لم يشتر الفيلا والكات كات في ظرف خمس سنوات بفضل سياسة الدعم السينمائي. مع أن أغلبهم لا علاقة له بالسينما ويشتغل بأشياء أخرى بعيدة كل البعد عن الفن السابع. فهناك المخرج الذي يشتغل في الجمارك كحكيم النوري، والمخرج صاحب شركة لتوزيع الأدوية كسعد الشرايبي، والمخرج صاحب الصيدلية كحسن بنجلون، والمخرج صاحب مقاولة للبناء كمحمد بولان. وبين وقت وآخر يكتبون سيناريو ويذهبون به إلى المركز السينمائي ويأخذون عنه 300 مليون سنتيم. وسير خدم نتا. وكون غير يديرو بهادوك الفلوس شي حاجة تحمر الوجه، مانهضروش.

وحسب رؤية المركز السينمائي المغربي، التي تحتاج فعلا إلى نظارات طبية أكثر سمكا من العادة، فالأصولية الإسلامية في المغرب لا يمكن هزمها إلا بتشجيع وتمويل أفلام ك «نانسي والوحش»، حيث نرى الأطراف السفلية للممثلات أكثر مما نرى رأس خيط القصة، وفيلم «ثابت أو غير ثابت» الذي يبدأ اللقطة الأولى بمشهد جنسي في السيارة يليق بأفلام منتصف الليل في قنوات الهوت بورد، وفيلم «ملائكة الشيطان» الذي يحاول إقناع الشباب المغربي بأنه يكفي أن يعاطوا لفائف الحشيش ويستمعوا إلى موسيقى مزعجة لكي يغيروا العالم. وفيلم «سميرة في الضيعة» الذي اكتشف مخرجه أن المشكل الكبير والخطير اليوم في المغرب هو الضعف الجنسي.

ثم هناك هذا التوجه الغامض نحو إنتاج أفلام تتحدث عن اليهودي المغربي الذي انخدع وراء حلم أرض الميعاد، وذهب إلى إسرائيل وضاع فيه المغرب والمغاربة. ولعلها ليست مصادفة سينمائية أن يقرر حسن بنجلون ومحمد إسماعيل ومحمد زينون تقديم أفلام تتحدث كلها عن هذه «المأساة» اليهودية في نفس المهرجان.

ولعل ما يكشف عن جهل بعض المخرجين بخطورة السينما هو أن محمد إسماعيل عندما سألوه عن طبيعة مقاربته السينمائية لموضوع هجرة اليهود المغاربة، قال إنه صور شريطة بكاميرا محايدة. وهذا بنظري أكبر دليل على أن الوعي بخطورة الصورة لازال غائبا عند أغلب مخرجينا السينمائيين. فليست هناك صورة محايدة في السينما، وكل صورة هي موقف بحد ذاتها.

وهنا أدعو هؤلاء المخرجين لكي يعيدوا مشاهدة فيلم «ماروك» ليلى المراكشي، الذي أنتج في أغلبه برؤوس أموال يهودية فرنسية مستقرة في باريس، وأن يعيدوا بالعرض البطيء صورة انتزاع بطل الفيلم اليهودي لنجمة داوود من عنقه وتعليقها لمرجانة العلوي بطلة الفيلم المسلمة قبل أن يضاجعها، في الفيلم طبعا.

هل يمكن أن نقول هنا إن مخرجة الفيلم صورت شريطها بكاميرا محايدة. لا أعتقد. ثم لماذا هذا الاهتمام اليوم بـ«مأساة» هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وهل نضبت مخيلة المخرجين المغاربة إلى هذا الحد ولم يعودوا قادرين على استلهام مآسي أخرى غير مآسي اليهود. ألا تستحق انتفاضة 81 بالدار البيضاء فيلما سينمائيا، ألا تستحق مأساة أنفكو شريطا صغيرا يؤرخ لقرية يموت أطفالها مع مجيء الشتاء. أم أن مآسي الآخرين أهم من مآسينا. أنا هنا لست ضد تصوير أفلام حول هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، بل بالعكس، وكم كنت سأكون سعيدا لو أن أحد هؤلاء المخرجين المغاربة المتحمسين أكثر من اللازم لتاريخ اليهود، صور شريطا حول المجزرة الرهيبة التي تعرض لها يهود وجدة خلال الاستعمار والتي تأكد فيما بعد أن من كان وراءها ليسوا مغاربة كما أشيع آنذاك، وإنما فوق موت خاصة أرسلها الموساد الذي أراد أن يبث الرعب في نفوس اليهود المغاربة لكي يهاجروا إلى إسرائيل خوفا من المذبحة الإسلامية المفترى عليها.

ثم إن اليهود المغاربة لم يذهبوا إلى فلسطين من أجل تحريرها، وإنما من أجل طرد الفلسطينيين واستيطان أراضيهم وتشريد أطفالهم. وأبناء هؤلاء اليهود المغاربة كلهم تجندوا في الجيش الإسرائيلي وربما بينهم من قاتل بشراسة الجنود المغاربة الذين ذهبوا ليقاتلوا إلى جانب العرب في حروبهم الخاسرة.

هذا هو التاريخ الحقيقي يا سادة، والذي يريد أن يكون جريئا في السينما عليه ألا يكتفي فقط بتعرية الأثداء والنصوص السفلية وفتخ لفافات الحشيش، بل بتحطيم هذه الأساطير والمآسي المصطنعة التي يريد البعض أن يحتكرها باسمه إلى الأبد.

أليست السينما في آخر المطاف اختراعا يهوديا. ابحثوا عن أسماء أكبر المخرجين السينمائيين وأكبر شركات الإنتاج السينمائي العالمي، وستفهمون أن من يمتلكها يعرف جيدا أي سلاح خطير يمتلك. فهل يعرف مخرجونا السينمائيون أي سلاح خطير يلعبون به ؟

رسالة اعتذار إلى بنت الفشوش

أخيرا خرجت مريم بنجلون، المعروفة أكثر ببنت الفشوش، عن صمتها وقررت أن تدافع عن نفسها وأن تعطي للرأي العام نبذة عن حياتها وعائلتها وهواياتها المحببة ومشاريعها المستقبلية.

ففي حوار مع «الأيام» فتحت البنت المدللة للوزير ومستشار الحسن الثاني السابق، مجيد بنجلون، قلبها للجمهور، دون أن تنسى فتح النار على الصحافة التي تناولت فضائحها المتكررة بالتغطية، أو بالتعرية على الأرجح.

وقد كان الجميع ينتظر من مريم بنجلون أن تقدم اعتذارها لكل الذين نالهم أذاها، وخصوصا تلك الشرطية المسكينة التي دهستها بسيارتها وأرسلتها إلى العناية المركزة لمجرد أنها طلبت منها أوراق السيارة، إلا أننا نكتشف أن مريم بنجلون ليست مدمنة فقط على شم الغبرة، وإنما أيضا على ذر الغبرة في العيون لإخفاء الحقائق عن الأنظار.

فعوض أن تعتذر للشرطية على ما ألحقته بها من كسور مزدوجة وكدمات متعددة، أخطرها تلك التي طالت روح وكرامة الشرطية، نندهش ونحن نسمعها تتحدث عن تفاصيل تلك الحادثة كما لو كانت الشرطية هي التي ارتمت بمحض إرادتها فوق السيارة ثم سقطت فوق الطوار وتكسرت عظامها.

هكذا تلخص بنت الفشوش حادثة خطيرة كادت تفقد شرطية حياتها في مجرد نزاع لفظي بسيط بسبب مخالفة بسيطة. والأفظع من ذلك هو أن مريم بنجلون تتحدث بأسف عن مرآة سيارتها التي كررت أكثر من مرة أنها تكسرت، ولم تتأسف ولو للحظة واحدة على عظام الشرطية التي تكسرت هي أيضا. كما لو أن مصير مرآة سيارة ابنة وزير سابق أهم بكثير من حياة شرطية.

وليست الشرطية في نظر مريم بنجلون هي المخطئة وحدها في حقها، وإنما الصحافة أيضا. ولمعلومات كل الصحافيين الذين كتبوا حول فضائح بنت الفشوش أنهم مدعوون لتقديم اعتذارهم العلني لها في جرائدهم ومجلاتهم في أقرب وقت. فبنت الفشوش تحذركم جميعا وتصرح قائلة «لن ألتزم الصمت بعد اليوم، أقل ما يمكن أن تفعله الصحافة في حقي أن تعتذر عما كتبته عني».

ولأنني واحد من المعنيين بتقديم هذا الاعتذار، لكوني كتبت عن بنت الفشوش في أكثر من فضيحة، فإنني أبادر إلى تقديم اعتذاري لمريم بنجلون وعائلتها الكريمة. فأنا لم أكن أعرف أنها تربت في كنف القصر الملكي بين الأمراء والأميرات، وأنها كانت تقاسم ولي العهد سيدي محمد لعبه في غرفته. لم أكن أعرف أنها كانت تقاسم الأمراء والأميرات رياضة التزحلق على الجليد وركوب الخيل. الآن وقد رأيت ألبوم الصور الذي تفتخر به مريم منشورا في الجريدة، فإنني أقف أمامها مرعوبا ومرتعشا وغارقا في الخجل من نفسي طالبا للصفح. فقد أخطأت في حقها كثيرا عندما اتهمتها بأنها سحقت الشرطية بسيارتها، فامرأة مثل مريم تعبر عن أسفها الشديد لفقدانها مرآة سيارتها بسبب شرطية ثقيلة الدم، مسموح لها ليس فقط أن تدهس هذه الشرطية بسيارتها وإنما أن تدهس جميع أفراد عائلتها. فالعائلة المغربية الحقيقية هي عائلة أحمد مجيد بنجلون وأمثالها، والتي يقول في وصف أحد أفرادها سعادة الوزير السابق «هل يجب أن نرمي بمريم بنجلون إلى التهلكة لأنها ارتكبت خطأ، أن نرمي بها إلى السجن مع معتقلي الحق العام، مع السجينات اللواتي قتلن وسرقن». حاشى لله أن تبقى ابنة الوزير السابق في السجن مع الحثالة والعوام والدهماء. فأخطاء أمثالها من البنات والبنين تمحى من السجلات العدلية قبل أن يجف دم ضحاياهم في الطرقات. ألم يصدر في حق ابن العنصر الذي قتل مواطنا بسيارته وهو في كامل عربدته حكم بالسجن مع وقف التنفيذ. لقد راعى جناب القاضي المحترم في حكمه ظروف التخفيف حتى لا يفقد ابن سعادة الوزير وظيفته، رغم أنه تسبب في فقدان مواطن مغربي لحياته.

في الحقيقة لقد أسأنا نحن الصحافيين لمريم بنجلون وعائلتها. فنحن لجهلنا الكبير بتاريخ المغرب لم نكن نعرف أن السيد مجيد بنجلون بعد خدمته للدولة المغربية طيلة خمسين سنة كاملة وجد نفسه بدون ممتلكات ولا يستطيع حتى سد حاجيات أسرته، وأن كل ما يملكه هو التقاعد الذي منحه إياه محمد السادس.

والحقيقة أننا لا نملك غير أن نقول لسعادة الوزير السابق يحسن عوانك، فحاجيات أسرته، وخصوصا حاجيات مريم من الغبرة، لا يستطيع أن يتحملها حتى مدير البنك الدولي فبالأحرى أن يتحملها وزير سابق. فالغرام الواحد من الكوكايين يساوي حوالي ألف درهم، ومريم محتاجة إلى غرام كل يوم، ومن يضرب الحساب سيخرج له المجموع، هذا إذا لم يخرج له العقل مكان المجموع.

وكمن يفتخر بمنجزات ابنته قدم سعادة الوزير السابق في الأنباء، والذي كانت إحدى مهامه هي فرض الرقابة على ما ينشر في الصحف، ألبوم الصور العائلي قائلا «الصور التي ترين والتي أفتخر بتزيين أرجاء الفيلا بها، يمكن أن تعطيك فكرة أكثر من دالة، فهذه زوجتي وهي تتحدث إلى ولي العهد في لقاء خاص، وهذه ابنتي مع الأميرة لالة أمينة».

والحقيقة أن فتح سعادة الوزير السابق لألبوم صوره لم يكن اعتباطيا، فهو أراد أن يعطي للمغاربة كما قال «فكرة أكثر من دالة» على مفهوم العائلة لديه ولدى أمثاله من المسؤولين السابقين والحاليين من خلال الصور.

وهذا يكشف عن انتهازية كبيرة واستغلال فاضح لأفراد من العائلة الملكية لتبييض صورة تكسوها «الغبرة» من كل جانب. ولعل عائلة بنجلون وهي تكشف للرأي العام عن صورها الشخصية كانت تعرف أنها توظف أعلى مؤسسة في البلاد كدرع يحمي ابنتها من المتابعة القانونية المحتملة في حالة ارتكاب مخالفات في المستقبل. أي قاض سيجرؤ بعد اليوم على محاكمة مريم بنجلون وهو يعرف أنها كانت تقاسم ملك البلاد لعبه في حدائق القصر، وتقاسم الأميرات هواية ركوب الخيل والتزحلق على الجليد. كيف يمكن أن تحاكم امرأة محاكمة عادلة وأمها وأبوها يشهران أمام الجميع صورهم وهم يقبلون يد الحسن الثاني أو يوشوشون في أذن محمد السادس. وقد ذهبت عائلة بنجلون بعيدا عندما أشهرت للرأي العام صورة تجمعها بالأميرة أمينة عمة محمد السادس، وتظهر خلفهما طاولة وضعت فوقها قناني مختلفة من المشروبات الروحية.

عائلة أحمد مجيد بنجلون ليست سوى نموذج مصغر لعائلات كثيرة موجودة في المغرب، لا يسري القانون عليها وعلى أبنائها. إنهم نوع من العائلات الحاصلة على ظهائر توقير غير مكتوبة. بالنسبة إلى هؤلاء المحظوظين فالعقوبات السجنية وجدت فقط من أجل الآخرين، أما هم وأبناؤهم فالعفو وجد لكي يكون من نصيبهم.

ومن المفارقات العجيبة التي تصدمنا في لقاء عائلة بنجلون بالصحافة هو كون سعادة الوزير السابق يشكو الحاجة وقلة ذات اليد، وفي الوقت ذاته تتبجح ابنته مريم بالحديث عن هواياتها البورجوازية قائلة أن حياتها كانت موزعة بين الغولف وركوب الخيل وشم الغبرة، لدرجة أنها من كثرة الركوب لم تكن تعرف المشي في الأزقة والشوارع. والحقيقة أنها بعد كل الذي صنعته في تلك الشرطية المسكينة فمريم لا تعرف فقط المشي، ولكن حتى السوكان مكاتعرف منين تجيه.

على العموم لا يسعنا في الختام سوى أن نطلب المسامحة من مريم وعائلتها الموقرة، وكل ما يمكن أن نقوله هو «الله يعفو عليكم منا، ويعفو علينا منكم».

ثقافة بيتْ الما

لا أعرف ما إذا كان الوزير الأول عباس الفاسي سيرسل وزيرته الضاحكة في الصحة ياسمينة بادو لتشارك في واحد من أهم المؤتمرات العالمية التي ستعقد نهاية هذا الشهر في العاصمة الهندية نيودلهي، أم أن سعادته لا علم له أساسا بهذه القمة التي تخصص أشغالها بالكامل لمكان مغلق نقضي فيه جميعا حوالي ثلاث سنوات من متوسط أعمارنا. إنه مؤتمر عالمي حول «بيت الما»، أو «الطواليط» كما يسميها البعض تحببا.

ولأهمية هذا اللقاء فإن الدول المشاركة فيه وصل عددها إلى أربعين دولة. وقد اختارت القمة السابعة للمراحيض هذا العام شعار «بيت الما لكل مواطن». فحسب منظمة الصحة العالمية هناك ما يقدر بمليارين ونصف مليار مواطن عبر العالم محرومين من استخدام المراحيض، بمعنى أنهم يقضون حوائجهم في الخلاء، مما يتسبب في انتشار الأمراض ووفاة الآلاف كل عام.

والحقيقة أنني لا أعرف لماذا لا يحتفل المغرب كغيره من الدول باليوم العالمي للمرحاض الذي يأتي كل تاسع عشر من نوفمبر (مع الاعتذار لكل الذين يحتفلون بعيد ميلادهم في هذا اليوم)، خصوصا إذا عرفنا أن نصف ساكنة المغرب لا يتوفرون على مرحاض. وليس فقط سكان العالم القروي، فحتى فيلات شاطئ الهرهورة بالقرب من العاصمة لا تتوفر على قنوات الصرف الصحي، وكل ما هناك هو أن كل صاحب فيلا لديه حفرة تحت بيت الما يستعملها لقضاء الحاجة وينكسها عندما تمتلئ.

ولذلك فإذا كان هناك اليوم مؤتمر يستحق أن تذهب إليه وزيرة الصحة ياسمينة بادو فهو القمة السابعة للمراحيض. فهناك اليوم في المغرب حاجة ملحة وعاجلة لإصلاح قطاع المراحيض وتأسيس ثقافة الذهاب إلى بيت الما عوض الذهاب إلى الخلاء.

ولكي تفهم ياسمينة بادو سبب إلحاحنا على مشاركتها في القمة السابعة للمراحيض، فيكفي أن تطلب من مندوبها عن وزارة الصحة بآسفي أن يبعث إليها بتقرير عن وضعية السجناء بالسجن المحلي، وكيف أصبح من الصعب على السكان الذين يقطنون جنب المؤسسة السجنية التنفس بشكل طبيعي. والسبب هو أن إدارة السجن قطعت طيلة شهر رمضان الماء على ألفي سجين، ولازالت مستمرة في قطعها للماء إلى الآن، مما دفع السجناء إلى استعمال الأكياس البلاستيكية لقضاء الحاجة ورميها بعد ذلك وسط الساحة العامة للسجن.

ولسعادة وزيرة الصحة أن تتخيل عشرات السجناء وهم مجبرون على البقاء مع ميكاتهم داخل الزنازن من الخامسة مساء إلى الثامنة والنصف من صباح اليوم الموالي، خصوصا في الجناح رقم خمسة الذي يصل فيه عدد السجناء الاحتياطيين إلى خمسين سجينا.

ويمكن أن تشارك الموناليزا ياسمينة بادو في القمة السابعة للمراحيض بالهند بعرض علمي مفصل حول تقنية استعمال الميكا الكحلة ووظائفها المتعددة في المغرب. فيبدو أن استعمال الميكا مكان بيت الما اختراع مغربي صرف يجب أن تسجله وزارة الصناعة التقليدية في مكتب الملكية الفكرية حتى لا تسرقه منا دولة أخرى.

والحقيقة أننا عندما آخذنا على وزير الماء والبيئة سابقا، والوزير بدون حقيبة حاليا، محمد اليازغي، كونه لم يفعل شيئا من أجل القضاء على صناعة الميكا الكحلة، فقد ظلمناه حقا. فالرجل لديه نظرة «ثاقبة» للمستقبل، وعرف بحدسه الذكي أن الميكا الكحلة يجب أن تبقى لأنها يمكن أن تحل مشكلة كبيرة في المغرب وهي مشكلة انعدام المراحيض.

والآن فقط نفهم لماذا لم يلق اليازغي بالا لكل الانتقادات التي كنا نكيلها له طيلة ولايته على رأس وزارة البيئة والماء. خصوصا عندما سمعنا زميله إدريس لشكر ليلة أمس يتحدث إلى ميكروفون إذاعة «إيف إيم» ويقول بأن الشعب المغربي «لم يعاقبنا، لأن الرأي العام لم يبلغ بعد درجة الوعي التي تدفعه للمحاسبة والمعاقبة».

فالرأي العام، ونحن جزء منه، في نظر هؤلاء «الناضجين» سياسيا ليس سوى طفل قاصر مازال يرضع أصابعه. ولذلك يريدون إقناعه اليوم بأنهم في حزب الاتحاد الاشتراكي سيمارسون المعارضة من داخل الحكومة.

ولكي يوضح إدريس لشكر أكثر هذه الخلطة السياسية العجيبة التي تجمع بين الانتماء للأغلبية والانتماء في الوقت نفسه للمعارضة، أضاف قائلا «إعلامنا سيأخذ حريته وفريقانا في مجلس النواب ومجلس المستشارين سيأخذان حريتهما ليلعبا دورهما كاملا في متابعة العمل البرلماني».

بعبارة أخرى فإدريس لشكر أراد أن يقول أن إعلام الحزب وفريقه في مجلس النواب «غادي ياخدو راحتهم». وهذا طبيعي، مادام مجلس النواب بغرفتيه أصبح شبيها ببيت الراحة الذي يأتي إليه النواب لقضاء القيلولة. وقد شاهدنا صور بعض هؤلاء «النوام» الكرام وهم يتبارون في الشخير بينما عباس الفاسي يخطب فيهم بصوته المتعب المدر للنوم. ولا يسعنا سوى أن نقول لفريق إدريس لشكر في البرلمان «غير خودو راحتكم بالصحة والراحة، راه كلشي واخد راحتو هاد الساعة».

والحقيقة أن ياسمينة بادو يمكن أن تفكر في اصطحاب وزيرة الثقافة، السعدية قريطيف، معها إلى القمة السابعة للمراحيض بالهند. خصوصا أن جانبا مهما من أشغال القمة سيتمحور حول «ثقافة» المراحيض في الدول النامية التي يعتبر المغرب إحداها. ولعل وزارة الثقافة على عهد قريطيف ملزمة بالقيام بدورها الثقافي في توعية نصف ساكنة المغرب بأهمية النهوض بقطاع بيت الما. ولو أن نصف ساكنة المغرب، ومعها ساكنة المدن أيضا، يجدون صعوبة هذه الأيام حتى في الحصول على الما، بقا ليهم عاد يحصلو على بيت الما.

كما أن الوفد الحكومي الذي يجب أن يرسله عباس الفاسي إلى القمة السابعة للمراحيض يجب أن يتضمن بين صفوفه إطارا كبيرا عن وزارة التعليم. وربما سيستخف خشيشن وزير التعليم الجديد بهذا الاقتراح ولا يحمله على محمل الجد عندما يسمعه، لكنني متأكد من أنه سيغير رأيه عندما سيعرف أن أهم سبب لعزوف التلميذات في العالم القروي عن متابعة تعليمهن في المدارس هو غياب مراحيض خاصة بالإناث. فكل مدارس القرى المجهزة بمراحيض تكتفي بدورات مياه مشتركة يستعملها الذكور والإناث. وهذا يدفع آباء التلميذات إلى منعهن من الذهاب إلى المدارس خوفا عليهم من الاختلاط بالذكور في المراحيض.

ولدي رسالة صغيرة أريد أن أقرأها على مسامع سعادة وزير التعليم الجديد لكي يتأكد من أن قضية المراحيض هذه قضية جدية، ويمكن أن تكلفنا مستقبل المغرب إذا لم يتم أخذها بما يكفي من الصرامة والجدية. تقول رسالة (ح.م) التلميذة بإعدادية ابن الهيثم بمرتيل «أما المراحيض فهناك مرحاضان، أحدهما أغلق فأصبح الثاني يستعمل للذكور والإناث، حيث تتعرض التلميذات لعدة مضايقات من طرف الذكور. والأسوأ هو أن هذا المرحاض لا يفتح إلا في بعض الأحيان، ورائحته نتنة، فتضطر التلميذات إلى قضاء حاجتهن خارج المؤسسة مثل المقاهي أو في بيوت التلميذات اللواتي يسكن قريبا من الثانوية. كما أن عاملة النظافة غير موجودة، والأزبال تسود للأسف في ساحة المدرسة والأقسام وفي كل مكان. لهذا فوجود عاملة النظافة في المؤسسة أمر هام، لأن الأزبال أصبح منظرها بشعا».

وإذا وجد وزير التعليم أن لجوء هؤلاء التلميذات إلى المقاهي لقضاء حاجتهن الطبيعية، أمرا صادما، فليكن في علمه أن هناك تلاميذ آخرين في قرية آيت امحمد بإقليم أزيلال لا يقضون فقط حوائجهم في المقاهي وإنما يعيشون في المقاهي مقابل مبلغ مادي يضمن لهم المبيت فوق أفرشة متهالكة والعيش على وجبات غذائية لو عرفت منظمة الصحة العالمية سعراتها الحرارية لأعلنت منطقة آيت امحمد وتلاميذها منطقة منكوبة.

هذا بعض ما جاء في باب ثقافة بيت الما، حاشا وجوهكم.