2007-12-31

بابانويل بو البطاين

إذا كان كليمونصو قد قال بأن الحرب مسألة جدية ولذلك لا يجب تركها بيد العسكر، فيمكن أن نقول نحن في المغرب أن الخبز شيء جدي ولذلك لا يجب تركه بيد أرباب المطاحن.


مناسبة هذه المقدمة الخبزية هي التقرير الذي كشف عنه المسؤول عن البرنامج الوطني لمحاربة النقص في العناصر الغذائية الدقيقة في وزارة الصحة، والذي يفيد أن ثلث الأمهات والأطفال دون خمس سنوات يعانون فقر الدم بسبب نقص الحديد في الطحين.


وربما لهذا السبب تفهم اليوم لماذا يمكن لمغربي أن يتعرف على أخيه المغربي وسط مئات المواطنين في أية بلاد أجنبية، فقط من خلال مشيته. فنحن المغاربة لدينا مشية مميزة عن سائر الأقوام، والسبب في هذا" الإنفراد" العجيب هو كوننا "تعرضنا" في طفولتنا لتغذية تفتقر إلى المواد الضرورية لنمو الإنسان بشكل طبيعي. أي أن أغلبنا كبر بالخبز والشاي والقدرة الإلهية. ولذلك عندما كبرنا اكتشفنا أن أغلبنا لا يستطيع المشي باستقامة، أو يمشي كما لو أن شخصا يدفعه من الخلف. وربما بسبب هذه التغذية السيئة أصبح لدينا ثلاثة ملايين معاق. فحسب دراسة وزارة الصحة فإن النقص في مادة الحديد لدى الأمهات تؤدي إلى تشوهات خلقية تصيب الجنين في بطن أمه. أي أننا في المغرب ينطبق علينا المثل القائل "من الخيمة خارج مايل".


وأتذكر عندما كنت لا أزال تلميذا في مدرسة ابن زيدون في مدينتي الصغيرة، كنت محروما من الاستفادة من الوجبات الغذائية التي كانت يخصصها مطعم المدرسة للأطفال الفقراء ولليتامى من أبناء الجنود الذين قتلوا في الحرب التي كانت مستعمرة آنذاك في الصحراء. وإلى اليوم لازالت رائحة ذلك الرغيف المعجون بدقيق المساعدات الغذائية الأمريكية تداعب خياشيمي كلما مررت بجانب المدرسة. فقد كان ذلك الرغيف المقلي في زيت الصوجا الأمريكي لذيذا إلى درجة أنني كذبت وقتلت والدي في الصحراء ذات يوم ووقفت في صف التلاميذ اليتامى بانتظار الحصول على حصتي من الرغيف وحفنة من التمر ومثلث من الجبن الأبيض.


كانت المدارس في تلك السبعينات تتلقى مساعدات غذائية أمريكية، وكانت مخازن مطاعمها مليئة بأكياس الدقيق المدعم بكل المواد الغذائية الضرورية من حديد وزنك ومنغنيز وحامض الفوليك وغيرها من المواد الضرورية لنمو الأطفال. لكن للأسف انقطعت تلك الإعانات فجأة عندما اكتشفوا أن موظفين جشعين كانوا يسرقونها ويعيدون بيعها في الأسواق. وأكمل التلاميذ اليتامى و الفقراء نموهم بما قسم الله.


وبالإضافة إلى تلك الإعانات الغذائية كبرنا وقاومنا الانقراض بفضل تلك الحقن التي كانت تتبرع بها علينا منظمة الصحة العالمية، والتي كانت ينشبها الممرضون في سواعدنا النحيلة مرة كل ثلاثة أشهر داخل القسم. حقن بيسيجي مضادة للسل، حقن مضادة لالتهاب الكبد الفيروسي، وأخرى كنا نسمع أسماءها و لا نعرف حقيقة لماذا تصلح. ولكثرتها كنا نكمل الشهادة الابتدائية وعلى أذرعنا ثقوب و دوائر كبيرة تشبه عضات الكلاب. مما سهل مستقبلا على شرطة مكافحة الهجرة السرية مهمة التعرف على المغاربة دون غيرهم من الأجناس. فبمجرد ما يضبطون مهاجرا سريا لا يطلبون منه أن يريهم جواز سفره، وإنما يطلبون منه أن يريهم ذراعيه. وعندما يعثرون على "آثار الجريمة" يعرفون أنه "صنع في المغرب"، فيعيدونه من حيث أتى. والحقيقة أنني لم أفهم لماذا كانت الأرغفة المصنوعة من الطحين الأمريكي والمقلية في زيت الصوجا لذيذة بذلك الشكل حتى زرت أمريكا واكتشفت أن التغذية هناك شأن سياسي على درجة كبيرة من الأهمية. فكل المواد الغذائية التي تصنعها الولايات المتحدة الأمريكية وتطرحها للاستهلاك الداخلي تحتوي على نسبة زائدة من المقويات و النشويات و السكريات. طبعا بالإضافة إلى كل المعادن و الأملاح الضرورية لنمو الإنسان الأمريكي.


فالسياسة الأمريكية تقضي أن يكون كل شيء في أمريكا كبيرا و ضخما، من المباني مرورا بالسيارات ووصولا إلى المواطنين. ولهذا فأغلب الأمريكيين ضخام الجثة. وهذا ليس راجعا بالأساس إلى إفراطهم في الأكل وإنما إلى أن الأكل الذي يتناولونه مزود بسعرات حرارية إضافية. وعندما كنت أملأ الاستمارات التي تطلبها قنصلية أمريكا في الدار البيضاء، (والتي يوجد بينها سؤال غبي يقول لك هل تنوي القيام بأعمال إرهابية خلال زيارتك لأمريكا(، نبهتني الموظفة إلى ضرورة الانتباه إلى وزني، لأنني سأعود من أمريكا أثقل مما ذهبت. وفعلا عندما وجدت أنني أضفت إلى وزني حوالي أربعة كيلوغرامات، رغم أنني كنت أتناول وجبتين فقط في اليوم.


ولعل الفرق بيننا نحن المغاربة والشعوب الأوربية و الأمريكية يظهر جليا عندما تقترب احتفالات أعياد رأس السنة. وكثيرا ما كنت أشعر بالشفقة عندما كنت أرى مواطنين مغاربة يلبسون لباس بابانويل ويقفون في الشوارع والحدائق ومحلات التصوير لالتقاط صور تذكارية مع الأطفال. فقد كان الفرق بين بابانويل عندهم وبابانويل عندنا يبدو واضحا جدا، ويعطيك فكرة مقربة عن التكوين الجسدي المحلي و الأجنبي. وفي مقابل بابانويل الأجنبي ذي الكرش السمينة والوقفة القوية والوجه المحنك والابتسامة الواسعة، نلاحظ كيف أن بابانويل المحلي المقوس الظهر، يحشو الكرطون تحت ثيابه لكي ينفخ كرشه، وتظهر عظام وجهه من فرط تدخين التبغ الرديء. فقد كان بعض العاطلين عن العمل يستغلون مناسبة اقتراب رأس السنة لتفصيل لبسة بابانويل يظهر تحتها سروال الدجين و الحذاء الرياضي، ووضع لحية متسخة، والوقوف بانتظار زبائن يريدون إنهاء السنة بصورة تذكارية.


ومنذ سنتين تقريبا توقفت ولاية الأمن في الدار البيضاء عن إعطاء رخص لبابانويل المحلي تحت ذريعة الإجراءات الأمنية. فيبدو الأمن لا يأمن جانب بابانويل، ويخاف أن يرتدي أحد الإرهابيين لباس بابانويل ويحمل هدية غير طيبة لمكان ما.


والحقيقة أن المشاكل المترتبة عن مهنة بابانويل ليست كلها أمنية، بل أحيانا يمكن أن تكون مرتبطة بالعنف. وقبل ثلاث سنوات اندلعت مباراة في الملاكمة بين شاب وبابانويل بعد أن جاء هذا الأخير رفقة صديقته لالتقاط صورة تذكارية معه. وبمجرد ما وضع الشاب يده حول خصر الشابة التي كانت معه وابتسم في وجه المصور حتى سدد له بابانويل واحد الكروشي أسقطه أرضا. فقد تحمل بابانويل رؤية أخته مع صديقها وقرر أن "يدير عين ميكا"، لكنه بمجرد ما رأى الصديق يطوق خصر أخته بذراعه لم يشعر بذراعه، ذراع بابانويل طبعا، حتى انطلقت نحو فم كرش الصديق. ففرت الفتاة عندما سقطت الهيدورة البيضاء التي كان بابانويل يضعها فوق وجهه واكتشفت أنه أخوها. ودارت بين الشابين مباراة طاحنة انتهت بهما أمام وكيل الملك.


والواقع أننا نحن المغاربة "عزيز علينا نتعلقوا فين نتفلقوا". لذلك نترك بابانويل المغربي ونذهب لتقليد بابانويل الأوربي الذي ليس في الأصل سوى دعاية لألوان المشروب الأمريكي كوكاكولا. فكل بابانويلات العالم يرتدون الأحمر والأبيض، وهما لونا كوكاكولا اللذان صممهما الرسام الأمريكي "هادون سوندبلوم" للترويج للمشروب الغازي. من الغزو طبعا.


أما بابانويل المغربي فهو السبع بولبطاين، والذي يأتي مباشرة بعد عيد الأضحى. حيث يتجول في الشباب الأحياء متنكرين في هيضورة الخروف. وحفل التنكر هذا معروف في كثير من مناطق المغرب. وفي أكادير يسمونه "بيلماون"، والرجاء عدم خلطه بحافلات "بيلمان" التي تربط بين الدار البيضاء و أكادير.


لكن الجديد في مهرجان "بيلماون" لهذه السنة بأكادير هو أن الشباب لم يكتفوا فقط بالتنكر في هيضورة الخرفان، وإنما أبدعوا أشكالا جديدة في التنكر دفعت بأحدهم إلى التنكر في هيئة رجل أمن، وخرج إلى الشارع للاحتفال مع أصدقائه المتنكرين، واقتادوه إلى المخفر بتهمة انتحال صفة رجل أمن. وهكذا فالشاب أراد أن يمزح ولبس بذلة رجل أمن، فوجد نفسه لابسا بالإضافة إلى البدلة، تهمة ثقيلة قد تنتهي به، لا قدر الله، في السجن.