2008-06-27

جمع راسك

خلال الأسابيع الأخيرة وقعت «مناظر» مخجلة في مدن مغربية مختلفة لشخصيات وازنة في عالم المال والأعمال والصحافة والجيش. «مناظر» تعطينا صورا مقربة عن طريقة تفكير مالكي السلطة في العهد الجديد.

قبل ثلاثة أسابيع تقريبا، وفي أحد الشوارع الرئيسية التي تخترق قلب طنجة، أوقف رجل سيارته بجانب سيارة رجل آخر، ونزل منها غاضبا بسبب خلاف بسيط على مكان إيقاف السيارة. بعد حصة سريعة من الشتم المستنبط من قاموس «السوق» (ما دمنا في طنجة) سيلجأ الرجل الغاضب إلى استعمال الحجارة لتكسير زجاج سيارة خصمه. وعندما ستتطور الأمور إلى «المشانقة»، سيستعمل صاحبنا هاتفه للاتصال بأعلى موظف للأمن في طنجة لكي يطلب مساعدته لأنه وقع ضحية جماعة إرهابية. بسرعة البرق سيحضر عناصر الشرطة وسيقودون الرجلين إلى ولاية الأمن. وهناك سيكتشفون أن صاحبنا لديه جواز سفر دبلوماسي. وأن اسمه ببساطة هو الخباشي، مدير وكالة المغرب العربي للأنباء. لذلك سيغادر مقر الولاية بالسرعة ذاتها الذي دخل بها، بعد أن أخذ المنصوري، مدير مكتب الدراسات والمستندات والرئيس المباشر الحقيقي للخباشي علما بالموضوع، وسيقضي رجال الأمن وقتا طويلا في مطالبة الشاب الذي تعرضت سيارته للاعتداء، وبعض أطرافه أيضا، إلى نسيان الأمر، وعدم التمسك بالشكاية.

وهكذا عاد الخباشي، مدير وكالة الأنباء، من طنجة بعد أن تم طي هذا الملف بأقل الفضائح الممكنة. فالخباشي صديق ياسين المنصوري، الذي أصبح واحدا من عائلته بعد أن تزوج إحدى أخوات زوجة هذا الأخير، أصبح يشعر بأنه فوق القانون، لأنه أفلت من ملف قضائي كان سيتابع فيه بتهمة الاعتداء على ممتلكات الغير.

ولعل المتأمل في مشوار الخباشي المهني، يكتشف أن الرجل لديه قدرة كبيرة على التسلق المهني والارتقاء الطبقي. فبعد أن كان موظفا إداريا عاديا في مكتب الموارد البشرية بوكالة المغرب العربي للأنباء، سينزل من الإدارة إلى قاعة التحرير باللغة الفرنسية بمساعدة صديقه «الموس» الذي أصبح «يمضيه على جوج وجوه» عندما ترقى إلى منصب مدير ليذبح به كل من «يطلع» اسمه في اللوائح السوداء لمكتب الدراسات والمستندات.

بعد ذلك سينتقل الخباشي إلى غانا ليشتغل في مكتب الوكالة هناك. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى انتقل إلى نواكشوط حيث أبلى البلاء الحسن، خصوصا بعد الانقلاب الأول الفاشل الذي «غطاه» من الرباط حيث كان يقضي عطلته السنوية. بعد ذلك سيقترحه ياسين المنصوري ضمن لائحة الذين سيوشح الملك صدورهم خلال زيارته لنواكشوط. وبفضل كل النقط التي جمعها الخباشي خلال عمله بموريتانيا سيدخل إلى المغرب لكي يلتحق مباشرة كمدير لوكالة المغرب العربي للأنباء.

المثال الثاني جاءنا من مراكش، حين انتظر الكلونيل خلا بن سيدي الأستاذ العروي أمام باب الثانوية التي تجتاز فيها ابنته امتحان البكالوريا، وبمجرد ما لمح الكولونيل الأستاذ حتى «شنق» عليه ومزق قميصه وحاول خنقه. وبالإضافة إلى الاعتداء الجسدي كان لا بد من أن يهدد الكولونيل الأستاذ باغتصابه واغتصاب عائلته. فيبدو أن لدى بعض رجال الأمن مشكلة حقيقية مع أعراض المغاربة، يجب أن ينكب عليها الأطباء وعلماء النفس. فبمجرد ما تحتك بأحدهم حتى يهددك بإجلاسك على القرعة واغتصاب «طاسيلتك» عن بكرة أبيها.

وعندما نتأمل سبب كل هذه العنترية من جانب الكولونيل، نجد أن هذا الأخير لم «يسرط» كيف أن أستاذا مكلفا بحراسة التلاميذ يتجرأ على منع ابنة كولونيل في الجيش، يأتمر بأوامره المئات في الفوج الثاني بحامية مراكش، من الغش في الامتحان. فقرر أن يعلم هذا الأستاذ أصول الأدب، ووصفه أمام الشهود بالحمار الذي لا يعرف شيئا، رغم أن الأستاذ قضى ستة وثلاثين سنة من عمره في التعليم.

ورغم محاولات الاعتذار التي قام بها الكولونيل عندما استفاق من «سكرته» السلطوية، وذهابه إلى الثانوية لمطالبة المدير بالعمل على سحب شكاية الأستاذ، إلا أن الأستاذ قرر أن يذهب إلى القضاء ليسترجع كرامته المهدورة.

وإذا كان الأستاذ العروي قد قرر التمسك بحقه في إعادة اعتباره، فإن مواطنا آخر بالدار البيضاء، وهذا هو المثال الثالث، قرر التخلي عن شكايته ضد مولاي حفيظ العلمي، رئيس اتحاد مقاولات المغرب.

وأصل الحكاية التي وقعت في قلب الدار البيضاء بدأ بخلاف بسيط على الطريق بين هذا المواطن وابن مولاي حفيظ العلمي، الذي لم يضيع الوقت واتصل بوالده الذي حضر خلال دقائق قليلة.

وهنا سيعطي مولاي حفيظ العلمي مثالا لا يليق به كرئيس للمقاولين المغاربة. فقد قدم نفسه أولا للرجل بأنه هو الذي يربي أمثاله. رغم أن الرجل طلب منه أن يهدئ من أعصابه لأنه يعرف من يكون ويقطن بالقرب منه ولا حاجة لكي يشتمه. لكن مولاي حفيظ زاد فيه أكثر من اللازم، فسأله الرجل «شكون بغيتي تكون»، فرد عليه بجواب لازال الجميع يحاول فهم مغزاه إلى اليوم وقال له «أنا اللي كنحكم المغرب».
ولأن مولاي حفيظ العلمي يعتقد أنه يحكم المغرب فقد قال للرجل متحديا أنه إذا تجرأ ومس شعرة واحدة من ولده فإنه سيبيت في ثلاجة الموتى.

بعد أن بردت أعصاب رئيس «الباطرونا»، ووصل إلى علمه أن الرجل ذهب إلى مخفر الأمن لوضع شكاية برفقة شاهدة تطوعت للإدلاء بشهادتها، اتصل به، بعد أن اكتشف وجود علاقة دموية (طبعا غير تلك التي كاد يتسبب فيها) بينه وبين صاحب الشكاية. فتم طي الملف وسحب الرجل شكايته و«مريضنا ماعندو باس».

هذه إذن ثلاثة نماذج لثلاث شخصيات تمثل ثلاث مؤسسات، وكالة الأنباء الرسمية، القوات المسلحة الملكية، ومؤسسة اتحاد مقاولات المغرب، أعطت أمثلة واضحة، وفي الشارع العام وأمام الملأ، على ما يسمى في القانون بالشطط في استعمال السلطة.

في البلدان الديمقراطية، عندما يقترف مثل هؤلاء المسؤولين تصرفات منافية للقانون، ويسعون إلى جمعها وطيها قبل أن تصل إلى الصحافة، هناك تصرف آخر تقوم به الدولة لكي تلجم جموح تلك الشخصيات. لأن ما يقترفونه من زلات وهفوات لا يلطخ سمعتهم كأشخاص فقط، وإنما يلطخ سمعة المؤسسات التي يمثلونها ويتحدثون باسمها.

وحتى ولو اضطر المتضررون لسحب شكاياتهم ضد هذه الشخصيات، بسبب الترغيب تارة أو بسبب التهديد تارة أخرى، فإن الدولة تبقى مطالبة بالقيام بما يسمى بالفرنسية «Le Rappel a lordre»، أي «جمع راسك» كما يقول المغاربة.

والغريب في هذه الوقائع الثلاث المتشابهة والتي تعكس استخفاف «أبطالها» أنها وقعت في أسبوع واحد تقريبا في طنجة والدار البيضاء ومراكش. وبعدها اندلعت أحداث سيدي إفني، حيث شمر الفرسان الثلاثة الضريس والعنيكري وبنسليمان (مع الاعتذار لأليكسندر ديما) عن سواعد الشطط في استعمال السلطة ضد مدينة بأسرها.

لذلك فقد أصبح من الضروري اليوم إعادة الاستماع إلى أغنية الغيوان التي يقول فيها العربي باطمة «يا جمَّالْ رد جْمَالك علينا». فيبدو أن هذه الجمال المغرورة بنفسها (على وزن «الدب المغرور بنفسه» في سلسلة اقرأ) يجب أن يمسك لجامها أحد، حتى تقلع عن الخبط في الشوارع خبط عشواء.

2008-06-26

كوابيس وأحلام

من المنتظر أن تبدأ لجنة التقصي التي أنشأها البرلمان للتحقيق في ما حدث في سيدي إفني، عملها في الأيام القليلة القادمة. وقد أصر حزب الاستقلال على ترؤس هذه اللجنة، بعدما سمع الجميع الأمين العام للحزب والوزير الأول عباس الفاسي، ينفي بتاتا في التلفزيون وقوع أية أحداث في سيدي إفني.

أكثر من ذلك، كانت بناني سميرس، النائبة البرلمانية عن الفريق الاستقلالي في البرلمان، أول المعارضين لفكرة تأسيس لجنة لتقصي الحقائق، بحجة أن عمل هذه اللجنة ومصاريف تنقل وإقامة وأكل أفرادها ستكلف مالية البرلمان ميزانية إضافية. ولذلك فعلى البرلمان أن يكتفي بزيارات تضامنية مع السكان.

وفي جريدة الحزب، نقرأ في افتتاحية عدد يوم الثلاثاء، أن هذه اللجنة عليها أن لا تعير أي اهتمام لما يكتب في الصحف الوطنية والدولية حول ما حدث بسيدي إفني.

وهذا يبرز مدى احتقار كاتب الافتتاحية للدور الذي لعبته الصحافة في فضح التجاوزات التي وقعت في سيدي إفني خلال حصارها من طرف أربعة آلاف من رجال العنيكري وحسني بنسليمان والشرقي الضريس. فلولا الصحافة، التي يطلب لسان حزب الاستقلال من لجنة تقصي الحقائق إهمال شهادتها، لما استطاع الرأي العام أن يقرأ شهادات لمواطنين تعرضت بيوتهم للتخريب وممتلكاتهم للنهب وأعراضهم وكرامتهم للإهانة.

ولعل ما يبعث على القلق ونحن نقرأ افتتاحية لسان حزب الاستقلال الذي يترأس أحد نوابه لجنة تقصي الحقائق، هو حديثها عن المبالغات الكثيرة التي تحتوي عليها الروايات التي تناقلتها «الألسن»، مستشهدا بالزيارة التي قام بها نواب برلمانيون للمدينة وقفوا خلالها على عدم وجود حالات اغتصاب أو قتل. في تجاهل تام للصور التي التقطها بعض هؤلاء النواب للمواطنين الذين تم تعذيبهم في مخفر الأمن وتهديدهم بإجلاسهم على القناني، وحشر عصيهم في أماكن حساسة من أجسادهم.

أولا، إذا كان حزب الاستقلال يحترم روح فكرة لجنة تقصي الحقائق، كما هي متعارف عليها عالميا، فيجب عليه أن يكف عن وصف ما وقع في سيدي إفني بالمبالغات أو غيره من الأوصاف، لأن الذي يحق له أن يقول لنا هل كانت هناك بالفعل مبالغات أو انتهاكات أو مجرد ملاطفات ومداعبات أمنية هي لجنة تقصي الحقائق.

لأنه سيكون من باب الوقوف عند ويل للمصلين، أن نكتفي بطمأنة الرأي العام بكون سيدي إفني لم تعرف حالات اغتصاب أو قتل، لكي ننتهي إلى الخلاصة البديهية التي وصل إليها عباس الفاسي عندما قال في التلفزيون بأن ما حدث ليس سوى تعبير عن مطالب لشباب عاطل عن العمل. أو كما قال مزوار وزير المالية في برنامج «حوار» من أن رجال الأمن لم يقوموا سوى بواجبهم الوطني. وكأن تعرية النساء في مخافر الأمن أمام إخوانهن وآبائهن أصبحت واجبا وطنيا في نظر سعادة الوزير.

إن إعفاء الكولونيل بلماحي، القائد الجهوي للقوات المساعدة بجهة سوس ماسة درعة، من مهامه وإدخاله إلى الرباط، وإعفاء مسؤول أمني إقليمي من تزنيت من مهامه هو الآخر، ليس سوى دليل على أن رجال هؤلاء اقترفوا أخطاء مهنية، وإلا لما صدر في حقهم أمر بالتنقيل.

في الديمقراطيات الحقيقية، لا تكتفي المؤسسات الأمنية بتنقيل موظفيها عندما يقترفون أخطاء مهنية، وإنما تحاسبهم وتحاكمهم إذا اقتضى الأمر، انسجاما مع ما ينص عليه القانون. ولعل أول شيء يجب أن تقوم به وزارة الداخلية الوصية على الإدارة العامة للأمن الوطني، هو أن تقوم بتحقيق معمق مع كل رجال الأمن الذين سارعوا، بعد السبت الأسود، إلى وضع طلبات للانتقال من سيدي إفني للعمل في مدن أخرى.
يجب أن يشرح هؤلاء لإدارتهم أسباب ودواعي هذه الرغبة الجماعية في الفرار من سيدي إفني هذه الأيام بالضبط. هل هي فقط رغبة عابرة أم أن بعضهم «اقترف» ما يخشى عاقبته على نفسه وأبنائه إن هو ظل في سيدي إفني.

خصوصا وأن السكان الذين تعرضوا للتعذيب والشروع في الاغتصاب، والتنكيل النفسي بواسطة الشتائم والعبارات العنصرية الحاطة من الكرامة، مستعدون لتزويد لجنة تقصي الحقائق بأسماء رجال الأمن الذين ساهموا في هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

أمام لجنة تقصي الحقائق إذن امتحان صعب وحاسم لإثبات جدوى مؤسسة دستورية اسمها البرلمان، أهينت سمعته عندما تشكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق بعد انفجار فضيحة القرض العقاري والسياحي، انفض شملها دون أن تستطيع إيصال لص واحد أمام القضاء أو إعادة درهم واحد إلى خزينة الدولة.

لذلك فالمسؤولية الملقاة على عاتق لجنة تقصي الحقائق التي شكلها البرلمان ثقيلة جدا. ويجب أن تكون نتائجها في مستوى انتظارات الرأي العام. لأن ما وقع في سيدي إفني شيء مخجل كلف صورة المغرب ثمنا باهظا جدا، وأعاد عقارب الزمن المغربي حقبة كاملة إلى الخلف، وضرب عرض الحائط في يوم واحد بكل الجهد الذي تم بذله لسنوات على مستوى حقوق الإنسان وحرية التعبير. بمعنى آخر، هناك اليوم في المغرب من يجب أن يمثل أمام القضاء بتهمة العبث بصورة المملكة في الداخل، وتشويه سمعتها في الخارج. لأن الصورة التي أعطاها هؤلاء عن الأجهزة الأمنية في المغرب هي صورة عصابات خارجة عن القانون، تزرع الرعب أينما حلت، وتبيح لرجالها الاستعمال المفرط للعنف الجسدي واللفظي في حق النساء والأطفال والشيوخ.

إذا استطاعت لجنة تقصي الحقائق أن تجعل مقترفي التجاوزات والانتهاكات يحاسبون على أخطائهم وينالون العقاب الذي يستحقون، فإنها ستنجح في أن تعيد لمؤسسة البرلمان شيئا من قدسية المهمة النبيلة المسنودة إليه. وهي مراقبة ومحاسبة عمل الحكومة ومؤسسات الدولة، بما في ذلك مؤسساتها الأمنية الفالتة من عقال أية مراقبة أو محاسبة.

إن أحسن شيء يمكن أن يعيد الثقة للمغاربة في برلمانهم وفي السياسة بشكل عام، هي أن يمارس البرلمان سلطته كأداة للرقابة والمحاسبة والردع. لأن السلطة، في كل الدول، من طبيعتها التجاوز، لكن يجب أن تجد أمامها مؤسسات للردع، أهمها وأقواها على الإطلاق مؤسسة البرلمان.

ولعل أخطر شيء يجب أن تحاذر لجنة تقصي الحقائق السقوط فيه، هو إمكانية تحويلها إلى مجرد أنبوب لإطفاء الحرائق في يد الدولة، تخمد به ألسنة الغضب الذي أضرمه جنرالات تجاوزوا سن التقاعد، خبرتهم الوحيدة في حفظ الأمن هي «سوابقهم» المسجلة بمداد العار في سجلات التاريخ الدامي للمغرب.

يجب أن تضع لجنة تقصي الحقائق كل مسؤول أمام مسؤولياته فيما وقع في سيدي إفني. بغض النظر عن رتبته أو مكانته في هرم السلطة. بغض النظر عن نياشينه وفراشاته وأوسمته الملكية. بغض النظر عن نفوذه وجبروته. لأن سمعة المغرب وصورته ومستقبله أهم من كل النياشين والأوسمة.

لقد انتهى ذلك الزمن الذي كان يقول فيه الحسن الثاني بأن محاكمة 500 ألف من الصعاليك لا تخيفه، المغرب اليوم محتاج لكل أبنائه، بما فيهم الذين يغضبون منه ويحتجون عليه ويطالبونه بمكان صغير في قلبه.

لكن يبدو أن الحسن الثاني انتقل إلى دار الحق في الوقت الذي لازال فيه بعض جنرالاته في دار الباطل على قيد الكابوس.
أفيقوا أيها السادة، فهذا الكابوس لن يسمح المغاربة بأن يتكرر. ببساطة لأن الشعب لم يعد ينام بالحقن والمهدئات. وما تسمعونه بين يوم وآخر من شعارات مدوية هنا وهناك، فليس سوى دليل على أنه متيقظ، يحلم بغد أفضل، لكن بعينين مفتوحتين عن آخرهما.

2008-06-25

راس البلا

ذهب المندوب السامي للتخطيط، أحمد الحليمي، إلى باريس لكي يلتقي مستثمرين ورجال أعمال فرنسيين ويقنعهم بشيء واحد، وهو أن المغرب يحقق نسبة نمو اقتصادي تعتبر من بين نسب النمو الأعلى في العالم. فالتقارير الدولية الأخيرة التي تكلمت عن المغرب، لم تكن رحيمة به إطلاقا، وصنفته جنبا إلى جنب مع الدول الإفريقية الخارجة توا من الحروب الأهلية والمجاعة.

وربما كان على المندوب السامي للتخطيط أن يطلع رجال الأعمال الفرنسيين، لكي يقنعهم بالرخاء الاقتصادي الذي يرفل فيه المغرب، على نتائج التقرير الذي نشر في باريس هذه الأيام والذي يضع المغاربة ضمن عشرة أهم زبائن محلات الموضة والمجوهرات الفرنسية الراقية.
فمثل هذه التقارير المتفائلة والتي تظهر الوجه المشرق للمغرب، هي الوحيدة القادرة على مجابهة تقارير البنك الدولي واليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (البنود) وغيرها من المؤسسات الدولية المتشائمة والحاقدة على المغرب ورخائه الاقتصادي.

فإلى جانب المغاربة الذين يقصدون باريس بحثا عن لقمة العيش ويعودون بعد عشر سنوات محملين بالشاي والند والصابون للأهل والأقرباء، هناك مغاربة يقصدونها مرة في الأسبوع لاقتناء الأحذية المصنوعة من جلد التمساح، وفساتين السهرة المصممة بأنامل «ديور» (الرجاء عدم الخلط بين ديور وديور الجامع)، وإيف سان لوران وأرماني (والإشارة هنا إلى شخص آخر طبعا غير أرماني وزير التشغيل)، وغيرهم من مصممي الأزياء الذين يكلف الفولار الواحد الذي يحمل توقيعهم ما تتلقاه عائلة مغربية من تعويضات على المرض من صناديق «الكنوبس» طيلة حياتها.

المغرب بخير، والاقتصاد يحقق نسبة نمو هائلة، والأوراش على قدم وساق. فقط الصحافة، التي تعتمد المؤسسات الدولية عليها كثيرا في إنجاز تقاريرها، لا تتحدث إلا عن القطارات التي لا تصل في موعدها. وطبعا لا نقصد قطارات ربيع الخليع التي أصبحت هذه الأيام تستعين بالتاكسيات لإكمال الرحلة، كما وقع في عين السبع بالدار البيضاء الأسبوع الماضي. وهذه ربما إحدى طرق ترشيد استعمال الكهرباء من طرف المكتب الوطني للسكك الحديدية. فعوض حرق الكهرباء يفضل ربيع الخليع حرق أعصاب المسافرين، فهذا يبقى أقل تكلفة. وإذا سارت الأمور بهذه الوتيرة، ونحن في بداية البرنامج الصيفي للشركة، فربما ندخل لا قدر الله إلى عهد استعمال الكارو الذي تجره البغال والحمير ضمن خدمات السكك الحديدية. هكذا تتحقق بشارة ربيع الخليع الذي تنبأ منذ أشهر، في إشهاره العجيب، بقطارات مجرورة بخيول سوداء. مع فارق بسيط في الفصيلة الحيوانية طبعا.

المغرب فوق السلك. هذه إذن هي «أغنية الصيف» التي بدأنا نسمعها تتردد في أكثر من منصة. بدأها وزير المالية مزوار في برنامج «حوار»، عندما تحدث عن الدروس التي يقدمها الاقتصاد المغربي لدول العالم الكبرى التي تتباكى على فقدانها لتوازنها الاقتصادي، ولم يفته طبعا أن يشكر قوات الأمن التي قامت بواجبها في سيدي إفني وأعادت الطمأنينة للمدينة. دون أن يكلف نفسه أن يشرح لنا كيف يحقق المغرب كل هذه النسبة المهمة من النمو، من دون بقية دول العالم، في الوقت الذي تخرج فيه مدينة بكاملها إلى الشارع لكي تحتج على غياب ضمادات وحقن وحبات أسبرين وأطباء في المستشفى العمومي، وتطالب بشق طريق، وتوسيع الميناء وتوفير الشغل لأبناء المدينة فيه.

لا بد أن هناك خللا ما في هذا النمو الاقتصادي الذي يبشر به وزير المالية. فإما أنه غير موجود سوى في مخيلة البعض، وإما أنه موجود بالفعل، لكنه يعود بالنفع فقط على تلك الفئة القليلة من المغاربة التي تذهب نهاية كل أسبوع إلى باريس لكي «تتقضى» في بوتيكات الشانزيليزي أزياء سهراتها ومجوهرات أعراسها الخيالية التي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة.

وفي الوقت الذي كان فيه وزير المالية يحاول إقناع المغاربة بترديد أغنية «كولو العام زين» التي رددها سابقوه ومل المغاربة سماعها، كان الحليمي في باريس يردد ترجمة الأغنية بالفرنسية على مسامع رجال المال والأعمال، حتى لا «ينخدعوا» بنشيد الحوريات وينجذبوا وراء صفارات إنذار المؤسسات الدولية التي تحذر تقاريرها المستثمرين الأجانب من المغامرة بأموالهم في بلاد الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.

ولعل آخر من ردد هذه الأغنية على مسامع المعارضة هو الوزير الأول عباس الفاسي عندما استقبل أقطابها في مقر وزارته الأسبوع الماضي. وقد اشتكى إليهم هذا الإصرار على رؤية الجزء الفارغ من الكأس دون جزئه المملوء. وعباس معذور في شكواه، فهو رغم سنواته الطويلة في السياسة لم يستوعب بعد مغزى تلك الحكمة المغربية التي تقول «يديرها الكاس أعباس».
والواضح أن «الإخوان» في الحكومة والدولة وبقية المؤسسات الموالية لهم، من «حركة لكل الديمقراطيين» و«المركز الاستشاري لحقوق الإنسان» وصحافة «البوماضا» وغيرهم، يريدون بأي ثمن أن يجبروا الجميع على رؤية مغرب آخر لا يوجد سوى في صالوناتهم المغلقة في الرباط والدار البيضاء.

لأن المغرب الذي نراه كل يوم ونعيش فيه كل يوم لا تظهر عليه آثار هذه «النعمة» الاقتصادية التي ذهب المندوب السامي للتخطيط إلى باريس ليبشر بها الفرنسيين. اللهم إذا كان توظيف ابنه مؤخرا في صندوق الإيداع والتدبير في منصب للمسؤولية، يعتبر أحد مؤشرات التنمية المستدامة. أدامها الله نعمة على الباكوري وعلى أصحابه أجمعين. فكذلك يكون «ترويج» أموال اليتامى والمحاجر والأرامل وإلا فلا.

ولكي يستمر المغرب في تسلق سلالم هذا النمو الاقتصادي، فهناك عدة تدابير تم اتخاذها لترشيد النفقات في كثير من المؤسسات. منها إدارة السجن المحلي بسلا التي اتخذت قرارا بمنع السجناء من إدخال الخضر والزيت إلى السجن. لأن هذه المواد يستهلك طهيها الطاقة الكهربائية.

والكهرباء كما تعلمون يكلف ميزانية المكتب الوطني للكهرباء الكثير من المال. ولذلك كان ضروريا اتخاذ هذا القرار لترشيد النفقات. ومن أجل المحافظة على الطاقة الكهربائية يمكن أن يذهب البعض في المغرب إلى التضحية بالسعرات الحرارية لأجسام السجناء. ولو أن الأجدر بترشيد نفقاته هو السيد يونس معمر، مدير المكتب الوطني للكهرباء، والذي وصلت فواتير تلفونه «البلاك بوري» الشهرية إلى 40 مليون سنتيم. فضلا عن بعض مديريه الذين وصلت فواتيرهم إلى 25 ألف درهم في الشهر، بسبب تقنية «البلاك بوري» التي تمكن مستعمليه من التواصل والتوصل بالمعطيات بالأقمار الصناعية. وبدقة للنيف طبعا.

ومن غريب الصدف أنه في الوقت الذي يبشر عباس الفاسي بزمن الرخاء الاقتصادي ويدعونا لرؤية نصف الكأس المملوءة يبادر هو منذ أسبوع لجني ثمار هذه النعمة. ولهذا السبب أعطى عباس الفاسي أوامره المطاعة (على الأقل لازالت أوامره مطاعة في عقر داره) ببناء سياج حديدي فوق سور مقر الحزب بباب الحد. حتى يحصن الحزب من هجمات جحافل المعطلين المفاجئة التي تنتهي باقتحام القلعة الاستقلالية وأخذها كرهينة مقابل وظائف عمل.

فقد فهم المعطلون وأصحاب المطالب أن الحل الأخير هو أن «يتبعو الكذاب حتى لباب الدار»، وإذا اقتضى الأمر أن يقتحموا الدار ويصعدوا للسطح.

لذلك يستطيع الحليمي ومزوار وعباس الفاسي وحرزني وغيرهم أن ينشدوا معزوفتهم المملة، فلا أحد عاد يصدقها. وأحسن طريقة لإقناع المغاربة والأجانب بعكس ما تقوله التقارير الدولية، هو تحسين واقع المغاربة عوض تحسين انعكاس صورة هذا الواقع. فالواقع اليومي عندما سيتحسن فإن صورته المنعكسة في مرايا التقارير الدولية ستتحسن بدورها تلقائيا. وهذا طبعا ليس حلا سحريا يجب أن تكون دافيد كوبرفيلد لكي تقوم به، وإنما وصفة سهلة وبسيطة يقتضي إعدادها أن تضحي تلك الفئة القليلة المستفيدة من خيرات هذه «التنمية المستدامة» عليها وعلى أبنائها، بنصيب من الكعكة لبقية المغاربة الذين يتحلقون حول مائدة الوطن ويلتقطون الفتات.

من العار أن يتحدث هؤلاء عن تحقيق المغرب لنسبة نمو مرتفعة عالميا وفي الوقت نفسه نسمع أن هناك مواطنين في دواوير في إقليم أزيلال لازالوا يستعملون نعوش الموتى في نقل النساء الحوامل والمرضى إلى مستشفى المدينة.

إذا كان النمو الاقتصادي يقود بالضرورة إلى مثل هذه النتائج، فيجب على ماركس أن يندم في قبره على تأليفه لكتابه «رأس المال». لأنه لو كان لايزال حيا وشاهد النموذج الاقتصادي المغربي لألف كتابا يكون عنوانه «راس البلا».

2008-06-23

شاي في الصحراء

توجد اليوم أمام أنظار القاضي الإسباني «بالتزار غارسون» رسالة من جبهة البوليساريو تحتوي على الترجمة الحرفية من العربية إلى الإسبانية لجزء من شهادة خليهن ولد الرشيد قدمها خلال جلسات الاستماع المغلقة التي عقدتها هيئة الإنصاف والمصالحة لبعض الشخصيات التي تملك بعض المفاتيح السرية لدهاليز سنوات الرصاص.

فماذا قال خليهن ولد الرشيد في شهادته حتى تتلقفها جبهة البوليساريو وتحطها «سخونة» أمام أنف قاضي مهنته الأساسية هي مطاردة الساحرات من بلد إلى آخر، كان آخرهم الديكتاتور بينوشي الذي لم يفكه منه سوى عزرائيل. لقد قال خليهن ولد الرشيد أشياء خطيرة بالفعل، فهو لم يكن يتصور في تلك السنوات التي كان يقضيها مبعدا عن حظيرة المخزن، بعد تولي الملك محمد السادس الحكم، أنه سيعود ليرفع رأسه ثانية ويتنفس خارج الماء. ولد الرشيد لا يعرف أن الماضي إذا لم تتصالح معه فإنه يعود ليحاصرك ويحرجك في المستقبل. وهاهي تصريحات خليهن ولد الرشيد تعود لكي تحرجه أمام الدولة المغربية التي قايضت أحلامه الثورية في تخوم الصحراء، عندما كان أمينا عاما لحزب «البونس» الإسباني في العيون، بتسليمه قيادة مجلس الشؤون الصحراوية ليسيره من فيلته بحي السويسي بالرباط. ولأن خليهن يعتبر «الكوركاس» امتدادا لبيته فقد شغل فيه ابنه، فالمثل المغربي يقول «صدقة صدقة فالمقربين أولى».

خطورة شهادة خليهن تتجسد في كونها تشير بوضوح لضلوع مسؤولين أمنيين مغاربة في جرائم اختطاف واعتقالات في الصحراء سنوات الرصاص. وبعبارة أوضح يقول خليهن في شهادته أن هؤلاء المسؤولين الأمنيين شاركوا في اعتقال وتصفية مواطنين صحراويين عبر إلقائهم بطائرات الهيلوكوبتر في عرض البحر. هكذا يكون ولد الرشيد بشهادته قد وضع نفسه رهن إشارة قاضي التحقيق الإسباني كشاهد إثبات في القضية التي يحقق فيها منذ أشهر على خلفية الشكاية التي تقدمت بها «جمعية عائلات المفقودين في الصحراء»، والتي تتهم ثلاثة عشر مسؤولا أمنيا بالضلوع في اختطاف وتصفية مواطنين صحراويين.

بعبارة أوضح فخليهن ولد الرشيد «يغرق الشقف» للجنرال حسني بنسليمان والمدير السابق للأمن الوطني حفيظ بنهاشم، المسؤول الحالي عن المندوبية العامة للسجون، وعبد العزيز علابوش المدير السابق لإدارة حماية التراب الوطني، وبقية الثلاثة عشر.

فهؤلاء في النهاية هم المسؤولون الأمنيون الذين كانوا «يسهرون» على تطبيق التعليمات العليا خلال سنوات الرصاص في الصحراء وغيرها من مناطق المغرب، ويزيدون عليها من «رؤوسهم» الكثير من «التبزيرة» عملا بقاعدة الزيادة في العلم بدل الاكتفاء به.

ولهذا نفهم شراسة البيان الذي «اقترفه» أحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، للتعليق على نشر «الجريدة الأولى» لشهادة ولد الرشيد وبوطالب وشهادات غيرهما من الذين قبلوا بإزالة لقب «الصامت عن الحق» من سيرتهم الذاتية، تاركين للشياطين الخرس الأخرى الكثيرة أن تظل سادرة في صمتها. ومن هنا أيضا نفهم هجوم محامي الحكومة السابق محمد زيان على رجل في الثمانينات من العمر كعبد الهادي بوطالب، لمجرد أن هذا الأخير ذكر في شهادته أشياء عن الحسن الثاني لم ترق لبعض من يأكلون الشوك بفم زيان. فانبرى للرجل من يصفه بالزنديق وأوصاف أخرى نخجل من ذكرها.

ومن هنا نفهم أيضا هجوم حرزني على الصحافيين واتهامهم بالافتقار للحس الوطني وجريهم خلف رفع المبيعات، وهدد برد صارم لوقف هذه «المهزلة». مع أن المهزلة الحقيقية هي التي أوقع فيها حرزني المغرب اليوم. فلولا إصراره على النفخ في النار، وجرجرة الجريدة التي نشرت شهادة خليهن ولد الرشيد، حيث يتحدث عن الجلادين الذين ألقوا مواطنين من الجو في البحر، أمام القضاء، لما أخذت هذه القضية كل هذه الأبعاد الدولية التي ستضع مسؤولين أمنيين كبارا في واجهة الأحداث. وبمواجهة من، بمواجهة قاضي صارم يفضل عتاة الديكتاتوريين في العالم مواجهة عزرائيل على مواجهة صك اتهاماته.

وإذا كانت جبهة «البوليسارو» قد اعتبرت شهادة خليهن ولد الرشيد المهمة «دجاجة بكامونها» وأوصلتها مترجمة إلى مكتب القاضي غارسون، فإن ذلك كان في جانب كبير بفضل مساعدة حرزني القيمة، والذي لم يدخر جهدا في جعل الجميع يأخذ علما بهذه الشهادة.
وحرزني معذور ربما، فأمام إلحاح وغضب خليهن ولد الرشيد ومطالبته حرزني «التمتع» بصلاحياته كرئيس للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والمطالبة بوقف واسترجاع «أرشيفه». مع أن قانون الأرشيف الذي «لبقه» الأشعري وزير الثقافة السابق أسابيع قليلة قبل مغادرته للحكومة، وخرج من البرلمان، ولازال ينتظر قانونه التنظيمي من المجلس الدستوري. ولذلك «عرعر» حرزني على الصحافة والصحافيين، واتهمهم بالافتقار إلى الوطنية وبالسطو على ممتلكات المجلس الموقر الذي يشرف عليه.

وكأن تلك الشهادات ليست ملكا للمغاربة جميعهم، بما أنها تتحدث عنهم وعن معاناتهم مع نظام قمعي ذاق حرزني نفسه من «خليعه» المدسم، قبل أن «يهضم» هذا «الخليع» بـ«شاي في الصحراء»، حتى نبقى في أجواء خليهن ولد الرشيد (مع الاعتذار لبول بولز كاتب الفيلم ومخرجه بيرناردو بيرتولوتشي).

ولعل ما جعل خليهن ولد الرشيد يشتم بأنفه الصحراوي رائحة عاصفة رملية قادمة في الأفق بسبب هذه الشهادة «التعيسة» التي خرجت له في «عوده» في الوقت غير المناسب تماما، هو احتمال «تمتعه» بالجنسية الإسبانية إلى جانب جنسيته المغربية، بعد الطلب الذي كان وضعه في محكمة بمدينة «بورغوس». فالمعروف أن حوالي 25 من أعضاء الكوركاس وبعض الناشطين السياسيين الصحراويين يحملون الجنسية الإسبانية، ويعيشون في مدريد أكثر مما يعيشون في العيون أو الرباط. والنائبة البرلمانية عن فريق التقدم والاشتراكية كجمولة بنت عبي، واحدة من بين هؤلاء الذين يضعون رجلا في الرباط وأخرى في مدريد.

لذلك فإذا ثبت فعلا أن خليهن يحمل الجنسية الإسبانية فإن القاضي غارسون قد يستدعيه للاستماع إليه بوصفه مواطنا إسبانيا تسري عليه قوانين مملكة خوان كارلوس، وليس بوصفه مواطنا مغربيا تسري عليه قوانين مملكة محمد السادس.

الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من كل هذه الحكاية هو أن هناك من يطبق بشكل جيد الحكمة المغربية التي تصف أمثال حرزني بكونهم «يفيقون العمى لضرب الحجر». ويساهمون بتهجمهم على الصحافة في خلق متاعب إضافية للنظام الذي يدفع له راتبه الشهري.

وإذا كان على عائلات المختفين الصحراويين الذين لازالوا يبحثون عن رفات أبنائهم إلى اليوم، مثلما يبحث عنها آخرون في مدن مغربية مختلفة، أن تشكر شخصا معينا في إعادة قضيتهم إلى الواجهة، فهو أحمد حرزني. فبفضله «سلطت» العدالة ضوأها على هذه الشهادة التي لا يستطيع خليهن أن يتنكر لها، مادام صنع المستحيل لكي يسترجعها ويحول دون نشرها.

2008-06-21

الطنز

حيانا تأتي الضربات تحت الحزام للصحافيين ومؤسساتهم من الأشخاص الذين يمثلون هيئات حقوقية وسياسية من المفروض فيها أن تدافع عنهم. بحيث يتأكد لنا يوما عن يوم صدق ذلك الدعاء الذي كان يردده فولتير دائما عندما كان يقول «اللهم احفظني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا أتكفل بهم».

وفي الوقت الذي لم يفتح فيه أحمد حرزني فمه بكلمة واحدة للتعليق على كل التجاوزات التي قام بها رجال الشرقي أضريس والجنرالين العنيكري وحسني بنسليمان في سيدي إفني ضد السكان، جمع شجاعته بين يديه، حتى لا نقول شيئا آخر، واتهم الزملاء في «الجريدة الأولى» بالتدني الأخلاقي والوطني لمجرد أنهم نشروا شهادات حول سنوات الرصاص حصلوا عليها بوسائلهم الخاصة. وطالب مؤسستهم التي لم تكمل بعد شهرها الأول بدفع خمسة آلاف درهم عن كل حلقة تنشرها الجريدة.

هكذا تتحول مؤسسة كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، تم إحداثها أصلا للدفاع عن حقوق الإنسان، ومن بينها الحق في الخبر، إلى سيف مسلط على رقاب مؤسسة صحافية ناشئة، كل ذنبها أنها قامت بواجبها في إطلاع الرأي العام على تفاصيل مسكوت عنها تهم جزءا مهما من تاريخنا وذاكرتنا المشتركة. من جهته قام نقيب المحامين بالرباط، محمد زيان، برفع دعوى قضائية جديدة ضد مجلة لوجورنال، لا تشرف المهمة النبيلة لجسم هيئة الدفاع في المغرب، والذي كان دائما حليفا للصحافيين في محنهم. جسم هيئة الدفاع أقصد وليس زيان، لأن زيان كان في أحيان كثيرة من صناع محن الصحافة والصحافيين. وحسب المقال الافتتاحي الذي رفعه محامي زيان إلى رئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء، فمجلة «لوجورنال» كتبت حوله مقالا معززا بالصور، و»نشرت صورته على غلاف عددها الصادر في ماي الأخير.

وهذا المقال المرفق بصورة زيان ضاعف من مبيعات ذلك العدد بشكل مرتفع، بعدما كانت المجلة موشكة على الإغلاق بسبب تراكم الديون ونزول المبيعات». ولهذا السبب فإن النقيب زيان يطالب مدير المجلة باقتسام «غلة» ذلك العدد معه، مادامت صورته في الغلاف والمقال حوله قد تسببا للمجلة في أرباح قياسية لم تكن تنتظرها. أكثر من ذلك، فهو يطالب أيضا الزميل عمر بروكسي الذي كتب المقال بأداء مبلغ عشرة ملايين سنتيم مناصفة مع مدير «لوجورنال». ولا يكتفي نقيب محاميي الرباط باستدعاء الصحافي والمدير إلى منصة الاتهام، بل يجمع معهم محمد برادة مدير شركة «سابريس» للتوزيع. ويطالب بالحكم على الشركة بالدفع لأنها هي التي توزع المجلة وتحصل أموال مبيعاتها.

فما الذي ضر زيان في خاطره حتى يقوم برفع هذه الدعوى المضحكة ضد مجلة استقبل صحافيها في فيلته وفتح له قلبه وقدم له الشاي والحلوى والمعلومات، ليعود ويغير رأيه ويقرر «تخراج» أتاي والحلوى من المجلة بالمثني. ما يطمح إليه النقيب زيان من خلال هذه الدعوى هو إثبات شيء واحد فقط، وهو أنه شخص انتهازي. فبما أن المقال وصفه بهذه الصفة فإن زيان قرر أن يكون عند «حسن» الظن به، وأن يقدم الدليل الملموس على صحة هذا الوصف. ولذلك ارتأى أن أحسن طريقة لإظهار انتهازيته هي أن «ينتهز» الفرصة ويطالب باقتسام أرباح العدد الذي نشر فيه المقال حوله معززا بصورته. ودفاع النقيب زيان يشير إلى ذلك صراحة في مقاله الافتتاحي حين يخاطب رئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء قائلا «حيث أن العارض محق في هذا الوضع أن يلتمس من القضاء الحكم على أسبوعية «لوجورنال» في شخص ممثلها القانوني بتوزيع أرباحها مناصفة بينها وبين العارض.

وحيث أن هذا الموقف جد انتهازي، وهو بالفعل ما قالت الصحيفة في العارض، فلا يمكن أن تتهرب مما كانت على علم به من انتهازية العارض في تصرفاته». فالنقيب زيان لا يجد حرجا في «إثبات» انتهازيته بالدلائل الملموسة، ومنها مطالبة المحكمة التجارية بإجبار المجلة على أن تقتسم معه عائدات العدد الذي تحدث عنه. فهو لا يبحث عبر هذه المحاكمة عن نفي «تهمة» الانتهازية عنه، وإنما على العكس من ذلك، يريد إثباتها بحكم قضائي. نتمنى أن يفكر النقيب جيدا في عواقب هذا الحكم إذا صدر لصالحه، لأنه سيؤكد، وبحكم قضائي، أن سيادة النقيب لن يكون في مستطاعه مستقبلا أن يعاتب أو يتابع قضائيا كل من يناديه بالأستاذ محمد زيان الانتهازي.

لأن هذه الصفة الأخيرة سيحصل عليها، لا قدر الله، بموجب حكم قضائي، وبطلب من دفاعه. وعلى سبيل الاحتياط، سجل زيان في مقاله الافتتاحي المرفوع لرئيس المحكمة التجارية، ملاحظة هامشية تقول بأنه في «حالة مناقشة المبلغ المطلوب، القول والحكم بتعيين خبير في الحسابات يقوم بالتأكد من كون أسبوعية «لوجورنال» كانت مبيعاتها ضعيفة، وأنه بمناسبة نشر صورة وتعليق عن حياة العارض (زيان) ارتفعت مبيعاتها وتحديد هذه المبيعات». ويبدو أن زيان، الذي يعتقد أن مجرد نشر صورته والحديث عن حياته كاف لرفع مبيعات الصحف والمجلات في المغرب، يجهل أن خبراء الحسابات إذا كانوا مؤهلين لمعرفة أرقام سحب ومبيعات المجلات والجرائد فإنهم عاجزون عن تحديد المقال أو الخبر أو الصورة التي تتسبب في ارتفاع المبيعات دون غيرها من المقالات والأخبار والصور الأخرى.

ولمعرفة ذلك يجب اللجوء إلى شركة متخصصة في استطلاع آراء قراء المجلة، وسؤالهم أولا عن معرفتهم بزيان، قبل أن يسألوهم هل هو وصورته من فتح «شهيتهم» لاقتناء المجلة. هذا على افتراض أن مبيعات المجلة ارتفعت بمناسبة حلول زيان وصوره ضيوفا على صفحاتها. فحسب موقع مؤسسة التحقق من الانتشار الفرنسية «OJD» عرفت مبيعات «لوجورنال» في الأشهر الأخيرة مراوحة بين 16،15،14 ألف نسخة أسبوعيا. بحيث أن تضاعف المبيعات الذي «يحلم» به زيان لا يوجد سوى في مخيلته.

ولو أن صورة محمد زيان وأفكاره وكتاباته تستطيع أن تضاعف مبيعات الجرائد والمجلات التي تستضيفه ليسود بياض أوراقها، لكان رفع مبيعات الجريدة اليومية التي يكتب فيها عمودا بين يوم وآخر. والحال أن هذه الجريدة منذ بدأ يكتب فيها زيان ويزينها بصورته تراجعت مبيعاتها بشكل ملحوظ. فبعد أن كانت، حسب مؤسسة «OJD» للتحقق من الانتشار تبيع 11،212 نسخة يوميا سنة 2006 أصبحت الآن لا تبيع أكثر من 8،900 نسخة. بزيان وبصورته. المشكلة هو أن الوجوه والشخصيات التي تساهم حقا في الرفع من مبيعات الجرائد والمجلات، لم يسبق لأحدها أن طالب جريدة أو مجلة باقتسام أرباح عائداتها معه.

وكم وجه نسائي معروف في عالم الفن أو الموضة أو الطبخ نشرت صوره على أغلفة المجلات وضاعفت فعلا من مبيعاتها، دون أن ترفع إحداهن دعوى ضد المجلة في المحكمة التجارية لاقتسام الأرباح. وبما أن زيان فتح الباب لهذا النوع من القضايا، وطالب المحكمة بإصدار حكم يؤكد الانتهازية التي وصفته بها «لوجورنال»، فإن مستقبل الصحافة في المغرب قد يصبح مهددا بمثل هذه القضايا التي يمكن أن يرفعها ضدك كل من تكتب عنه مقالا لا يروقه.

حتى ولو كانت المعلومات الواردة فيه حقيقية مائة بالمائة. وأنا أتابع منذ سنوات مقالات الزميل عمر بروكسي الذي كتب «البوتريه» الذي لم يرق لزيان، وأعرف أنه واحد من أجود كتاب «البورتريه» في المغرب. وما كتبه حول زيان كان متوازنا وغير متحامل، والدليل على حسن نيته أنه اتصل بزيان الذي استضافه إلى بيته وساق أجوبته في المقال دون تحريف. وما يستغرب له الإنسان في هذه البلاد هو أن المحاكم تقبل مثل هذه القضايا السخيفة، في الوقت الذي ترفض فيه النظر في القضايا الحقيقية التي تتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وليس صدفة أنه في اليوم الذي وصل فيه استدعاء المحكمة إلى مقر «لوجورنال» هو اليوم نفسه الذي قررت فيه محكمة الرباط عدم قبول دعوى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي رفعتها ضد الجنرال العنيكري الذي يعتدي رجاله على أعضاء الجمعية في الشارع العام. المشكلة مع بعضهم، كما قال «سنوب» هي «أننا نعتقد أننا نرسم كاريكاتور حولهم، لكي نكتشف في الأخير أننا في الحقيقة لم نرسم سوى شكلهم الحقيقي».

2008-06-19

عباس بن فرناس

إذا كان عباس بن فرناس أول إنسان طائر، فإن عباس الفاسي أول وزير طائر. ففي ظرف أسبوعين طار إلى اليابان و«عرج» منها إلى إيطاليا قبل أن «يحط» بالدار البيضاء. وما لبث أن حط حتى طار من جديد إلى ليبيا ليجلس إلى جانب القذافي ويستمع إليه يهاجم الاتحاد المتوسطي ويقول بأننا لسنا كلابا جائعة حتى نلتقط فتات ساركوزي، فنحن لدينا النفط والغاز. يقصد هو وبوتفليقة طبعا، أما عباس فكل ما اكتشفته حكومته هو تراخيص البحث والتنقيب عن النفط والغاز.

وما لبث أن عاد عباس من ليبيا حتى طار من جديد إلى سراقسطة بإسبانيا لحضور معرض الماء. ثم حط فطار من جديد إلى موناكو ليتسلم جائزته التقديرية التي منحت له جزاء لعملية «التحسين» التي قام بها للحياة اليومية للمغاربة منذ وصوله للحكومة. والمدهش في أمر هذه الجائزة هو أن الذي سلمها لعباس هو جاك بارو، الذي كان متابعا من طرف القضاء الفرنسي بتهمة «الإخلال بالسرية»، وتحويل حوالي مليوني جنيه إسترليني من أموال الدولة لحزبه. وحكم عليه بثمانية أشهر سجنا موقوفة التنفيذ، لم يعتقه منها سوى جاك شيراك بعفو. ساعات قليلة بعد عودته بجائزة «الحسانة فروس ليتامى»، طار مجددا إلى البينين، وهذه المرة ذهب في مهمة اقتصادية وهي محاولة إقناع سكان البينين باستيراد سلعة مغربية تحمل طابع «صنع في المغرب»، وهي مشروع «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية». فالمغرب، الذي يحتفل هذه الأيام بمرور ثلاث سنوات على انطلاق هذا المشروع، أضاف إلى لائحة صادراته، ودون علم وزارة التجارة الخارجية طبعا، بضاعة «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية».

وقد حرصت السلطات في بعض المدن على إعطاء هذه الذكرى السنوية الثالثة لانطلاق «المبادرة» الاحتفال الذي يليق بها كفكرة عبقرية. وفي آسفي وحدها خصصت الولاية مبلغ 300 مليون للتعريف بالمشاريع التي أنجزتها «المبادرة» في المدينة. ومنها إعطاء منحة قدرها 47 مليون سنتيم من أموال «المبادرة» للرابطة الفرنسية التي تدرس اللغات للراغبين في ذلك بالدفع المسبق. مع أن السفارة الفرنسية نفسها التي تنمح الرابطة مقرا تابعا لها لم تتبرع عليها سوى بثلاثة ملايين سنتيم.

ومن شدة حرص «مدبري» أموال «المبادرة» في آسفي على صرفها فيما ينفع الناس، عمموا سخاءهم على نادي كرة المضرب الذي لديه عائدات انخراط تعفيه من انتظار أية «مبادرة». هذا في الوقت الذي أوقف فيه المجلس الحضري للمدينة تزويد النافورات العمومية التي يسقي منها فقراء المدينة بالماء الشروب، بدعوى ترشيد النفقات.

هذه الأمثلة وغيرها كثير في مدن المغرب، والتي تثبت فشل «المبادرة» هو ما ذهب عباس الفاسي للبينين لكي يقنع حكومتها باستيرادها. وليس عباس وحده من أصبح يقترح تصدير أمثلة «العبقرية» المغربية على الدول الأجنبية، بل حتى وزير المالية صلاح الدين مزوار أصبح «يضرب» المثل بقدرة اقتصاد المغرب على التحكم في «عجزه». وذهب به الزهو خلال حلقة «حوار» الأخيرة إلى الافتخار بأن المغرب حقق نسبة عجز أقل من تلك التي حققتها الصين. وبذلك فالمغرب يعطي الدرس في هذا المجال للآخرين الذين لم يستطيعوا التحكم في نسبة التضخم لديهم. والواضح أن الذي يعاني من التضخم ليس فقط الاقتصاد الوطني ولكن وزير المالية نفسه أصبح لديه «حقه» من هذا التضخم. خصوصا في الأنا العليا. فسعادته لم يتعب من ترديد طوال مدة البرنامج بأنه يعطينا خمسين مليارا كدعم على البنزين، ويعطينا ثلاثين مليارا كدعم على السكر. وكأن الملايير التي يتحدث عنها سعادته خرجت من جيبه وليس من جيوب دافعي الضرائب.

والواقع أن مقارنة مزوار لاقتصاد المغرب الهش والتبجح بقدرته على المحافظة على التوازنات، هو الذي فتح صندوقا خاصا بتلقي الصدقات من دول الخليج ليتمكن من المحافظة على وقفته الموازنة وتحمل الدوار الذي أصابه بسبب ارتفاع فاتورة النفط، يعتبر تهكما وسخرية سوداء من الوزير على المواطنين كان من الأفضل له أن يتجاوزها. فسعادته يتحدث عن نسبة التضخم في الاقتصاد الصيني وينسى نسبة النمو التي حطم بها هذا الاقتصاد كل التوقعات الاقتصادية العالمية. هذا الاقتصاد الضخم الذي يدير شؤون مليار ونصف مليار نسمة بخمسة عشر وزيرا فقط. فيما الحكومة التي شارك فيها مزوار فيها 32 وزيرا لبلد يصل عدد سكانه إلى ثلاثين مليون نسمة.

ولعل واحدة من أطرف الفتوحات الاقتصادية التي حققها الوزير مزوار هو أنه إلى جانب الرفع من أسعار المواد الغذائية الأساسية، سجل انخفاضا في أثمان الثلاجات والأفران. وكأن المهم بالنسبة للمستهلك هو الثلاجة أو الفرن وليس ما سيضع داخلهما. فماذا تنفع ثلاجة أو فرن إذا كان صاحبها لا يستطيع أن يشتري ما يضع داخلهما من أكل.

والشيء نفسه ينطبق على اختباء مزوار وراء تخصيص الدولة عبر صندوق الموازنة لأكثر من سبعين بالمائة من ميزانيته السنوية لدعم الغازوال الذي يستعمله أصحاب السيارات، لتبرير «الصرف» على المواطنين. لأن مجموع السيارات التي توجد في المغرب لا يتعدى مليوني سيارة. فأين نصيب 28 مليون مواطن مغربي من «بركات» دعم صندوق الموازنة على المحروقات.

وقد كنت أنتظر وأنا أتابع البرنامج بالصدفة، أن يتدخل أحد الصحافيين، وبينهم واحد متخصص في الاقتصاد يا حسرة، لكي ينبه وزير المالية إلى أنه يغالط الرأي العام عندما يقول أن الصحافة بالغت عندما اتهمته بمنح 24 مليار درهم كهدايا ضريبية للشركات الكبرى وأنه رقم غير معقول، لأن مداخيل الدولة السنوية من الضرائب لا تعدى ثلاثين مليار درهم، لا غير. لأن الصحافة عندما تحدثت عن زيادة وزير المالية للضريبة على الليزينغ بالنسبة للمواطنين متوسطي الدخل، وبالمقابل تبرعت على البنوك والشركات الكبرى بتخفيضات ضريبية، فقد قدرت هذا «الكاضو» الضريبي بحوالي 24 مليار درهم، لكنها لم تكن تتحدث عن سنة واحدة وإنما على امتداد خمس سنوات.

ولعل واحدة من حسنات برنامج «حوار» هو أنه كشف عن قدرة الوزير مزوار الهائلة على نفي الوقائع، حتى ولو كان الشهود حاضرين أمامه بين الجمهور. فقد نفى نفيا قاطعا أن يكون قد انتقد وزير المالية السابق فتح الله والعلو في جريدة محمد أوجار، التي قال فيها أن سلفه ترك له وضعية اقتصادية ثقيلة. ونفى أن يكون الاجتماع الذي دعاه إليه المنصوري رئيسه في الحزب في بوزنيقة اجتماعا ضروريا، لذلك فضل عليه اجتماع «العرجات» مع عالي الهمة وجماعته. بدعوى أن أخلاقه لا تسمح له بحضور اجتماع ليس لديه ما يقول فيه. بمعنى أن سعادة الوزير يعترف بأن اجتماعات حزبه ليس فيها ما يستحق الأهمية، فهي ليست كاجتماعات «العرجات» التي تشكل، حسب الوزير «حركة جاءت لتغني النقاش»، وأنه من غير المقبول حصرها في شخص واحد هو فؤاد عالي الهمة.

ولكي يبرهن مزوار على أن اقترابه من «حركة لكل الديمقراطيين» ليس شيئا جديدا، استدل باقترابه من حركة «بدائل» التي أرادت أن تساهم بدورها قبل سنوات في «إغناء» النقاش. ولم يشرح لنا مزوار لماذا «خمدت» حركة «بدائل» بعدما لم تلاق الاهتمام نفسه الذي لاقته «حركة» الهمة، خصوصا في قنوات القطب الإعلامي المتجمد. لذلك فانزعاج مزوار من ربط الحركة بشخص واحد هو الهمة ليس له ما يبرره، لأن «حركة لكل الديمقراطيين» بدون شخص كالهمة كان مصيرها سيكون مثل مصير «بدائل» وغيرها من الجمعيات والحركات التي ترفع شعار المشاركة في «تدبير» الحياة السياسة المغربية. أي «دبر عليا ندبر عليك».

في الأخير نكتشف أنه لدينا وزراء يطيرون بدون توقف من بلاد إلى أخرى، ووزراء يطيرون من «المقلة» ويحاولون تحويل الفشل الاقتصادي إلى نمو، والتغطية على اختلال ميزان الصادرات والواردات بتصدير المشاريع «العبقرية» لجمهورية البينين، والخلط في الحديث أمام الرأي العام بين التضخم في الأنا والتضخم في العجز الاقتصادي.

الوجه والقناع

خلال الوقت الذي قضاه زميلنا المصور كريم سلماوي في «ضيافة» الفرقة الوطنية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، سأله المحققون عن كل شيء تقريبا. حتى عن المساحة الإجمالية للبيت الذي يسكن فيه. بقي لهم فقط أن يسألوه عن النمرة التي يلبسها في حذائه.
لكن أهم شيء قاله المحققون لزميلنا، وربما أخطره، هو أن هيبة الأمن يجب أن تصان، لأن المغرب يستطيع العيش بدون صحافة، لكنه لا يستطيع العيش بدون أمن.

هذا الكلام الخطير ليس اجتهادا «فلسفيا» لأحد المحققين المبتدئين، وإنما هو رسالة واضحة أرادت الجهات التي تتحكم في عمل الفرقة الوطنية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة إرسالها عبر جلسة الاستماع هذه. هذه الرسالة مفادها أن هناك جهات في الدولة تستطيع أن تضحي بالصحافة، الحقيقية طبعا، من أجل المحافظة على الأمن. مما يعني أن هذه الجهات تتهم الصحافة، الحقيقية طبعا، بتهديد الأمن والسلم الاجتماعي. وتعتبرها السبب الرئيسي وراء كل الكوارث الاجتماعية الذي يعيشها المغرب اليوم.

وهنا من الضروري تسجيل ملاحظة أساسية، وهي أن الذي يعتقد أن المغرب يمكن أن يضحي بالصحافة في سبيل الأمن لا يمكن إلا أن يكون جاهلا بدور الصحافة في المحافظة على الأمن والاستقرار. فهي المرآة العاكسة الضرورية للبلاد لكي تتقدم في الطريق الملتوي للديمقراطية.

إن دولة فيها أمن وليس فيها صحافة، حقيقية طبعا، تسمى دولة ديكتاتورية يسودها حكم استبدادي لا يؤمن سوى بالرأي الواحد والموقف الواحد، ذلك الذي تردده صحافة الدولة عبر أبواقها.

ودولة فيها صحافة وليس فيها أمن تسمى دولة سائبة تسودها الفوضى ويفعل فيها كل جهاز ما يراه مناسبا لمصالحه ومصالح القائمين عليه.
ولعل ما فات سعادة المحقق العبقري الذي «نقل» فكرة أن المغرب يستطيع أن يعيش بدون صحافة لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون أمن، هو أننا في المغرب نستطيع أن نعيش دون أن نضحي لا بالصحافة ولا بالأمن. وهذا ما يسمى ببساطة شديدة «الديمقراطية». هذا الاختراع البشري الذي لازال يكفر به البعض عندنا بحجة أن المغاربة لازالوا غير قادرين على استيعاب «كيفية الاستعمال»، كما لو أن الديمقراطية آلة غسيل وليست نظام حكم.

عندما يسأل المحققون زميلنا كريم عن سبب أسفاره إلى بلجيكا وفرنسا، وعن معرفته المسبقة بالعميد «الممتاز» و«استهدافه» عنوة بآلة تصويره، وعن وقوف تلك الصورة خلف التهديدات التي أطلقها زعيم تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ضد العميد، فإننا نشتم رائحة طبخة غير «زكية» تنبعث من هذا الملف.

بقي فقط للسادة المحققين أن يتهموا «المساء» مباشرة بالتعاون مع «القاعدة» وبكون أسامة بلادن هو من يمول هذه الجريدة بحساب سري من مغارته في مجاهل أفغانستان.

يجب أن تكون الأشياء واضحة في ذهن الجميع، حتى لا يختلط الأمر على بعضهم فيتخيلوا أخطاءهم على شكل نجاحات باهرة، وفشلهم على هيئة نصر مبين، وعجزهم المزمن «همة عالية».

نحن متأسفون لأن التصرف العدواني للسيد العميد الذي نقلته عدسة المصور خلق له كل هذه المشاكل، منها تعريض حياته للخطر. خصوصا بعد أن دخل تنظيم القاعدة على الخط ببيانه المهدد، والذي لا نملك غير إدانته.

ونحن هنا نود أن نذكر السيد العميد والذين يريدون تحميلنا المسؤولية عن التهديدات التي تلقاها، بطريقة تعامل الصحافة الدولية مع الصور التي تثبت تورط رجال الأمن في مخالفات أو اعتداءات على الكرامة الإنسانية.

عندما حصل الصحافي سيمون هيرش على صور تكشف فضائح تعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب على يد جنود أمريكيين وسارع إلى نشرها في «النيويوركر»، لم يتهمه أحد بتعريض حياة الجنود الأمريكيين والبريطانيين المحتلين للعراق للخطر. على الرغم من أن هجمات المقاومة ضدهم ازدادت حدتها وشراستها بعد اندلاع فضيحة صور أبو غريب. بعدها ستنفجر فضيحة تعذيب المعتقلين في سجن غوانتانامو بطرق حاطة بالكرامة البشرية، وبعدها فضيحة تدنيس القرآن الكريم على يد جنود أمريكيين.

ولم نسمع أن جهازا أمنيا أو استخباراتيا واحدا تجرأ على اتهام الصحافة التي نقلت صور هذه الفضائح وأسالت مدادا كثيرا حولها، بالتسبب في نشر ما يهدد سلامة جنودها في العراق ومواطنيها في دول العالم.

الفرق بين هؤلاء وبين أجهزتنا الأمنية المغربية هي أنهم يضعون أرجلهم في الوحل ويريدون أن يظلوا طاهرين.

إن أول درس يتعلمه الوافدون على مراكز تكوين الشرطة والدرك والجيش هو أنهم يضعون حياتهم وأمنهم وسلامتهم في خدمة سلامة وأمن الوطن ومواطنيه. ولذلك فمن المضحك أن نرى جهازا أمنيا يتزلزل لمجرد أن قائدا مغمورا لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي أرسل بيانا مهددا بقطع رأس العميد. في الوقت الذي خرج بلادن «شخصيا» بعد نشر صور أبو غريب، وهدد أمريكا وأوربا وسائر البلدان التي تتعامل مع غير المسلمين بالويل والثبور وعظائم الأمور. ومع ذلك لم تسارع هذه البلدان إلى استدعاء الصحافيين والمصورين الذين نشروا الصور التي كانت وراء تهديدات زعيم تنظيم القاعدة.

وأول شيء قامت به وزارة الدفاع الأمريكية هو اعتقال المتورطين في تعذيب المعتقلين العراقيين، والذين ظهرت وجوههم في الصور، وتقديمهم للمحاكمة ثم الحكم عليهم بالسجن.

عندما نقارن بين تعامل المحققين الأمريكيين في قضية أبو غريب، مع المحققين المغاربة في قضية صورة العميد، فإننا ندرك أنه لا مجال للمقارنة بحكم الفرق الشاسع بين الوضعين. لكن في العمق تبقى المقارنة ضرورية لأنها تكشف عن درس صحافي عميق لخصته تلك الحكمة الصينية القديمة التي تقول «عندما يشير أصبع إلى القمر فإن الغبي يكتفي برؤية الأصبع وينسى القمر».

وعوض أن يكتفي بعض الأمنيين برؤية «المساء» التي نشرت الصورة، عليهم أن يروا الصورة ويتمعنوا في مغزاها. وسيجدون أنها امتداد لصور أخرى جاءت من سيدي إفني تصور ما قام به بعض زملائهم في المهنة مؤخرا هناك. ما يزعج في الصور التي يلتقطها بحرفية عالية زميلنا كريم هو كونها صور تعكس الوجه البشع والمتسلط والدموي لأجهزة الأمن بالمغرب. ولذلك فهناك من يتقزز من رؤية صورته الحقيقية عندما تنشر على الملأ.

عندما يريد جهاز الأمن أن يحسن صورته أمام الرأي العام عليه ألا يكرر الخطأ نفسه الذي وقع فيه ذلك الغبي الذي وصف له الطبيب مرهما لكي يعالج به «نفطة» خرجت له في مكان تعرفونه جميعا، بحيث أصبح عاجزا عن الجلوس مثل جميع الناس. وقد كان صاحبنا يستعين بمرآة لكي يضع المرهم فوق «النفطة»، نظرا لصعوبة رؤيتها رأي العين. لكنه لفرط غبائه عوض أن يضع المرهم فوق «النفطة» التي في المكان المعلوم كان يطليها فوق «النفطة» التي تظهر في المرآة. وهكذا بقي يصنع إلى أن امتلأ جسده كله بالبثور.

العيب ليس في آلة التصوير يا سادة، العيب في اللقطة. والمشكل ليس في عين المصور ولكن في قبضة رجل الأمن. وإحراق آلة التصوير ووضع عصابة على عين المصور لن تضع حدا للمهزلة.

إذا كان هناك بين عمداء الأمن من يعتقد أن مهنته لا تحفها المخاطر كل يوم، وأنه يضع حياته في كفه كلما خرج ليقوم بواجبه في حماية الوطن والمواطنين، وأن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي أو في آسيا الوسطى أو الثلث الخالي سيرسل إليه بطاقة تهنئة بعد تعنيفه لامرأة يوجد زوجها رهن الاعتقال بتهمة الإرهاب، فعليه أن يغير مهنته.

ولعل ما يوحد بين وظيفة رجال الأمن والصحافيين هو أنهم جميعهم معرضون للتهديد. ونحن نترفع عن الحديث عن كل التهديدات التي تصلنا بالهاتف والبريد والفاكس وبغيره، لأننا نعتبر أن المهنة التي اخترناها ليست فقط مهنة المتاعب كما يقولون، وإنما أيضا مهنة المخاطر.
لا أحد ضربنا على أيدينا لكي نختار هذه المهنة. كما أنه لا أحد ضرب السيد العميد على يده لكي يختار سلك الأمن. الفرق الوحيد بيننا وبين عمداء الأمن هو أن الصحافيين مسلحون بأقلام الرصاص، فيما السادة العمداء مسلحون بمسدساتهم المحشوة بالرصاص.
وما يجب أن يتسلح به الجميع في هذه الظروف الصعبة التي تجتازها بلادنا هو الإرادة الصادقة في خدمة الصالح العام. كل من موقعه، وعلى حسب استطاعته. غير ذلك ليس سوى خيانة للأمانة لن يغفرها لنا لا الله ولا عبده.

2008-06-18

مبروك التحسينة

لم أسمع من قبل بجائزة «كرانس مونتانا» بموناكو ولا أعرف شروط الترشح للظفر بها. لكنني اليوم عندما سمعت خبر فوز عباس الفاسي بها، اعترافا له بالدور الكبير في تحسين الحياة اليومية للمغاربة، عرفت أهم شروط الترشح للفوز بهذه الجائزة.

أول شيء يجب أن تكون سيرتك الذاتية مليئة بالكوارث، كأن تجر وراءك فضيحة من عيار فضيحة «النجاة»، وأن تترشح لرئاسة حزبك لولاية ثالثة حتى تضمن الخلود السياسي.

ويجب أن تكون أيضا خريج المعهد الوطني للماكياج وفنون الصباغة، ومعك دبلوم حكومي في التجميل. بحيث إذا ما اندلعت انتفاضة في مدينة ما تخرج في التلفزيون على المشاهدين وتقنعهم بأن الأمور عادية وأن المواطنين يعيشون في طمأنينة، وأن ما سمعوه من دوي للرصاص المطاطي وما رأوه من أدخنة للقنابل المسيلة للدموع ليس سوى وسائل عملية لتحسين الحياة اليومية للمواطنين. يعني أن الدولة تحسن للمواطنين، بدون ماء في الغالب. وعندما تحسن لسكان مدينة ما فإنها تريد أن تقول للآخرين الذين قد يفكرون في الاحتجاج أن «يرطبوا» وجوههم.

تحتاج أيضا إلى دبلوم متخصص في المانيكير، بحيث عندما تشهر السلطة مخالبها في وجه المواطنين يكون بمستطاعك فيما بعد أن تنظفها من بقايا الدماء والأشلاء التي علقت فيها في عيادتك الحكومية.

ولعل هذا ما صنع عباس الفاسي عندما خرج في التلفزيون يقول بأن لا شيء حدث على الإطلاق في سيدي إفني، في الوقت الذي كانت فيه مخالب رجال العنيكري والشرقي أضريس والجنرال حسني بنسليمان تعبث بأجساد المواطنين. فمهمته الأساسية في هذه الحكومة أصبحت هي تنقية مخالب هؤلاء الكواسر وطليها بالفيريني حتى تبدو أكثر لمعانا.

كما يجب أن يتوفر المرشح على لسان مزدوج، ليس عربي وفرنسي، وإنما لسان يستطيع أن يقول الشيء وضده في الوقت نفسه. ومن يقرأ جريدة عباس الفاسي وهي تردد تصريح وزيرها الأول المطمئن بعد اندلاع أحداث سيدي إفني، ويعود إلى قراءة الجريدة أمس حيث تعترف بأن سيدي إفني منطقة منكوبة اجتماعيا واقتصاديا، سيفهم معنى اللسان المزدوج.

بعض المؤسسات العلمية والأكاديمية الأجنبية تعطي أحيانا جوائز لبعض المغاربة يحار المرء في معرفة السبب الحقيقي وراء اختيارهم لهؤلاء بالضبط دون غيرهم. ربما نظرا للخدمات الجليلة التي يكونون قد أسدوها لبلدانهم، البلدان المانحة طبعا. فقبل سنتين منحت جامعة أوكسفورد جائزة رجل السنة لعصمان، الرئيس السابق للتجمع الوطني للأحرار. هكذا ودون سبب واضح تركت جامعة أوكسفورد العريقة كل الشخصيات المغربية التي ناضلت من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، واختارت شخصية مخزنية تجسد التشبث المرضي بالكرسي، بحكم أن عصمان تسلم الجائزة وهو لا يزال رئيسا على الأحرار.

ومنحت إسبانيا جائزة إزابيل الكاثوليكية للجنرال العنيكري وحسني بنسليمان لمساهمتهما في التقريب بين الشعبين المغربي والإسباني. والغريب في هذه الجائزة أنها تحمل اسم ملكة تعتبر طرد العرب والمسلمين واليهود من الأندلس إحدى أعظم مفاخرها التاريخية. وهكذا فالحكومة الإسبانية أفضل من يطبق المثل المغربي الشهير «يبيعو القرد ويضحكو على من شراه». فهم يحتفلون بطرد العرب والمسلمين كل سنة في مدنهم، ويستثنون الاحتفال بطرد اليهود خوفا من إسرائيل، ثم لا يخجلون من توشيح صدور أحفاد هؤلاء المسلمين الذين طردوهم شر طردة بأوسمة تحمل اسم الملكة التي قادت حملة الطرد ضدهم.

وليس العنيكري وحسني بنسليمان وحدهما اللذان توشحا بهذا الوسام الذي يحمل رائحة الإهانة، وإنما مستشارون ملكيون ووزراء وشخصيات سامية مغربية.

وربما يفهم المرء توشيح صدر الجنرالين حسني بنسليمان والعنيكري بوسام ملكة كإيزابيلا أرهبت مسلمي الأندلس وطردتهم حتى آخر رجل. فهذا الوسام يليق بهما تماما، بالنظر إلى «الإنجازات» الباهرة التي تحسب لهما في أكثر من مدينة مغربية طيلة الثلاثين سنة الأخيرة. ولعل آخرها «إنجازاتهما» الميدانية التي قاداها بأنفسهما من تزنيت وأحرزا خلالها انتصارا كاسحا ضد سكان سيدي إفني العزل. فأسروا من أسروا وجمعوا الغنائم بعد أن اقتحموا بيوت المواطنين، وسرقوا حتى طواجين السمك من الثلاجات. ولولا أن الثلاجات ثقيلة لكانوا «غنموها» هي أيضا.

فكما طاردت الملكة إزابيلا المسلمين وراء البحر، طارد الجنرالان بنسليمان والعنيكري شباب سيدي إفني نحو الجبال. ولو وجد شباب سيدي إفني المطاردون بالكلاب والطائرات في الجبال قوارب كتلك التي استعملها المسلمون في الهروب نحو المغرب في سالف الزمان، لما ترددوا في ركوبها والهروب نحو الأندلس من جديد. فقد تغيرت الظروف في شبه الجزيرة الإبيرية وحل على عرش إسبانيا ملك صالح يقال له خوان كارلوس، يسود ولا يحكم، يؤدي الضرائب مثل جميع المواطنين، ولا يستطيع أن يصرف مليما واحدا دون موافقة البرلمان، ومن شدة حبه للصحافيين يلقي النكت أمامهم في المؤتمرات، ويزوج وريث عرشه لصحافية.

والواقع أن الثلاثي الشرقي أضريس والجنرالين بنسليمان والعنيكري هم الذين كانوا أولى من عباس الفاسي بجائزة «كرانس مونتانا» نظرا لتحسينهم للحياة اليومية للمغاربة، خصوصا سكان سيدي إفني الذين تعلموا الحسانة في رؤوسهم هذه الأيام. وإذا كان حسني بنسليمان لا يستطيع أن يغادر التراب الوطني خوفا من مذكرة البحث الصادرة في حقه في الخارج، فإن الشرقي أضريس والعنيكري يمكنهما أن يتسلما جائزته مكانه ويحضرانها إليه.

ومن مظاهر تحسين هذا الثلاثي للحياة اليومية للمغاربة هو أن ترتيب المغرب ضمن الدول الأكثر خطورة في العالم تقدم خمس عشرة درجة. يعني أن العيش في المغرب، بفضل هؤلاء الفرسان الثلاثة Les Trois Mousquetaires، أصبح أكثر خطورة من السابق. وهذا طبيعي، فعلى عهد مدير الأمن الشرقي أضريس تردى الأمن إلى درجات خطيرة، وأصبحنا نرى لأول مرة في المغرب مظاهر السيبة، كما حدث في برشيد عندما تبارزت قبيلتان بالسواطير والسيوف أمام أنظار الأمن. أو كما حدث في فاس عندما بدأ المواطنون يفكرون في تنظيم مسيرات احتجاجا على غياب الأمن في أحيائهم.

ولعل أكبر مثال على استهتار المدير العام للأمن الوطني بالأمن العام هو تركه لمراكش، عاصمة السياحة في المغرب، بدون والي للأمن. مع علمه المسبق بأن الوالي الحالي يعاني من مرض مزمن، وحتى نائبه أدخل مؤخرا إلى مصحة في مراكش بعد إصابته بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم. ولهذا يتم اغتصاب السائحات جنب الفنادق كما وقع لسائحة إسبانية مؤخرا، وتتم سرقة أخريات في قلب المدينة.

عندما سمعت وزير الداخلية شيكب بنموسى يتهجى بصعوبة في البرلمان جوابه عن سؤال حول الانتهاكات التي وقعت في سيدي إفني، ويقول أن وزارته مستعدة لتطبيق القانون ضد كل من ثبت اعتداؤه على السكان، عرفت أن الوزير شكيب جاء إلى البرلمان لكي يلعب دور الشماعة التي سيعلق عليها الفرسان الثلاثة أخطاءهم.

فالمسؤولون المباشرون عما وقع في سيدي إفني معروفون، إنهم هؤلاء «الفرسان الثلاثة» الذين استغلوا الظرف للتنكيل بالمواطنين وتذكيرهم بما ينتظرهم إن هم فكروا ذات يوم في المطالبة بتحسين حياتهم اليومية. تلك الحياة اليومية التي نال عنها عباس الفاسي، ويا للمصادفة، جائزة في موناكو.

لذلك فأحسن شيء يمكن أن يصنعه عباس الفاسي هو أن يتقاسم جائزته مع هؤلاء «الفرسان الثلاثة»، ويقيم حفلا مصغرا في وزارته يدعو إليه التمثيليات الأجنبية في الرباط. من يدري، ربما يتشجعون هم أيضا ويرشحون عباس وفرسانه الثلاثة لجائزة نوبل للسلام. فأحداث سيدي إفني الأخيرة أظهرت أن سلوك الجنرالين تحسن كثيرا بعد كل هذه السنوات من «النضال» في «نشر» السلم الاجتماعي في ربوع المملكة. والدليل على ذلك أنهم أقلعوا عن استعمال الرصاص الحي في التصدي للمخربين الأشرار، أعداء السلام، وأصبحوا يتصدون لهم فقط بالرصاص المطاطي. وهذا في حد ذاته إنجاز حضاري عظيم يستحقون عليه أرفع الأوسمة من طرف المنظمات الحقوقية العالمية.

مبروك سيد عباس على «تحسينك» للحياة اليومية للمغاربة. بفضل شفرة حلاقتك تبدو وجوهنا كل يوم أكثر نضارة. فقط «تكايس» وأنت «تحسن» لنا حياتنا اليومية، لأن «شفرتك الحافية» وصلت للعظم.