2009-01-14

عباس الفرشة

والمدهش في كلمة عباس الفاسي أمام رئيس الحكومة الإسبانية أنها كانت باللغة الفرنسية. مع العلم أن عباس نفسه أصدر مذكرة لجميع وزرائه ومصالحه الحكومية يدعوهم فيها إلى احترام الدستور واستعمال اللغة العربية في معاملاتهم الرسمية. هكذا ينهى عباس «الفرشة» عن شيء ويقترفه في الوقت ذاته. مع العلم أن وزيرنا الأول لم يكن مجبرا على التحدث بالفرنسية مادام قسم الترجمة في قصر المونكلوا بمدريد مجهزا بمترجمين بكل لغات العالم الحية والميتة.

ليس هناك تفسير لتحدث وزير أول مغربي ينحدر من حزب محافظ كحزب الاستقلال جعل من التعريب معركة سياسية، باللغة الفرنسية في بلد يتحدث اللغة الإسبانية، سوى أن عباس أراد أن يذكر مضيفيه بأن دفاعه عن اللغة العربية ليس سوى شعار حزبي يستعمل خلال الحملات الانتخابية، أما هو ووزراء حزبه الذين تخرجوا من المدارس الفرنسية الراقية، فلغتهم الحقيقية التي يتقنونها، بالإضافة إلى لغة الخشب، هي لغة موليير. وقبل أمس، خلال مؤتمر حزب الاستقلال، أعطى عباس الدليل الملموس على أنه عاقد العزم على اقتراف المزيد من «الفرشات». آخرها كان عندما شن هجوما لاذعا ضد الصحافة المستقلة التي اتهمها بتلك التهمة البالية التي لم تعد تنطلي على أحد، وهي التيئيس ونشر العدمية والتشكيك في المسار الديمقراطي للمغرب، ونشر العزوف الانتخابي بين المواطنين، وتبخيس العمل السياسي.

وبين «زعفة» وأخرى، كان عباس يقرأ خطابه «التاريخي» الطويل، مرة ينهر أحد المصورين ويقول له مبعثرا ما بين حاجبيه «راك برزطتيني أسيدي»، ومرة «يزعف» على بعض المؤتمرين الذين كانوا يوشوشون في آذان بعضهم البعض عندما كان عباس يتلو خطابه التاريخي.

لكن «الفرشة» الحقيقية التي اقترفها عباس في المؤتمر هي عندما قال للمؤتمرين بأن خطابه الكامل سيكون منشورا في جريدة «العلم»، التي وصفها بأنها جريدة لا تبيع لأنها لا تحب «التقصار» عكس الجرائد الأخرى التي تبيع بفضل الفضائح، وأنه سيختصر خطابه حتى لا يصيب المؤتمرين بالملل. والحقيقة أن ما قاله عباس يعتبر جرأة سياسة كبيرة، فهو الزعيم الحزبي والوزير الأول الوحيد الذي تجرأ على الاعتراف بأن خطابه مثير للملل. رحم الله عبدا عرف قدر نفسه.

عباس لديه مشكل قديم مع الصحافة. فهي في نظره تمارس «التشيطين» وتخرب صورة البلد ولا ترى سوى السلبيات. لم يحدث أن هاجم وزير أول في المغرب أو في غيره من البلدان صحافة بلاده مثلما يصنع عباس اليوم. أكثر من ذلك، فهو يرى أن الصحافة التي يدينها القضاء هي صحافة بدون مصداقية.

وينسى أن يقول في الطريق أن القضاء الذي تقف أمامه هذه الصحافة هو الذي بدون مصداقية لأنه قضاء غير مستقل وغير عادل، بشهادته هو عندما كان وزيرا بدون حقيبة في حكومة جطو وكان بعض مرشحي حزبه يتابعون بتهمة الفساد الانتخابي، فطلب من القضاة أن يستمعوا إلى ضمائرهم لا إلى هواتفهم المحمولة.

وهكذا فحسب عباس الصحافة التي تفضح عزوف البرلمانيين عن حضور جلسات مناقشة القوانين والميزانيات الحكومية هي التي تشجع المواطنين على العزوف الانتخابي، وليس عزوف البرلمانيين عن المجيء إلى البرلمان، رغم أنهم يتقاضون نظير ذلك أربعة ملايين في الشهر من أموال دافعي الضرائب.

والصحافة التي تفضح متابعة الاستقلالي عبد الحق التازي زعيم الأغلبية الحكومية في مجلس المستشارين، بسبب امتناعه عن دفع ضرائبه وديونه لسبعة أبناك، هي التي تخرب البلاد وتشوه صورتها، وليس أمثال هؤلاء المستشارين والسياسيين والأثرياء الذين يتهربون من دفع ضرائبهم للدولة ككل عباد الله.

والصحافة التي تفضح «أكل» نقابة الاستقلالي بنجلون لحقوق المستخدمين بالامتناع عن دفع انخراطاتهم الشهرية في صندوق الضمان الاجتماعي، هي المسؤولة عن نشر اليأس والعدمية بين الطبقات الشعبية، وليس أمثال هؤلاء النقابيين الذين يعطون الدروس للدولة ويهددونها بالإضراب دفاعا عن مصالح الطبقات العاملة، في الوقت الذي لا يتورعون عن «طحن» حقوق وعظام هذه الطبقات عندما تتجرأ على المطالبة برواتبها المهضومة. كما صنعت ليلى بن الصديق ابنة الزعيم التاريخي للاتحاد العام المغربي للشغل في القنيطرة عندما داست على أجساد مستخدميها بعد ان داست على حقوقهم المهنية التي يكفلها لهم قانون الشغل.

وكم نحن شاكرون وممتنون لعباس «الفرشة» لأنه كشف أمام مؤتمريه وضيوفه أن «قشابته» و«قشابة» وزراء حكومته واسعة جدا، إلى درجة أنهم يترفعون عن مقاضاة الصحافيين وجرجرتهم أمام القضاء.

ونحن إذ نشكره على «وسوعية الخاطر» هذه، نطالبه فقط بأن يوسع خاطره أكثر وينفض الغبار عن تقرير المجلس الأعلى للحسابات الأخير، وأن يحرك المتابعة ضد كل من اتهمهم قضاة المجلس بتبذير أموال دافعي الضرائب واختلاسها. فهذا هو الدور الأساسي للقضاء وللوزير الأول بوصفه الآمر بالصرف في المملكة. فكل درهم يضيع من خزائن الدولة تقع على عباس مسؤوليته.

عباس يمن على الصحافيين الذين ينتقدونه وينتقدون حكومته بكونه يترفع عن مقاضاتهم. طبعا هذا من حقه. لأنه لو كان لدينا قضاء مستقل وعادل لكان عباس الفاسي أول من يقف أمامه لكي يتحمل نصيبه من المسؤولية في فضيحة «النجاة» التي ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شاب مغربي، انتحر منهم أربعة إلى اليوم بسبب اليأس.

هذا هو اليأس الحقيقي الذي لا يريد عباس أن يعترف بمسؤوليته في انتشاره بين الشباب، وليس اليأس الذي تنشره الصحافة. فلم يثبت إلى حدود اليوم أن مواطنا مغربيا انتحر بسبب مقال نشرته إحدى الصحف حول تردي القدرة الشرائية للمواطنين أو حول وصول الحوار الاجتماعي إلى الباب المسدود. بينما نقرأ يوميا عن انتحار الشباب المغربي غرقا في قعر مياه المتوسط طمعا في الوصول إلى الضفة الأخرى هربا من «الحكرة» والبطالة والوعود العباسية المعسولة. ونقرأ يوميا عن محاولات انتحارية للدكاترة العاطلين والمكفوفين بالبنزين داخل مقرات حكومية، كما وقع في وزارة نزهة الصقلي مؤخرا.

فهل الصحافة هي المسؤولة عن كل هذا الاحتياطي الفادح من اليأس الاجتماعي. إن المسؤول الأول والأخير عن اليأس الاجتماعي والإحباط السياسي الذي يعيشه المغاربة هي طبقته السياسية التي مرغت العمل الحزبي في الوحل، وسفهت العمل البرلماني، وميعت المناصب الوزارية حتى صارت تعهد إلى من لا يحمل حتى شهادة البكالوريا.

هل هناك تيئيس للطبقات الشعبية العاملة أكبر من تدخل جهات نقابية وحكومية في العدل من أجل إطلاق سراح ليلى بن الصديق ابنة النقابي المحجوب بن الصديق، وعدم متابعتها قضائيا رغم دهسها لتسعة مواطنين في الشارع العام.

أمثال هؤلاء الأبناء المدللين الذين يطحنون عظام أبناء الشعب في الشوارع هم الذين يجب أن يقفوا أمام القضاء، وليس الصحافة التي تفضحهم يا سيد عباس.

«فرشات» عباس تجاوزت الحدود. حدود المملكة طبعا. وأصبحت مثار سخرية الجيران في إسبانيا والجالية المغربية المقيمة في أرجاء العالم الفسيح.

للأسف الشديد ليست لدينا في المغرب برامج تلفزيونية ساخرة كتلك التي لدى الدول الديمقراطية. ولو كان لدينا برنامج من هذا النوع لوجد في «فرشات» عباس الفاسي مادة صالحة لملء ساعات طويلة من البث. والدليل على أن عباس عليه «الضومونض»، ليس فقط في حزبه وإنما أيضا في «يوتوب»، هو أن شريط «اضحك مع عباس» الذي يعرض كلمته الافتتاحية في قصر المونكلوا بمدريد حيث حرف اسم رئيس الحكومة الإسبانية وأطلق عليه اسم امرأة، شاهده أكثر من عشرين ألفا بمجرد وضعه على الشبكة.

2009-01-13

حصريا على LBS

سيارة فارهة مكسورة الواجهة الأمامية، زجاج نافذتها الأمامي والجانبي مهشم. رجال جرحى مرميين فوق الطريق يتضورون ألما. حراس أمن يتراكضون مذعورين ورجال أمن يحيطون بالسيارة المهاجمة. عندما شاهدت الشريط المصور بالهاتف لهذا المنظر، اعتقدت أول الأمر أنه مصور من قناة فضائية لمنظر في غزة، حيث تكثر مناظر الأجساد النازفة المرمية في الشوارع هذه الأيام. لكن صاحب الشريط نبهني إلى أن المنظر حدث عندنا في المغرب، وبالضبط أمام باب محطة القطار بالقنيطرة بعد زوال يوم الجمعة الماضي.

ففي الوقت الذي كان المحجوب بن الصديق، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، يتابع في الصفوف الأمامية افتتاح مؤتمر حزب الاستقلال، مستمعا إلى عباس يؤلف قصيدة غزل في إنجازاته الحكومية وعلى رأسها الحوار الاجتماعي والاستجابة لمصالح الطبقة العاملة، كانت ليلى بن الصديق، ابنة الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، تطحن وتدوس بعجلات سيارتها «الجاغوار» أجساد ثمانية مستخدمين في شركة الحراسة التي تملكها، كانوا معتصمين في المحطة احتجاجا على عدم صرف أجور رواتبهم المتأخرة.

عندما رأت ليلى مستخدمي شركتها يقفون في طريقها طلبت من سائقها أن يخترق صفوفهم، وعندما رفض أخذت منه عجلة القيادة وصدمتهم وشتتت ثمانية منهم على الطريق (أنظر الصور في التحقيق بالصفحة 5)، أحدهم تمسك بمقدمة السيارة فطوحت به بعيدا إلى أن اصطدم جسده بالباب الحديدي للمحطة. بعدها خرجت حاملة سكينا وعبوة مسيلة للدموع، وكسرت زجاج سيارتها بضربة سكين وهي تسب وتلعن.
وعندما جاء رجال الأمن وأوقفوا السيارة وسائقتها الهوجاء، أدخلوها إلى مرآب السيارات الموجود بالمحطة ووضعوا أمام عجلاتها حجارة كبيرة حتى يمنعوا هروبها. ومع ذلك حاولت لبنى مغادرة المكان وارتطمت بالحجارة وكسرت خزان الوقود، ومعه سيارات كثيرة كانت مركونة بالمحطة.

وبعد ذلك نزلت «الكاسكادورة» من سيارتها، واشترت «كانيط» كوكاكولا من محلبة قريبة من المحطة، وبدأت تتفرج على المجزرة التي ارتكبتها وهي تحمل في ذراعها كلبها «الكانيش»، غير آبهة بما اقترفت في حق هؤلاء المواطنين البسطاء الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة التي يتحدث عنها عباس في مؤتمره أمام الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، والد ليلى بن الصديق.

رجال الأمن قاموا بواجبهم واعتقلوا ليلى بن الصديق ووضعوها رهن الحراسة النظرية. وعوض أن تسأل عن حال المستخدمين الذين داستهم ظلت تسأل عن كلبها «الكانيش» وتوصي بحمايته من البرد. لكن مقام ليلى عند الأمن لن يطول. فقد تم الإفراج عنها فجر يوم السبت بعد أن وقع المستخدمون المصابون على تنازل يجنب لبنى المتابعة القضائية بتهمة الإيذاء العمدي للغير، مقابل حصولهم على مستحقاتهم وتعويضات عما لحقهم من أضرار وعدم طردهم من العمل.

ما وقع في القنيطرة يعيد طرح سؤال الإفلات من العقاب مجددا. ويعيد إلى الأذهان قصة «بنت الفشوش»، مارية بنجلون التي دهست في قلب الرباط شرطية مرور تجرأت وأوقفتها بعد مخالفة مرورية، وأطلق سراحها بعفو خاص. وقصة سائق «الجاكوار» الذي دهس حارسي فندق «الأونفتريت بالاص» بالصخيرات وزور الكولونيل التريكي محضره، ولم يقدم أمام المحكمة العسكرية بسبب ذلك. وقصة المهندس ابن والي طانطان الذي دهس بسيارته مواطنا بسيطا عائدا إلى بيته بطعام الإفطار خلال رمضان الماضي، وهاجم بسيارته «الزيبرا» رجال شرطة في الطريق، وفي الأخير حكمت المحكمة ببراءته من المنسوب إليه لكونه يعاني من مشاكل نفسية.

عندما تدوس ابنة زعيم نقابي أجساد ثمانية من مستخدميها لمجرد أنهم اعتصموا أمام محطة القطار مطالبين بصرف رواتبهم، ويتم إطلاق سراحها بعد التوصل إلى اتفاق بينها وبين ضحاياها، نتساءل عن دور النيابة العامة في هذه النازلة. لماذا لم تحرك المتابعة في حق ليلى بن الصديق بتهمة الإيذاء المتعمد للغير. فتنازل الضحايا لليلى بن الصديق عن مطالبهم المدنية لا يعفي النيابة العامة من تحريك الدعوى العمومية ضدها.

الخطير في ما قامت به ابنة المحجوب بن الصديق، هي أنها كشفت عن الوجه الحقيقي لبعض المقاولات والشركات التي تستغل مستخدميها وتسلبهم حقوقهم المشروعة. والأخطر هو أن تكون إحدى هذه الشركات مسيرة من طرف ابنة أقدم نقابي كالمحجوب بن الصديق شيد «مجده» على ظهر الطبقة العاملة التي ظل يمثلها منذ أكثر من خمسين سنة.

وعندما تعلق الأمر بابنته فقد حرك المحجوب كل الهواتف التي في مفكرته لكي يتم طي هذا الملف بدون «شوهة» في وسائل الإعلام. خصوصا مع توقف مسلسل الحوار الاجتماعي أمام الباب المسدود، واستعداد النقابات العمالية لتسخين الطرح مع عباس.

إن أول شيء يجب أن يقوم به كريم غلاب، وزير النقل الاستقلالي، والمسؤول عن قطاع السكك الحديدية الذي وقع عقد شراكة مع شركة الأمن التي تملكها ليلى بن الصديق لحراسة محطات قطارات الخليع، هي أن يفسخ هذا العقد فورا. لأن مالكة الشركة أعطت درسا سيئا في احترام مدونة السير التي يهلل لها غلاب في البرلمان. فأية مصداقية ستبقى لهذه المدونة ولدروس اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير في التلفزيون والراديو، إذا بقيت شركة هذه السيدة مشرفة على أمن محطات القطارات في المغرب، وهي تقدم للمواطنين أقبح مثال في كيفية خرق قانون السير والاعتداء على سلامة الراجلين بسيارتها.

بل أية مصداقية ستبقى لوالدها الزعيم النقابي الخالد الذي ينتصر لابنته التي تهضم حقوق عمالها ومستخدميها وتعتدي عليهم وتقايض صمتهم وإعراضهم عن متابعتها قضائيا بحفنة من المال، عوض الانتصار لحقوق الطبقة العاملة التي استحلى الركوب على ظهرها منذ خمسين سنة ويرفض النزول إلى اليوم.

إن هذا المثال السيئ الذي قدمته ليلى بن الصديق لا يكشف فقط عن مدى احتقارها للطبقة العاملة، بل عن مدى احتقار من يسيرون بعض النقابات للطبقة العاملة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه من سلطة وثراء.

وبالأمس سمع الجميع كيف فضح شباط غريمه بنجلون الأندلسي الكاتب العام السابق للاتحاد العام للشغالين للمغرب والمسؤول عن الجامعة الحرة للتعليم التابعة لحزب الاستقلال، بعد أن اتهمه بتبديد أموال النقابة في اقتناء السيارات، وعدم دفع النقابة لواجبات انخراط مستخدميها لصندوق الضمان الاجتماعي، رغم اقتطاع ذلك من رواتبهم الشهرية.

والكارثة أن بنجلون الأندلسي، الذي ظل يحرم مستخدمي نقابته من دفع أقساط الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، هو رئيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني. وهذه أكبر إهانة لفلسطين ولكفاح الفلسطينيين، خصوصا في هذه الأزمنة الصعبة التي تجتازها القضية الفلسطينية.

هؤلاء إذن هم ممثلو الكفاح العمالي وناصرو الطبقات الشعبية المستضعفة في المغرب، والمدافعون عن الكفاح الفلسطيني.
يحرمون عمالهم من حقهم في التقاعد، ويحرم أبناؤهم مستخدميهم من رواتبهم، ويستعبدونهم في شركاتهم، وفي الأخير عندما يفتحون أفواههم ويطالبون بصرف رواتبهم يدوسونهم بسياراتهم الفارهة، قبل أن يقايضوهم دماءهم وجراحهم وكسورهم وكرامتهم بحفنة من المال.

ما وقع في محطة القطار بالقنيطرة يفتح أيضا ملفا شائكا وهو ملف شركات الحراسة التي تشغل عشرات الآلاف من المستخدمين بألف وخمسمائة درهم في الشهر، أغلبهم بدون عقود وبدون تعويضات عن ساعات العمل الطويلة وبدون ضمانات قانونية.

إن مأساة عمال شركة «LBS» لا تسائل فقط مديرتها ليلى بن الصديق، وإنما أيضا وزير النقل والتجهيز كريم غلاب الذي وافق على عقد شراكة معها على الرغم من قراءته لعشرات المقالات التي تتحدث عن تماطل هذه الشركة في صرف مستحقات مستخدميها.

هناك اليوم عشرات الوزارات والمؤسسات العمومية التي لديها عقود مع مثل هذه الشركات التي تستغل المستخدمين وتمتص دماءهم وتعاملهم كعبيد، ومع ذلك يتحدث وزراء ومديرو هذه المؤسسات بوجه أحمر عن الحوار الاجتماعي والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، وهم يرون كيف تداس حقوق الطبقة العاملة أمام أبواب وزاراتهم والمصالح التابعة لها.

طبيعي إذن أن يصل الحوار الاجتماعي إلى الباب المسدود. فالنقابات يسيرها زعماء يطحن أبناؤهم حقوق المستخدمين في شركاتهم، والحكومة التي تنادي بتطبيق الحد الأدنى للأجور عاجزة عن تطبيق هذا القرار حتى على الشركات التي تعهد إليها بحراسة أبواب مقراتها، و«المزود محاس بيه غير المخبوط بيه». خصوصا إذا كان هذا «المزود» بحجم سيارة «جاكوار».

2009-01-12

صلاة الغائب

طالب خالد السفياني بالقيام بصلاة الغائب بعد صلاة الجمعة في كامل مساجد المملكة ترحما على أرواح الشهداء الذين سقطوا في غزة. شخصيا أعتقد أن صلاة الغائب يجب أن تكون أيضا على ضمائر القادة والزعماء العرب، وليس فقط على أرواح الشهداء الفلسطينيين. لأنه من العار أن يغضب ويهدد ويصف ما تقترفه إسرائيل في غزة بالبقعة السوداء في تاريخ اليهود والإنسانية رئيس دولة علمانية كتركيا، ويطرد رئيس دولة مسيحية كفنزويلا سفير إسرائيل من بلاده، بينما قادة الدول العربية التي تنص دساتير بلدانها على كون الإسلام هو دينها الرسمي، لا يكلفون أنفسهم سوى المطالبة بوقف العنف في غزة، مطالبين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والمنتظم الدولي بتحمل مسؤولياته. وكأن هؤلاء الزعماء والقادة متحررون من أية مسؤولية أخرى تجاه فلسطين غير التنديد والشجب والإدانة.

وكأنهم لم يستوعبوا جواب البيت الأبيض على رسائل احتجاجهم وبياناتهم الغاضبة، عندما أصدر ساكنه بمناسبة وصول شهداء القصف الهمجي الإسرائيلي إلى 700 شهيد وآلاف الجرحى برقية عزاء لروح القطة الأولى «ويلي» التي أسلمت الروح داخل البيت الأبيض مخلفة حزنا عميقا في نفوس أفراد عائلة بوش. ولو أن «ويلي» الحقيقية هي التي يجب أن نقولها نحن ونلطم معها خدودنا بسبب هذا العجز العربي المخزي، ونحن نرى كيف يخرج عرب إسرائيل في تل أبيب للتظاهر تضامنا مع إخوانهم في غزة، بينما تمنع شرطة عباس الفلسطينيين من التظاهر في بيت لحم وغيرها من المدن، ويعطي حسني مبارك الأوامر لحرس حدوده لكي يطلقوا النار على كل من يقتحم المعبر هربا من النيران الإسرائيلية.

والتبرير الغبي الذي يسوقه هؤلاء القادة الأشاوس لمشاركتهم في الجريمة، هو أن حماس تتحمل مسؤولية ما يقع في غزة. وهم في هذا التحليل يشتركون مع ما يسوقه الناطق الرسمي باسم حكومة إسرائيل، وهو بالضبط ما ردده هذا «الممثل» مثل ببغاء في نشرة أخبار أمس بقناة الجزيرة التي ربطت الاتصال به.

وهؤلاء القادة وجيشهم العرمرم من المحللين والصحافيين، الذين لدينا جزء منهم في صحافتنا بالمغرب، ينسون أن إسرائيل لا تريد رأس حماس من خلال كل التصفية العرقية والإعدام الجماعي الذي تمارسه منذ أسبوعين في غزة، وإنما تريد مسح القطاع من الوجود. أو كما تمنى شارون دائما، إلقاء غزة في البحر.

والدليل على ذلك أن إسرائيل عندما اقترفت مذابحها السابقة في دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا لم تكن حماس ولا فصائلها موجودة أصلا في فلسطين. ولم تكن تهطل على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل أية صواريخ. فما الذي دفع الجيش الإسرائيلي ومليشياته آنذاك لتذبيح الفلسطينيين وأطفالهم ونسائهم. إن ما دفع إسرائيل لاقتراف تلك المذابح هو بالضبط ما يدفعها اليوم لاقتراف مذابح غزة. وهو بالضبط ما قاله الدبلوماسي «ستيفان هيسيل» في الحلقة المتميزة التي بثتها القناة الثالثة الفرنسية مساء الخميس ضمن برنامج «سو سوار أو جامي» لصاحبه «طاديي»، عندما قال بأن إسرائيل لا تريد السلام مع العرب والفلسطينيين. فهل يفهم بعض المتحمسين «سكر زيادة» لأوهام السلام من جانب واحد، أن أخشى ما تخشاه إسرائيل هو السلام. لأنها تتوسع بالحرب، وكل المناطق التي توسعت فيها كانت بعد حروب همجية روعت وأرهبت سكانها الأصليين لكي يتركوها للمستوطنين الإسرائيليين.

وكل من تابع تلك الحلقة المتميزة، اكتشف الوجه الحقيقي للمؤرخ اليهودي الفرنسي «أليكسندر آدلر»، الذي استدعته إحدى المؤسسات البنكية المغربية قبل شهر لكي يقتسم طاولة المحاضرات إلى جانب صلاح الدين مزوار وزير المالية ويتحدث لها عن قوة ومناعة النظام البنكي المغربي ضد الأزمة الاقتصادية العالمية.

فقد سقط القناع عن وجه «آدلر» عندما عرض منشط البرنامج صور الأطفال الذين أحرقت نيران الجيش الإسرائيلي أجسادهم الصغيرة، وصور الخراب الوحشي الذي طال البيوت والمستشفيات والمدارس، فتوجه طارق رمضان نحو «آدلر» وسأله هل يدين هذه الأعمال الوحشية، فأجابه هذا الأخير بأنه لا يدينها.

بمعنى أنه يباركها ويشجع عليها. موقف «آدلر» العنصري والمؤازر لسياسة العدوان الإسرائيلي لا يختلف كثيرا عن موقف المغني «إنريكو ماسياس» الفرنسي من أصل يهودي جزائري، والذي تظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في باريس مشجعا حملة التطهير العرقي التي يشنها الجيش الإسرائيلي في غزة. وهذان العنصريان ينزلان عندنا في المغرب كضيوف شرف معززين مكرمين. الأول سمعنا صوته من خلال قراءته لعموده الأسبوعي عبر مايكروفون «إذاعة ميدي 1» التي تبث من طنجة، بعد أن دبر له «كولومباني» مدير «لوموند» السابق في هذا «البريكول» عند ابن بلده «كازالطا» مدير الإذاعة. والثاني يزور المغرب لإحياء حفلات خاصة بالملايين لبعض الأثرياء المغاربة.

أعتقد أن ما يحدث في غزة، رغم شراسته وهمجيته، فيه جانب إيجابي. فداخل كل نقمة هناك نعمة لا يراها سوى أولي الأبصار. أهم شيء يمكن أن نستنتجه مما يحدث في غزة، هو أن صورة إسرائيل في العالم اليوم أصبحت ملطخة بدماء الأطفال. ورغم أن وزيرة خارجية إسرائيل تمارس سياسة «موت أحمار» عن طريق محاولة لعب دور ضحية صواريخ حماس، فإن العالم اكتشف المؤامرة وانتهت إسرائيل منبوذة في كل الأمكنة التي يذهب إليها رياضيوها. وقبل أمس ضربوا لاعبي فريق كرة السلة الإسرائيلي في تركيا بالأحذية، وبالأمس تعرضت لاعبة التنس الإسرائيلية «شاهار بير» في نيوزيلاندا لحملة احتجاجية أمام الملعب نظمها متعاطفون مع فلسطين. وهذا يعني أن الحضور الإسرائيلي في العالم سيلاقي حملات معادية بسبب ما يقترفه جيش الاحتلال من جرائم ضد الإنسانية في غزة.

وبالإضافة إلى تلطيخ صورة إسرائيل بدماء الأطفال الأبرياء وإدانة كل أحرار العالم للهمجية الإسرائيلية، ساهمت صور هؤلاء الأطفال المقتولين في إذكاء شعلة القضية الفلسطينية في قلوب الأجيال الجديدة من أطفال ومراهقي وشباب العرب والمسلمين عبر العالم، بعد أن خبت شراراتها في السنوات الأخيرة بسبب التطاحن الفلسطيني الداخلي. إذ لم تشهد قضية فلسطين منذ حرب 1967 حضورا قويا كالذي تشهده اليوم في الساحة العربية والدولية.

مسؤوليتنا نحن كصحافيين، ومسؤولية السياسيين والبرلمانيين والحقوقيين، هي أن يناضلوا جميعا من أجل الوقوف صفا واحدا ضد الهمجية الإسرائيلية لكي تتوقف المجزرة أولا، كما قال «إلياس صنبر» في حلقة الخميس من برنامج «طاديي»، وأن يضغطوا بكل ما في أيديهم من وسائل، سواء عن طريق الدعوة إلى محاربة التطبيع مع إسرائيل أو فضح كل الداعين إلى كسر جدار هذا التطبيع، سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو فنيا.

هناك اليوم بعض الأصوات التي تكتب معلقة على موجة الدعم غير المسبوقة لصالح غزة، منتقدين كون هذا الدعم كان أولى به أن يذهب إلى سكان «أنفكو». كما أن هناك من يكتب منتقدا استشهاد القيادي في حماس نزار ريان في بيته مع زوجاته الأربع وأطفاله، ساخرا من موته في منزله عوض حمله للسلاح في الميدان. وهناك من يكتب مرددا مثل ببغاء كلام وزيرة الخارجية الإسرائيلية وساركوزي، منتقدا وجود القيادات السياسية لحماس في سوريا ولبنان عوض وجودها في غزة، ويحمل هذه القيادات ما يقع اليوم من إعدام جماعي للأسر والعائلات.
هؤلاء يتحدثون عن وجود قادة حماس السياسيين في المنافي وكأن هؤلاء القادة يوجدون خارج أرضهم في رحلات سياحية، بحيث لم يكرههم أحد على مغادرة بيوتهم وأهلهم.

مثل هذه الكتابات والمواقف لا تسيء إلى حماس أو إلى القضية الفلسطينية، وإنما تسيء إلى أصحابها. لأن المطلوب الآن ليس محاكمة حماس أو صواريخها، وإنما محاكمة إسرائيل ومحاصرتها وتجفيف كل منابع التطبيع معها.

ولعل مسؤولية النواب البرلمانيين والأحزاب السياسية المغربية اليوم هي الإجماع على صياغة قانون جنائي يجرم التطبيع مع العدو الصهيوني في المغرب. فإسرائيل تقاتلت من أجل وضع قانون يجرم إنكار المحرقة اليهودية، وتحاكم بموجبه كل من يشكك في أرقام ضحايا «الهولوكوست». واليوم يعيش الكوميدي «ديودوني» حصارا خانقا من طرف اللوبي الإسرائيلي في الإعلام الفرنسي بسبب منحه لجائزة لأشهر أستاذ جامعي ينكر وجود المحرقة اليهودية، وألغت الشركة التي تتعهد حفلاته ثلاثة عروض كانت مبرمجة هذه الأيام في ثلاث مدن فرنسية.

على سياسيينا وممثلي الأمة أن يستفيدوا من الدرس، وأن يخرجوا قانونا جنائيا إلى الوجود يعاقب كل من تثبت في حقه تهمة التطبيع مع إسرائيل.
وهذا أضعف الإيمان.

2009-01-08

غزة وما وراءها

كل المغاربة الذين لديهم جهاز تلفزيون في البيت يتابعون نشرات الأخبار في القنوات الفضائية وأعينهم مثبتة على الشريط الذي يمر أسفل الشاشة، منتظرين بلهفة مرور خبر سقوط قتلى أو أسرى من الجيش الإسرائيلي بين أيدي مجاهدي حماس.

كل خبر مهما كان صغيرا عن سقوط طائرة إسرائيلية بدون طيار بصاروخ أطلقته المقاومة، أو سقوط قتلى وجرحى في منزل مفخخ استدرجت المقاومة إليه كتيبة إسرائيلية، هو انتصار عظيم ليس فقط لحماس وفلسطين وإنما لكل الأمة العربية والإسلامية والعالم الحر.

إن الأنظمة العربية التي تطالب بإرسال الخبز والحليب لسكان غزة، يجب أن تخجل من نفسها وهي ترى الأطفال والرضع ملفوفين في الأكفان. فما يحتاجه سكان غزة اليوم ليس الخبز والحليب، وإنما السلاح لكي يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الجيش الهمجي الذي يريد مسحهم من الخريطة.

ما يحدث اليوم في غزة ليس حربا عادية، بل تصفية عرقية وإبادة عنصرية مثل تلك التي عاشها المسلمون في البلقان على يد الصرب. فإسرائيل التي عجزت حتى الآن عن إيقاف صواريخ المقاومة لا تفعل غير قصف المستشفيات عندما تمتلئ بالمسعفين والجرحى والمساجد عندما تمتلئ في أوقات الصلاة وبيوت الأسر التي يباد أفرادها عن آخرهم.

وما يغيب عن أذهان القادة العرب الذين يتابعون حرب الإبادة هذه ببرودة دم غريبة، هو أن إسرائيل إذا نجحت في إحكام طوقها على غزة وكسرت شوكة حماس وحركات المقاومة التي يقاتل مناضلوها في صفها، فإن التاريخ سيسجل نكبة العرب في نسختها الثانية. وستعود قضية فلسطين عشرين سنة إلى الوراء، وستفرض إسرائيل غطرستها على المنطقة بأسرها.

وللأسف الشديد فالمقاومون في غزة، الذين يخوضون اليوم حرب شوارع شرسة ضد القوات الإسرائيلية، ليس لديهم من دعم آخر سوى أكف مليار مسلم في العالم. فعليهم وحدهم تلقى مسؤولية تجنيب الأمة العربية هذه النكبة الجديدة، بإيمانهم وعزيمتهم وصواريخهم وأسلحتهم القليلة المتوفرة لديهم.

فالمقاومون في غزة وحدهم اليوم أكثر من أي وقت سابق. ساكن البيت الأبيض الذي يستعد للرحيل يقول بأن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها. حتى ولو قتلت نصف أطفال غزة. ساركوزي الذي يريد أن يملأ الفراغ الذي تركه بوش في المنطقة، يقول بأن حماس يجب أن توقف صواريخها ضد إسرائيل. وينسى أن الصواريخ الحقيقية هي تلك التي تتهاطل كالمطر منذ أيام على بيوت غزة ومساجدها ومستشفياتها. عمرو موسى، صاحب السيغار الكوبي، يصرخ ويعاتب الاتحاد الأوربي على موقفه السلبي مما يقع في غزة. وينسى أن جامعته العربية فشلت حتى اليوم في عقد قمة طارئة لاتخاذ موقف عربي موحد مما يحدث في غزة.

باختصار، نعيش اليوم التجسيد الحي للبيت الشعري الذي أنشده محمود درويش في قصيدته «مديح الظل العالي» عندما قال «كم كنت وحدك يا ابن أمي كم كنت وحدك». إن هذه الوحدة والعزلة في مواجهة الصراع المحتوم مع العدو الإسرائيلي هي التي ستصنع النصر في غزة، مثلما صنعته قبل سنتين في جنوب لبنان.

والأكيد أن العالم مثلما لم يعد هو نفسه بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فإنه لن يكون هو نفسه بعد اعتداءات غزة. فحرب الإبادة الجماعية هذه سيكون لها ما بعدها إقليميا وعربيا ودوليا. وإسرائيل المشغولة والمزهوة اليوم بارتفاع شعبية حزب وزيرها في الدفاع على بعد أشهر من الانتخابات، بسبب كل الأطفال الذين قتلهم في غزة، تنسى أن شعبيتها تعرف هبوطا مهولا لدى الرأي العام العالمي. والفضل في ذلك يرجع للفضائيات العربية التي تتابع نتائج العدوان أولا بأول. وربما هذا ما دفع «جلعاد أردان» العضو في الكينيسيت الإسرائيلي عن حزب الليكود إلى مطالبة وزير الاتصال الإسرائيلي ورئيس الحكومة بالتشويش على القنوات الفضائية العربية من أجل منع مشاهدتها في الشرق الأوسط. فحسب «العضو» فإن هذه القنوات تدير حملة تحريض كاذبة ضد إسرائيل وتنشر صورا مزعزعة عن ضحايا الهجوم الإسرائيلي بشكل مخالف لآداب مهنة الصحافة. ولهذا السبب يجب التعتيم على هذه القنوات كشكل من أشكال مقاتلتها حتى تنخفض نسبة مشاهدتها وتنخفض مداخيل إشهاراتها.

إسرائيل التي لا تحترم اتفاقية جنيف التي وقعت عليها، والتي تنص على عدم التعرض للمدنيين في الحروب، تعطي العالم دروسا في أخلاقيات وآداب الصحافة. فالصحافة المهنية في نظرها هي عدم نقل الصور المزعزعة لما تقترفه أيادي جنودها في غزة. أما تقتيل الأطفال وشي لحومهم بنيران القذائف فيعتبر عملا مهنيا يندرج ضمن ما يسميه ساركوزي وبوش بالدفاع عن النفس.

إن إسرائيل تريد من الإعلام العربي أن يقوم بما تقوم به بعض القنوات العمومية الفرنسية مثلا، كقناة الخامسة التي بثت قبل أمس حلقة من حلقات برنامجها «سي دون لير» حيث عرضت روبورتاجا عن «مأساة» أحد المستوطنين مع صواريخ حماس التي أحدث أحدها ثقبا صغيرا في الرصيف المحادي لمنزله، والذي سارع عمال البلدية لإصلاحه. في الوقت الذي كان عدد ضحايا صواريخ الجيش الإسرائيلي قد وصل إلى 550 شهيدا و2700 جريح. هذه هي أخلاق المهنية الإعلامية كما تؤمن بها إسرائيل والإعلام الذي يدور في فلكها.
إسرائيل تعرف أهمية الإعلام وقدراته الحربية التي تفوق قدرات الجيوش الجرارة. ولذلك فهي تقوم بكل ما تستطيع القيام به للترويج عبر الإعلام لقصص مختلقة حول الصراع بين حماس وسكان غزة من جهة وبين حماس ومنظمة فتح من جهة أخرى. وقد عرضت القناة العاشرة الإسرائيلية اتصالا لأحد صحافييها بأحد قياديي حركة «فتح»، وبدأ يسأله عن معاناة المواطنين وبالخصوص رجال «فتح» الذين يروج حولهم أن حماس تفرض عليهم الإقامة الجبرية في بيوتهم إلا لأداء صلاة الجمعة في المسجد. وقبل أن يجيب القيادي في «فتح» أخذت أمه السماعة وصرخت في أذن الصحافي الإسرائيلي قائلة «لم يعد هناك فتح وحماس في قطاع غزة، الجرائم الإسرائيلية وحدتنا وصرنا كلنا حماس. قل لحكامك أنهم مجرمو حرب».

إذا كان هذا جواب أم أحد قياديي «فتح» التي تريد إسرائيل اللعب على تناقضاتها مع حركة «حماس»، فكيف يمكن أن نستوعب كلام بعض القادة والصحافيين العرب الذين يؤاخذون على حماس جرها للمنطقة وسكانها إلى الحرب الإبادة.

إن هؤلاء بلا شك يريدون أن يبحثوا للعدوان الإسرائيلي عن مبررات عوض إدانته والوقوف إلى جانب حماس وحركات المقاومة بدون خجل أو خوف أو تردد.

فالظرف الحالي يفرض الوقوف إلى جانب المقاومة، مهما كان اختلافنا الإيديولوجي معها، وعندما تنتهي هذه المجزرة يمكن أن ننتقد ونؤاخذ ونتفلسف على حماس كما نريد.

علينا ألا نكون ساذجين ونعتقد أن حرب الإبادة ضد غزة ليست سوى دفاع عن النفس لإيقاف صواريخ المقاومة ضد المستوطنات الإسرائيلية. إن الأهداف أبعد بكثير من ذلك. وأهمها جر إيران إلى رد فعل سياسي يكون بمثابة الخطأ الذي سيجعل إسرائيل تضغط على الرئيس الأسود الذي سيدخل البيت الأبيض لكي يشن حربا على إيران، خصوصا بعد أن لوحظ حماسه الفاتر لتكرار خطأ بغداد مع طهران.

إن السيناريو الذي بسببه جرت إسرائيل صدام حسين لاجتياح الكويت وتسبب في حصار العراق تمهيدا لاجتياحه وإعدام رئيسه، هو نفسه السيناريو الذي يتكرر اليوم مع إيران عبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لغزة وممارسته لكل هذه الوحشية ضد المدنيين العزل.

وهذا أيضا ما يفسر الصمت العربي الرسمي في منطقة الشرق الأوسط بالخصوص أمام ما تقترفه إسرائيل في غزة. فالأنظمة العربية هناك تعتبر أي شيء يضعف إيران عملا مباركا، حتى ولو مر على أشلاء آلاف الفلسطينيين. فما يهمهم أولا وأخيرا، وخصوصا العربية السعودية، هو أن يوضع حد للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.

لكل جانب من المشاركين في العدوان على غزة هدف معين. إسرائيل تريد إعادة هيبة جيشها المنهارة منذ سنتين في جنوب لبنان، والقادة الحربيون الإسرائيليون يريدون رفع شعبيتهم على جماجم الأطفال استعدادا لاكتساح الكنيسيت، والقادة العرب ينتظرون جني نتائج صمتهم مقابل إضعاف إيران، أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي الرابح الأكبر إذا ما نجحت الخطة واستجابت إيران إلى «نداء الحوريات» وابتلعت الطعم. آنذاك سيفرك تجار السلاح الأمريكيون الذين يعولون على حرب جديدة ضد إيران أيديهم فرحا بالصفقات الجديدة التي سيبرمونها مع وزارة الدفاع الأمريكية.

فحرب العراق استنفدت صفقاتها، وحان الوقت لاكتشاف سوق جديد لتصريف الصناعة الحربية الأمريكية، التي بفضلها ستنتعش الخزينة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تهدد الوجود الأمريكي برمته.

عندما تندلع الحروب غالبا ما تتجه الأنظار نحو القادة العسكريين والسياسيين والصحافيين بحثا عن أجوبة لما يقع، ولا أحد يلتفت نحو الشركات العالمية لصناعة الأسلحة. رغم أن مدراء هذه الشركات هم من يملك الأجوبة الصحيحة لكل أسئلة الحروب الصعبة...