2010-12-13

ما حك جلدك مثل ظفرك

أظهرت الأحداث والوقائع الأخيرة أن المغرب محاط بالذئاب المفترسة وليس بالجيران. ولذلك فأحسن موقف يمكن أن يتخذه المغرب، بعد التحرشات الأخيرة من طرف الجزائر وإسبانيا، هو أن يراجع أوراقه ويسلح نفسه ويقوي جبهته الداخلية ويطهر صفوف قواته المسلحة من الزوائد والشوائب استعدادا للأسوأ. فيبدو أننا مقبلون على أزمنة صعبة في الصحراء، بسبب ما تقوم به الجزائر من سباق نحو التسلح وضغط ومقايضة بالنفط لشراء المواقف المعادية لوحدة المغرب.
علينا أن نرجع إلى المقولة التي كان يرددها الحسن الثاني بافتخار كلما سأله الصحافيون عن قضية الصحراء: «المغرب في أرضه أحب من أحب وكره من كره».
عندما نتحدث عن تقوية الجبهة الداخلية، فأول شيء يجب أن ننتبه إليه هو خطورة ما يسمى بانفصاليي الداخل، هؤلاء الصحراويون الذين يحملون بطاقة التعريف الوطنية ويدرسون في جامعات مغربية ويتقاضون منحا من خزينة الدولة ويستعملون النقل العمومي المغربي، ومع ذلك تجدهم مستعدين لإحراق العلم المغربي في أول مناسبة ورفع علم البوليساريو.
لقد أظهرت الأيام أن أسوأ شيء يمكن أن تفعله دولة ما، هو أن تقايض انتماء مواطنين إليها ببطاقات التموين والرواتب الشهرية التي لا تتطلب بذل أي مجهود، لأنها تخلق بسبب ذلك شعبا من العاجزين والكسالى والمتواكلين الذين يكرهون العمل ويعتبرون الريع حقا من حقوق المواطنة.
منذ الآن، يجب أن يكون المغاربة سواسية في سوق الشغل، من يريد أن يحصل على راتب يجب أن يشتغل ويعرق من أجله، ومن يرفض العمل عليه أن يتحمل نتائج كسله وخموله.
إن كل الدول التي تفكر في مستقبلها وأمنها تعـِدّ أبناءها إعدادا صلبا يليق بمفاجآت الغد، فنحن نعيش في عالم يأكل فيه القوي الضعيف، عالم متوحش لا مجال فيه للرحمة، عالم إذا غلبك فيه عدو استباح عرضك واغتصب بناتك ونساءك، مع تصوير كل ذلك على أشرطة وتوزيعها على وسائل الإعلام حتى تكون فضيحتك أكبر. ومثال العراقيين والأفغان لازال طريا في الأذهان. لذلك يجب أن يفهم أبناء المغاربة اليوم أن الغد لن يكون سهلا بالشكل الذي يتصورونه. ستأتي الأزمنة الرديئة، ويجب أن نكون مستعدين لها من الآن. وليس بجيل من العاطلين عن العمل والتفكير سنواجه تحديات المستقبل.
لقد أصبح منظرا عاديا أن يقترب منك شاب في العشرين من عمره، يلبس أحسن منك ومع ذلك لا يخجل من أن يطلب درهما أو درهمين ليأخذ الحافلة إلى بيته. لقد أصبح عاديا أن يتسول الشبان ذوو الأكتاف العريضة في الشوارع بلا إحساس بالذنب، والمصيبة أن بعضهم لا يخجل من توقيف فتاة في مثل عمره ومطالبتها بدرهم أو درهمين. وأما بعض الفتيات فمن أجل ساندويتش من «النقانق» وعصير «باناشي» يقبلن بركوب أول سيارة تقف أمامهن.
هذا يعني أن شبابنا يحتاج فعلا إلى «الحكان». لذلك فثلاثة عشر شهرا من الخدمة العسكرية ستكون مفيدة لآلاف الشبان والشابات لكي يعرفوا بحق «الخبز الحرفي» الذي يتعفرون عليه في الصباح عندما يستيقظون في منتصف النهار «معمشين» بعد قضاء الليل كله أمام القنوات الفضائية، يتابعون الأغاني والمسلسلات الهابطة التي تبلد الذوق.
ثلاثة عشر شهرا من «الكرفي» ستكون مفيدة لكي يعرف الشبان ما معنى الدفاع الذاتي في الغابات عوض الجلوس طيلة النهار فوق كراسي الحدائق العمومية لتدخين «الجوانات»، و«يشللو» آذانهم بسماع أزيز الرصاص عوض سماع أغاني «آه ونص»، والمشي عبر الجبال بحذاء مليء بالحصى عوض التسكع في الشوارع بحذاء يساوي راتبا شهريا لموظف في السلم الخامس وسروال مجرور فوق الأرض مثل سراويل «هداوة».
وخلال السبعينيات والثمانينيات، كان أكثر ما يخيف الشباب العاطل هو أن يحمل إليه «مقدم الحومة» استدعاء للمثول أمام باب «قشلة» العسكر. كان «لابلي» شبحا يخيف آلاف الشبان الذين يقضون نهارهم متكئين على الحيطان في الدروب، وكأنهم يمسكونها حتى لا تسقط. ولذلك عندما كان يشيع خبر وصول تلك الاستدعاءات، كان الشبان يفرون إلى مدن بعيدة حتى لا يعثر عليهم مقدم الحي، ومنهم من كان يطلي رجله أو ذراعه بالجبس ويستعير عكاز جده لكي يتظاهر بالعجز ويتم استثناؤه من الخدمة العسكرية.
وطيلة سنوات، تم تجميد قانون الخدمة العسكرية. لم يعد الشبان مجبرين على قضاء كل تلك الأشهر الطويلة وراء أسوار «القشالي» يعيشون على العدس ولحم الجاموسة ويتدربون على القتال وفنون الحرب.
لذلك فكل الشبان والشابات الذين لا شغل لهم غير التسكع في الشوارع سيجدون أنفسهم مجبرين على خلع سراويل «الطاي باص» والأحذية الرياضية لكي يستبدلوها بالبذلة العسكرية والحذاء الثقيل. وشخصيا، أجد هذا القرار، في حالة العودة إليه، أكثر من صائب، لأنه سيمكن الآلاف من أبنائنا المدللين وبناتنا المدللات من الابتعاد قليلا عن حضن آبائهم، وسيجربون الاستيقاظ في الفجر عوض البقاء «خامرين» في الفراش إلى الحادية عشرة.
فيبدو أننا إذا سرنا على هذه الوتيرة فإننا سنحصل، في السنوات القليلة القادمة، على جيل مترهل، والأخطر من ذلك أننا قد نحصل على جيل عديم الخشونة، يعير كل الاهتمام إلى الثقوب التي في سراويله عوض الثقوب التي في عقله. وهنا، تظهر أهمية الخدمة العسكرية كمدرسة لحك الشباب وإعدادهم للمحن. فليس بهذه الأجيال من الكسالى والعاجزين سنواجه تحديات المستقبل.
ولهذا تحرص كل الدول التي تضع حسابا للمستقبل على فرض التجنيد الإجباري. وفي أمريكا، مثلا، يستحيل على فار من التجنيد الإجباري أن ينجح في الانتخابات، فالجميع بغض النظر عن مستواه الاجتماعي يمر عبر صفوف «المارينز».
وفي إسرائيل، جميع المواطنين يخضعون للتدريب العسكري واستعمال السلاح، حتى إن إسرائيل ليس بها مدنيون بل الجميع «معسكر». أما في إنجلترا، فحتى الأمراء يتم إرسالهم إلى أفغانستان لقضاء فترة تدريب عسكري في الجبال. هكذا، يكتشف الشباب حياة أخرى أكثر خشونة وقسوة. ولعل صور الأمير هاري، وهو يلبس البزة العسكرية الخشنة ويحمل السلاح، تعطينا صورة كافية عن أهمية التجنيد والتدريب العسكري في تربية الأوربيين.
ونظرا إلى أنني قريب بعض الشيء من عالم شباب اليوم ومتتبع للظواهر الغريبة التي يعيش تقلباتها، أستطيع أن أؤكد لكم أن هاوية سحيقة تنتظرنا في المستقبل. فأغلب الشباب والمراهقين أصبح لديهم تصور خاطئ حول النجاح، إذ يكفي أن يعرف الواحد منهم أسماء المغنيات ويثقب أنفه أو أذنه حتى يتصور نفسه قد دخل المستقبل من بابه الواسع. وطبعا، فهؤلاء الشباب لا يتحملون مسؤولية هذا الفهم الخاطئ بمفردهم، فوسائل الإعلام تسوق أمامهم يوميا نماذج ورقية خادعة لهذا النجاح الموعود.
يكفي أن تجيد الرقص وأن يكون لديك صوت جميل لكي تضمن مستقبلك، وكأن الموهبة الوحيدة التي يمكن أن تنفع صاحبها في هذه البلاد هي «التلواز». وهذا اختزال خطير للموهبة ولفكرة المستقبل برمتها، والنتيجة هي ما أصبحنا نراه ونسمعه يوميا. شباب ضعيف البنية بسبب سوء التغذية والعيش على الأزبال التي يبيعونها له في المحلات التجارية والتي لا تصلح حتى كطعام للطيور. شباب ضعيف الشخصية والتكوين يتصور أن الحياة هي ساعة كبيرة الحجم في المعصم وحلقة ذهبية في الأذن وما يكفي من الثقوب في السراويل، وبنات قاصرات يعرضن أجسادهن على المواقع الإلكترونية أمام الغرباء من أجل حفنة من الريالات.
أتمنى أن يطبق قانون الخدمة العسكرية الإجبارية في أسرع وقت، وأن يشمل الجميع بدون استثناء، من أبناء الفقراء إلى أبناء الفاسي الفهري. هكذا، ستلتقي الطبقات الاجتماعية في ما بينها داخل الثكنات وتتعارف عن قرب، وربما تتغير نظرة هؤلاء وأولئك نحو الأحسن، فتقل نسبة الكراهية التي يشعر بها الاثنان نحو بعضهما البعض.
كما أن هناك الآلاف من الشباب الذين ستتغير نظرتهم إلى الحياة والمستقبل عندما سيقضون كل تلك الأشهر بالزي العسكري. على الأقل، سترتاح بعض كراسي المقاهي منهم، وبعضهم الآخر سيريح والديه من مصروف قهوته وسجائره اليومي، وسيتعلمون، مثل رجال حقيقيين، كيف يغسلون ثيابهم ويعدون طعامهم ويجمعون فراشهم. ورحم الله سيدي عبد الرحمن المجذوب الذي قال ذات قصيدة «اللي ما جمع فراشو وغسل كساتو وطيب عشاتو، موتو حسن لو من حياتو».

2010-12-09

دير يديك مع «ليدك»

إنه لمن العار أن يستمر اعتقال مواطنين من المحمدية والدار البيضاء في سجن عكاشة في انتظار تقديمهم إلى المحاكمة بتهمة التجمهر وإهانة موظف وتعريض حياة الناس للخطر، لمجرد أنهم احتجوا على المسؤولين وشركة «ليدك» بسبب ضياع ممتلكاتهم وتخريب بيوتهم خلال الأمطار الأخيرة.

وبينما يقبع هؤلاء المواطنون، الذين كان يجب تعويضهم، في غياهب السجن ينعم المتهمون الحقيقيون بالحرية، مع أنهم هم الذين هددوا حياة المواطنين بالخطر وتسببوا في مقتل كثيرين منهم وضياع ممتلكاتهم، وأهانوا ملايين المواطنين.

إن من يجب أن يقفوا أمام المحكمة بعد كارثة الأمطار الأخيرة هم عمدة المدينة ومدراء شركة «ليدك» والوالي، لأنهم لم يتحملوا مسؤوليتهم كما يجب، وتركوا المواطنين يجابهون مصيرهم.

وإلى اليوم، لازالت أربعة شرايين كبرى داخل قلب مدينة الدار البيضاء مقطوعة بسبب الأخاديد والمسابح المفتوحة على السماء التي ظهرت فوقها، إلى درجة أن حركة السير أصبحت تتوقف كليا بها، مما يعرض مصالح ملايين المواطنين للضياع.

وعوض أن يهتم القضاء بمتابعة هؤلاء المسؤولين الذين أهانوا مدينة بكاملها وعرضوا حياة مواطنيها وأمنهم للخطر، فضل القضاء أن يحاكم حفنة من المواطنين البسطاء الذين قادهم غضبهم وقلة حيلتهم إلى قطع الطريق وعرقلة السير لإثارة انتباه السلطات إلى بيوتهم التي جرفتها السيول وممتلكاتهم التي ضاعت معها.

وإذا كانت السلطات القضائية قد قررت أن تغمض عينها عن متابعة المسؤولين الحقيقيين عما وقع في الدار البيضاء والمحمدية من كوارث لازالت آثارها باقية إلى اليوم، وتطبق قاعدة «دير يديك مع ليدك»، فإن شركة «ليدك» قررت من جانبها ، وحتى لا يتكرر ما وقع، القيام بإجراءين على درجة كبيرة من الأهمية، الأول هو الاستعانة بخبرات متخصص سابق في قضايا الإرهاب للبحث عن مصادر التسريبات التي تعاني منها شبكة «ليدك».

ونحن هنا لا نتحدث عن التسريبات المائية التي تعاني منها «قوادس» الشركة، وإنما نتحدث عن التسريبات المعلوماتية على طريقة «ويكيليكس»، والتي تجعل أخبارا طرية وصادمة حول طريقة التدبير الداخلي للشركة تجد طريقها إلى النشر في «المساء»، بالأسماء والوثائق والوقائع.

وعندما لم تستطع الإدارة العامة للشركة الفرنسية تكذيب هذه المعلومات والأخبار التي تفضح التقنيات السرية التي تلجأ إليها الشركة لسرقة جيوب زبائنها من أجل مضاعفة أرباحها السنوية، لجأت إلى خدمات متعاون سابق مع وزارة الداخلية في ملفات الإرهاب لكي يحقق في طريقة تسريب هذه المعلومات إلى «المساء». ولو أن الإدارة العامة لشركة «ليدك» وفرت طاقتها ومالها في توظيف مهندس متخصص في البحث عن التسريبات التي تعاني منها شبكتها المائية والكهربائية لكان أحسن لها وللمواطنين.

لكن «ليدك» عوض أن تبحث عن مصادر «الفويت» «fuite» التي تغرق المواطنين كلما هطلت الأمطار، فضلت أن تركز كل جهودها في البحث عن مصدر «الفويت» داخل حواسيب موظفيها.

أما الإجراء «الهام» الثاني الذي سارعت شركة «ليدك» إلى القيام به، مباشرة بعد غرق الدار البيضاء، فهو المسارعة إلى الاتصال بشركة الإعلانات التي تتعامل معها لكي تطلب منها «ضرب» عدد الإعلانات مدفوعة الأجر التي توزعها «ليدك» على الصحافة في خمسة.

هكذا، عوضت إعلانات «ليدك» الملونة، والتي تتحدث عن المصابيح منخفضة التكلفة، على صفحات مجموعة كبيرة من الجرائد والمجلات، المقالات الغاضبة التي كان يجب أن تتحدث عن مسؤولية «ليدك» في انطفاء مصابيح مئات الآلاف من البيوت والعشرات من الأحياء في الدار البيضاء.

إنها قمة السخرية والاستخفاف بذكاء المواطنين. في الوقت الذي غرق فيه أكثر من نصف المولدات الكهربائية لشركة «ليدك»، بسبب وضعها في الأدوار تحت الأرضية، تفضل الشركة خوض حملة ترويجية وسط المستهلكين للمصابيح الاقتصادية. فالمشكلة دائما توجد في المستهلك الذي يبذر الطاقة، وليس في الشركة التي تبذر، بسوء تدبيرها للطاقة، مصالح البلاد والعباد.

وبالفعل، نجحت «ليدك» في حشو أفواه مدراء العديد من المؤسسات الإعلامية، جرائد ومجلات ومحطات إذاعية، بالوصلات والصفحات الإعلانية المجزية، فأصبحوا يرددون مثل الببغاوات رواية إدارة «ليدك» المتذرعة بتجاوز التساقطات للحد الذي تعاقدت حوله «ليدك» مع مجلس المدينة، وبالتالي فمسؤولية ما وقع من كوارث تتحملها المشيئة الإلهية وليس «التقصير» البشري.

وربما هذا بالضبط ما دفع مديرة التواصل بالشركة، الفرنسية المغربية، بشرى الغياثي، إلى تجنب وضع مقالاتنا التي ننتقد فيها جشع وفشل «ليدك» في تدبير قطاع الماء والكهرباء والتطهير السائل، في الشبكة الداخلية للشركة مثلما تصنع مع كل المقالات التي تتحدث عن «ليدك» في الصحافة والموجهة إلى مستخدمي الشركة.

فقد وجدت مديرة التواصل أن كل المعلومات التي نشرناها صحيحة مائة في المائة، فكان قرار الإدارة هو العمل بقاعدة «ما شنا ما رينا» والاكتفاء بشراء صمت الآخرين، ما دام صمت «المساء» يستحيل شراؤه.

والنتيجة هي ما نراه اليوم. الضحايا -الذين احتجوا على ضياع ممتلكاتهم بسبب تقصير «ليدك» والسلطات المحلية- انتهوا في السجن متابعين بتهم ثقيلة، ومدراء الصحف -الذين كان يجب أن يطالبوا بمقاضاة «ليدك» وجميع المسوؤلين عن ضياع أرواح وممتلكات المواطنين- تقاضوا ثمن صمتهم على شكل رشوة مدفوعة بواسطة الإعلانات، و«ليدك» علقت مسؤولية ما حدث على ظهر الأمطار التي لم تلتزم بالحد الأدنى المتفق بشأنه مع العمدة ساجد. والعمدة ساجد يتحدث لأول مرة عن مسؤولية «ليدك» في ما وقع، فيما ينسى أنه أخل بمسؤوليته كسلطة وصاية عندما لم يقاض «ليدك» بسبب إخلالها ببنود دفتر التحملات.

ولعل أول بند كان يجب أن يقاضي العمدة الشركة بسبب الإخلال بروحه، هو البند المتعلق بشروط توظيف الأطر الأجنبية في فرع الشركة الفرنسية بالمغرب، والذي ينص على ضرورة توفر الإطار الفرنسي على تجربة مهنية لا تقل عن 15 سنة، حتى تستفيد منه الأطر المغربية. وهو البند الذي فات المستشار «بريجة»، عندما ذهب إلى قناة «ميدي 1 سات» لكي يدافع عن تشجيع «ليدك» للأطر المغربية، قراءته.

ففي تناقض سافر مع روح هذا البند، وظفت الشركة إطارا فرنسيا من أصل جزائري، سمير آيت قاسي، لا يتجاوز عمره 28 سنة، في منصب رئيس قسم «ضبط التسريبات». مع أن «الشاب» لا يتوفر سوى على أربع سنوات من التجربة. لكن هذا لم يمنع الإدارة العامة من إغداق الامتيازات عليه، بدءا بالسكن في فيلا مجهزة بمسبح بالقرب من مقهى «بول» بشارع «أنفا» في أحد أرقى أحياء الدار البيضاء، والسيارة الفارهة وبطاقة البنزين التي تعطيه إمكانية «حرق» 5000 درهم من البنزين شهريا، واشتراك مفتوح في الهاتف النقال، زائد مصاريف التنقل والأكل في المطاعم الراقية.

والنتيجة المباشرة التي ترتبت عن تعيين إطار بدون تجربة في منصب حساس كمنصب «قسم ضبط التسريبات» بالشركة هي عجزها، إلى حدود اليوم، عن ضبط «التسريبات» التي أغرقت أحياء الدار البيضاء ولازالت تقطع أهم شرايين المدينة أمام حركة المرور إلى اليوم، وتسببت في غرق الدور السفلي للمكتب الشريف للفوسفاط، أول مصدر للعملة الصعبة في المغرب.

وفي مقابل إنزال الأطر الفرنسية بالمظلات فوق كراسي المناصب الحساسة لشركة «ليدك»، نرى كيف أن الإدارة العامة تخوض حملة «تطهير» منظمة ضد الأطر المغربية التي اشتغلت في القطاع منذ أيام شركة «لاراد» واستطاعت تكوين تجربة ميدانية دقيقة وفعالة.

وأبرز مثال على ضحايا حملة التطهير هذه ما وقع للمدير العام المساعد لشركة «ليدك»، الذي تلقى رسالة من الإدارة العامة تخبره بتعيين مدير مساعد فرنسي مكانه مع بداية السنة الجديدة، وإحالته على قسم المشتريات، كطريقة مهذبة لوضعه في الدولاب بانتظار وصوله سن التقاعد.

ولكم أن تتأملوا هذه المفارقة العجيبة، مدير مساعد مغربي قضى حياته المهنية في خدمة الشركة، لديه تجربة ميدانية، ينتهي في قسم المشتريات لكي يأخذ مكانه مدير مساعد فرنسي، فيما المبتدئون الفرنسيون الذين نزلوا مع الأمطار الأخيرة تعطى لهم المناصب الحساسة في الشركة ضدا على بنود دفتر التحملات وضدا على مصالح ملايين المواطنين في الدار البيضاء والمحمدية.

أكثر من ذلك، فشركة «ليدك» لم تعد تكتفي فقط بتغيير مديريها بمديرين فرنسيين، بل أصبحت تعين إلى جانبهم مديرين مساعدين فرنسيين. والدليل على ذلك أنه بمجرد ما انتهى عقد المدير التقني الفرنسي «جون بيير هانغوني» jean pierre hangouet، لم يكتفوا بتعيين مدير فرنسي آخر مكانه، nicolas barbe، وإنما عينوا إلى جانبه مساعدا تقنيا فرنسيا أيضا، والذي كان دوره هو «تطهير» المصلحة التي عين فيها من «رائحة» الأطر المغربية. وإلى جانب هؤلاء الأطر، تم تعيين مسؤولين فرنسيين جددٍ للعمل في مشروع «الطرام واي»، بامتيازات لا يحلم بها الوزراء في بلادهم.

إن مسؤولية العمدة والسلطات الوصية على قطاع التدبير المفوض تفرض عليهم جميعا أن يراجعوا مع «ليدك» بنود دفتر التحملات بندا بندا، لأنه ليس من المقبول، أخلاقيا وقانونيا وسياسيا، أن تتعرض أكبر وأهم مدينة مغربية للشلل بسبب جشع شركة أصبح همها الأكبر هو التحكم في الخريطة الانتخابية عوض التحكم في خريطة «القوادس» وأسلاكها الكهربائية.

2010-12-08

إذا ظهر السبب

سيمر وقت طويل قبل أن يكتشف العالم، مصعوقا، أن ما تسميه وزارة الخارجية الأمريكية «تسريبات» لوصف «خروج» ربع مليون وثيقة من مكاتبها المحروسة بأكثر الأنظمة المعلوماتية صرامة ونشرها في موقع «ويكيليكس» وتعميمها على الصحافة العالمية، لم يكن سوى حلقة من حلقات مسلسل الابتزاز الدولي الذي تجيده الولايات المتحدة الأمريكية.

إنه لمن السذاجة الاعتقاد بأن الصور والأشرطة التي تسربت إلى الصحافة عن فظائع سجن أبو غريب بالعراق وهمجية الجنود البريطانيين في أفغانستان، وغيرها من الفضائح المصورة، كانت «خبطات» صحافية حققتها جرائد بجهودها الذاتية. كل تلك الصور والأشرطة كان خروجها مبرمجا ومدروسا بعناية فائقة، والهدف الحقيقي من وراء ذلك ليس هو فضح الآلتين العسكريتين الأمريكية والبريطانية، فهمجية هذين الجيشين شيء معروف عبر التاريخ، وإنما هو ترويع «العدو» وترهيبه. وطبعا، فالعدو هنا هو الدول الإسلامية قاطبة والتي يرى فيها الغرب المسيحي تهديدا حقيقيا لوجوده.

الآن، نفهم بشكل أحسن لماذا تم إعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى وتنظيم «تسريب» مشهد الشنق الرهيب وإيصاله إلى كل تلفزيونات العالم. لقد كان الهدف هو بث الرهبة والرعب في نفوس القادة والشعوب التي تتحدى الإمبريالية الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية.

والدليل على ذلك أن قرار تنفيذ الإعدام في حق طارق عزيز، أسبوعا قبل عيد الأضحى الأخير، لم يتم تنفيذه، بل إنه ألغي بعد تدخل الفاتيكان شخصيا في الموضوع.

فالهدف من شنق معارضي أمريكا ليس تخويف العالم المسيحي، بل العالم الإسلامي تحديدا. ولذلك تم تعليل إبعاد حبل المشنقة عن رقبة طارق عزيز بكونه ينتمي إلى الأقلية المسيحية العراقية. وهذه الأقلية المسيحية، التي تعيش في الشرق وسط المسلمين، تحظى اليوم في وسائل الإعلام الغربية باهتمام غير مسبوق، مما يوحي بنضج مشروع استعمالها في مؤامرة التقسيم الكبرى، التي وضع خريطتها الثعلب الأمريكي العجوز «هنري كيسنجر» قبل خمسين سنة والتي بدأت في العراق والسودان، وتخطط أمريكا وإسبانيا -بتمويل من الجزائر- لتطبيقها في المغرب.

من الممكن جدا أن يكون مؤسس موقع «ويكيليكس» شخصا مؤمنا بما يقوم به وهو يفرج العالم على أسرار الدبلوماسية الأمريكية، لكن من غير الممكن أن يكون بريئا تماما. فمؤامرة «ويكيليكس» تهدف، في العمق، إلى إحراج أنظمة بعينها من أجل ابتزازها ومقايضة حجب الوثائق التي تحرجها بخدمات تقدمها هذه الأنظمة إلى الخارجية الأمريكية.

فعملية البحث عن مؤسس «ويكيليكس» ومحاولة اعتقاله ومحاكمته مسرحية لم تعد تقنع أحدا. وإذا كنا نفهم عجز أمريكا عن اعتقال بلادن بسبب اختبائه في باطن الأرض، فإننا لا نفهم كيف يعجز البوليس البريطاني عن اعتقال «أسانج» وهو الذي يعطي يوميا ندوات صحافية أمام وكالات الأنباء الدولية.

كما أن خروج ربع مليون وثيقة من حواسيب أكبر وأهم وزارة في العالم تبقى حكاية قادرة على جعل فيل عجوز ينام واقفا.

وعندما نرى كيف اجتمع أوباما بكل وزراء خارجيته السابقين، وعلى رأسهم «هنري كيسنجر»، لتدارس الخطوات المستقبلية بعد نشر «ويكيليكس» لوثائق الخارجية الأمريكية، نفهم أن «التسريبات» كانت مدروسة بعناية فائقة. فالأهداف الكبرى واضحة، والمستهدفون الحقيقيون بركام الوثائق هذا هم إيران وتركيا وروسيا وباكستان والصين والمغرب. أما إسرائيل، فإلى حدود اليوم ليست هناك وثائق تفضح سياستها الاستيطانية وأسرار المطبخ الصهيوني الداخلية. غياب إسرائيل عن برقيات «ويكيليكس» لا يوازيه سوى استحالة العثور على خرائطها في موقع «غوغل أورث» للمسح الجوي. فباستطاعتك رؤية العالم بأسره من أعلى إلا إسرائيل.

وإذا كانت برقيات السفير الأمريكي في أنقرة تشيد بالجيش التركي وتنتقد ارتشاء الحكومة وتدعي توفر الرئيس على حسابات مصرفية سرية في سويسرا، الذي كذبه هذا الأخير معلنا استعداده لتقديم استقالته في حالة ثبوت ادعاءات السفير الأمريكي، فإن برقيات السفير الأمريكي السابق «طوماس رايلي» تضرب الجيش المغربي في الصميم عندما تتحدث عن ثقل الإجراءات الإدارية داخل مؤسسة الجيش. وبما أن جريدة «إلباييس» لا تكتفي بترجمة التصريحات كما هي بل تضيف إليها من عندها بهاراتها المفضلة، فقد تحول وصف السفير لإدارة الجيش بالبيروقراطية إلى ضعف الجيش وترهله.

لماذا، إذن، تتغزل برقيات السفارة الأمريكية بأنقرة في قوة الجيش وتنظيمه ونظافة ذمة جنرالاته، بينما يسخر السفير الأمريكي بالرباط من بيروقراطية الجيش المغربي وضعف تكوين عناصره، ثم يعود في برقية أخرى ليتحدث عن نجاعة الجيش المغربي وانخراطه في مكافحة الإرهاب في المنطقة؟

كيف يكون الجيش المغربي ضعيفا من حيث الإدارة وناجعا في الميدان؟ سؤال يعرف جوابه حتما السفير الأمريكي السابق بالرباط.

أمريكا لم تهضم بسهولة تصويت الشعب التركي على التعديل الدستوري الأخير الذي يقزم صلاحيات الجيش التركي العلماني ويعطي رئيس الوزراء الإسلامي صلاحيات أوسع.

ولذلك كتب أحد موظفي السفارة الأمريكية في أنقرة برقية يقول فيها إن الأتراك شعب تظهر على محياه علامات الارتياح. وهنا يظهر كيف أن موظفي السفارات الأمريكية ينتبهون إلى كل شيء، حتى ولو تعلق الأمر بالتعبيرات الخارجية لقسمات وجوه المواطنين في الشوارع، هل هي منشرحة أم مبعثرة بسبب الضغط. وهذا ما جعل زملاء هؤلاء الموظفين يكتبون من سفارة الولايات المتحدة بالجزائر العاصمة برقية إلى واشنطن يقولون فيها إن الشعب الجزائري محبط وتعلو وجوه مواطنيه مسحة من الحزن. فقسمات وجوه المواطنين تصلح لمعرفة درجة رضاهم أو سخطهم عن الأوضاع السياسية التي يعيشونها في بلدانهم.

هذا يعني أن كل شيء مهم بالنسبة إلى موظفي السفارات الأمريكية عبر العالم. من قراءة ملامح وقسمات الوجوه إلى توقيت «تسريب» الوثائق إلى تحديد الأهداف وتصفيفها، ثم قصفها بدقة.

وبالنسبة إلينا نحن في المغرب، فهذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها سفير أمريكي عن الرشوة والجيش. هذا الخليط القابل للانفجار بمجرد ما تلتقي عناصره، خصوصا في هذه الظروف العصيبة التي تتدخل فيها إسبانيا في السيادة المغربية ويهدد فيها البوليساريو بالعودة إلى حمل السلاح ضد المغرب، وتحشد فيها الجزائر مدفعيتها الثقيلة على الحدود وتستدعي إلى صفوف الجيش 70 ألفا من سكان القرى الذين سلحتهم قبل سنوات للدفاع عن أنفسهم ضد غارات الجماعات المسلحة.

وبمجرد ما قرأت البرقية التي يتحدث فيها السفير الأمريكي السابق «طوماس رايلي» إلى السفير الإسباني السابق «لويس بالاناص»، المهندس الحقيقي لمخيم العيون، حول المصاعب التي واجهتها السفارة الأمريكية في العثور على أرض لبناء مقر السفارة الجديد، وكيف أن تفشي الرشوة في العقار جعل هذه الصفقة مستحيلة، تذكرت شكوى مماثلة تلقاها الجنرال المذبوح خلال إحدى زياراته للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الممتدة بين 1967 و1970. في تلك الفترة، كانت شركة الطيران الأمريكية «باناميريكان آير وايز» ترغب في اقتناء بقعة أرضية في الدار البيضاء من أجل إقامة فنادق فخمة تابعة للشركة فوقها، غير أن أحد رجال السلطة النافذين آنذاك طلب رشوة من الشركة الأمريكية بالملايير مقابل إعطائهم الأرض، مدعيا، دون علم الحسن الثاني، أن القصر هو الذي طلب منه ذلك. فلم يكن من رئيس الشركة سوى أن اشتكى لدى كاتب الدولة الأمريكي آنذاك «ويليام روجرز»، والذي أخبر الجنرال المذبوح بتفاصيل القصة، كما أخبره بأن عددا من وزرائه متورطون في شبكة لتهريب بعض المعادن النفسية إلى الخارج.

أشهرا بعد هذه الحادثة، وبعد نجاة الملك من انقلاب الصخيرات، فتح الحسن الثاني ملفات وزرائه المرتشين فيما بات يعرف آنذاك بمحاكمة الوزراء الشهيرة، وأرسل الوزير المامون الطاهيري، لزرق، بنمسعود، العيماني وآخرين إلى السجن بتهمة الارتشاء.

ومن الطرائف التي تحكى حول محاكمة الوزراء واحدة حول وزير المالية آنذاك، والذي عندما اعتقله رجال الأمن وشرعوا في استنطاقه أصيب بإسهال حاد في الاعتراف، فبدأ يعطي أسماء كل المتورطين معه. وعوض أن يضربوه لكي يعترف بدؤوا يضربونه لكي يسكت بسبب طول اللائحة ونفوذ الأسماء التي اعترف بها.

عندما نقارن بين شكوى رئيس شركة «باناميريكان آير وايز» لكاتب الدولة الأمريكي والجنرال المذبوح بسبب صعوبة حصوله على بقعة أرضية في الدار البيضاء سنة 1970 لتشييد فنادقه الفخمة فوقها، وشكوى السفير الأمريكي للسفير الإسباني سنة 2007 من صعوبة حصوله على أرض في الدار البيضاء لتشييد مقر جديد لقنصليته واتهامه للجيش المغربي بالبيروقراطية وضعف التكوين، نفهم أن الشكوى من الرشوة كانت دائما سلاحا فعالا لتغذية الانقلابات العسكرية عند الأمريكيين.

فالإدارة الأمريكية ترعى الرشوة والفساد داخل الأنظمة السياسية، وعندما تشعر بأن دولة ما تسير في اتجاه الديمقراطية تعرقل مسيرتها، لأن الديمقراطية، خصوصا داخل الدول العربية والإسلامية والدول ذات الموارد الطاقية المهمة، ليست في صالح الولايات المتحدة الأمريكية.

لهذا فتوقيت «تسريب» هذه البرقيات التي تضرب المؤسسة العسكرية المغربية في الصميم، ليس بريئا تماما، خصوصا وأن البرقيات التي تتهم المؤسسات السيادية للمغرب تم إرسالها إلى الصحيفة الإسبانية الأكثر شراسة في مهاجمة المغرب هذه الأيام.
وإذا ظهر السبب بطل العجب.

2010-12-06

نحن و«ويكيليكس»

عندما كتبنا أن السفارة الأمريكية في الدار البيضاء تترجم كل صباح ما نكتبه وتنجز حوله تقارير يومية للسفير وترسل نسخة منه إلى الإدارة الأمريكية بواشنطن، اتهمنا بعض المعلقين بالغرور وتضخم الأنا.

وهاهي التقارير السرية التي كان يرسلها السفير الأمريكي وموظفوه، والتي نشرها موقع «ويكيليكس»، تكشف أن أغلب المعلومات التي تتضمنها هذه الوثائق السرية تستند إلى ما تنشره الصحافة الوطنية.

وقد انتبه إلى هذه الملاحظة الرئيس الإسباني الأسبق، «فيليبي غونزاليس»، الذي أشار إلى أن تسعين في المائة من المعلومات التي تكشف عنها وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرها «ويكيليكس» سبق للصحافة أن تطرقت إليها.

وإذا كان لنشر كل هذا الركام من الوثائق السرية من مزية فهي أن هذا النشر «المتوحش» سيغير نظرة الجميع نحو موظفي السفارات الأمريكية عبر العالم، خصوصا أولئك الثرثارين العرب الذين يحبون أن يستعرضوا معلوماتهم أمام أول موظف أمريكي يصادفونه.

ومنذ اليوم سيفكر كل مسؤول رسمي أو صحافي أو رجل أعمال مغربي ألف مرة قبل أن يفتح فمه للإجابة عن سؤال يطرحه السفير الأمريكي أو التعليق على كلام أحد موظفيه، حتى ولو تعلق الأمر بمجرد تعليق تافه عن أحوال الطقس.

فبعد تسرب ربع مليون وثيقة سرية من حواسيب الخارجية الأمريكية، تكشف تفاصيل ما كان يلتقطه ويكتبه موظفو السفارات الأمريكية عبر العالم حول الزعماء والحكومات، سيفكر كثيرون مرتين قبل الاستجابة لدعوات الغداء والعشاء التي اعتادت الخارجية الأمريكية تنظيمها على شرف الصحافيين والسياسيين ورجال الأعمال.
وشخصيا، كنت دائما أتضايق من طريقة الأمريكيين في انتزاع معلومة أو تعليق منك، فهم دائما عندما يزورونك في مكتبك يرسمون على وجوههم ابتسامة بلهاء ويطرحون أسئلتهم بشكل يجعلك تتوهم أنهم أغبياء وأنك في موقع إنارة جهلهم بمعلوماتك المضيئة.

عندما ينجحون في ترسيخ هذا الوهم داخل دماغك، يشرعون في استدراجك للحديث والتعليق على الموضوعات التي يرغبون في جمع معلومات بشأنها.

وبما أننا، نحن المغاربة، نحب الثرثرة كثيرا وبعضنا يجد لذة كبيرة في الحديث عن أشياء يجهلها تماما، فإن السفارة الأمريكية لديها برنامج مضبوط لتنظيم اللقاءات الدورية مع الصحافيين ورجال الأعمال والسياسيين لجمع الأخبار والتعاليق وتبادل أرقام الهواتف.

آخر زيارة لمسؤول أمريكي لمكتبي كانت قبل أسبوعين. فقد طلبت السفارة موعدا معي لاستقبال الملحق الإعلامي الجديد الذي جاء لكي يعوض الملحق السابق الذي انتقل للعمل ناطقا رسميا باسم السفارة الأمريكية في بغداد.

جاء الملحق الإعلامي الأمريكي في الموعد. كان يبدو بسبب طوله الفارع وبشرته السمراء كأحد لاعبي فريق «هارليم» لكرة السلة أكثر منه موظفا في الخارجية الأمريكية. وبعد «ركن التعارف» التقليدي وتبادل بطاقات الزيارة، بدأ الحديث حول كل شيء ولا شيء. وبعد ذلك، لا أعرف كيف استقر الحديث حول استقلالية الصحافة المغربية. فكان جوابي أنه لمعرفة استقلالية مطبوعة معينة من عدم استقلاليتها، يكفي تتبع مصادر التمويل، فمن يصرف على الجريدة أو المجلة هو الذي يتحكم في خط تحريرها، وكل مطبوعة تعتمد في تمويلها على مصدر آخر غير قرائها ومعلنيها فهي مطبوعة غير مستقلة بالتأكيد. ومثل هذه المطبوعات في المغرب كثيرة جدا، حتى إنك تستغرب كيف تستطيع يوميات وأسبوعيات كثيرة الاستمرار في الصدور دون أن يكون لها قراء ولا معلنون.

وطبعا، وراء هذه اليوميات والأسبوعيات يقف رجال أعمال مغاربة وجهات سياسية في دول عربية ثرية تبحث لها عن موطئ قدم في المغرب.

دام اللقاء حوالي نصف ساعة، وانتهى دون أن يكون هناك موضوع آخر للنقاش، فاللقاء كان لقاء تعارف ومجاملة أكثر منه لقاء لجمع معلومات حول موضوع محدد.

«دافيد»، الذي انتقل للعمل في بغداد، كان أكثر إلحاحا في أسئلته. وقد جاء إلى مكتبي قبل أن يغادر المغرب بأشهر، في عز أزمة طرد المبشرين الأمريكيين، لكي يبلغني، بشكل مهذب، استياء السفارة الأمريكية من المقالات التي خصصناها لموضوع طرد المبشرين الأمريكيين. فقد كان ربما يعتقد أننا سنتبنى وجهة نظر المجلات واليوميات العلمانية كمجلة «تيل كيل»، التي يستعد مديرها للالتحاق بطابور المستفيدين من منح أمريكا الدراسية، وجريدتي «الصباح» و«ليكونوميست» اللتين ما إن يتم تعيين سفير أمريكي جديد حتى تتسابقا لاستدعائه والتقاط الصور معه في مقرهما ونشرها في الصفحة الأولى من عدد اليوم الموالي.

ولهذا فإنني لم أستغرب نقل إحدى الوثائق السرية التي نشرها «ويكيليكس» لما كتبته «المساء» حول زيارة ساركوزي للمغرب سنة 2008، ونعتها، عن جهل، بالجريدة المستقلة والإسلامية والمحسوبة على العدالة والتنمية.

فهؤلاء الأمريكيون يعتبرون كل من يفتخر بدينه الإسلامي ويدافع عنه إسلاميا وليس مسلما. كما أنهم يجهلون أن «المساء» والعدالة والتنمية كانا دائما على طرفي نقيض. وربما نحن الجريدة الوحيدة في المغرب التي أعلن الأمين العام للعدالة والتنمية عن مقاطعتها وعدم التحدث إليها بسبب كل المشاكل التي تسببت له فيها عندما نشرت تصريحات صادمة تنكر لها الأمين العام فيما بعد.

كما أن الأستاذ الرميد سحب نيابته عن جميع القضايا التي كان ينوب فيها عن «المساء»، بمقابل، بسبب انتقادنا في أحد الأعمدة لتراجعه عن تقديم استقالته من البرلمان.

وبما أن موظفي السفارة الأمريكية ليس لهم علم بهذه التفاصيل، فإنهم يفضلون أن يقسموا الصحافة المغربية إلى قسمين، العلمانية والإسلامية.
والحمد لله أن السفارة الأمريكية وضعتنا في قائمة الإسلاميين ولم تضعنا في قائمة الإرهابيين.

كنت أعرف أن موضوع المبشرين يحظى باهتمام كبير على أعلى مستوى في البيت الأبيض، ولذلك كانت حساسية السفارة الأمريكية بالدار البيضاء حيال ما تنشره «المساء» حول هذا الموضوع مرتفعة مقارنة بجميع المواضيع الأخرى.

كانوا يريدون أن تدين الصحافة المغربية طرد المبشرين وأن يطالبوا الدولة بمحاكمتهم أمام القضاء المغربي لكي يحرجوا المغرب أمام العالم المسيحي قاطبة. هناك صحف ومجلات تبنت هذا الطرح، لكن تأثيرها على الرأي العام كان ضعيفا وغير ذي جدوى. بالنسبة إليهم، فما نكتبه في «المساء» لديه وقع خاص، ولذلك جاء «دافيد» يشتكي من «هجومنا» على بعض «معاقل» التبشير بالدار البيضاء مطالبا بالعودة إليه واستشارته كل مرة نريد فيها الكتابة حول هذا الموضوع.

لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية لشعور الأمريكيين بالغضب عندما بادر المغرب إلى طرد المبشرين الأمريكيين. فقبل سنوات، استقبل السفير المغربي في مقر إقامته بواشنطن مبعوثين من البيت الأبيض جاؤوا برفقة رجال دين مسيحيين. وبعدما شربوا الشاي والقهوة وأكلوا «كعب غزال»، دار الحديث حول ضرورة فتح أبواب المغرب أمام المبشرين للقيام بأنشطتهم. وبما أن السفير كان يطمع في دعم البيت الأبيض للمغرب في ملف الصحراء، فقد وافق، دون أن يستشير مسؤوليه ودون أن يعي خطورة الوعد الذي قدمه إلى الأمريكيين.

الأمريكيون، من جانبهم، اعتقدوا أن السفير مفوض للحديث عن هذا الموضوع من طرف مرؤوسيه، الشيء الذي لم يكن صحيحا، ولذلك غادروا بيت السفير وهم متأكدون من أن المغرب موافق رسميا على ممارستهم لأنشطتهم التبشيرية على أراضيه.

ولهذا السبب لم يجد المبشرون الأمريكيون حرجا في ممارسة نشاطهم التبشيري بشكل علني، ومبالغ فيه أحيانا. ففي اعتقادهم أن الطريق كانت مفتوحة أمامهم، إلى أن بدأت أولى الاعتقالات وعمليات الطرد، فشعر الأمريكيون كما لو أن المسؤولين المغاربة ضحكوا عليهم. ولهذا جاءت تصريحات السفير الأمريكي بالدار البيضاء قوية وغاضبة، تلتها مواقف «اللوبي» المسيحي في البيت الأبيض ومجلس الشيوخ والمنظمات الدولية الدائرة في فلكهم، والتي حاولت وضع المغرب ضمن لائحة الدول التي تقمع الحريات الدينية.

طبعا، هذه القصة لن تعثروا عليها في وثائق «ويكيليكس»، لأنها ببساطة قصة غير منشورة. وأغلب تقارير موظفي السفارات الأمريكية منقولة من صفحات الجرائد.

عندما نراجع وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرتها «ويكيليكس» حول الفساد في الجيش والرشوة التي يشهدها عالم المال والأعمال، نندهش من كون أغلبها استعادة شبه حرفية لما نشرناه طيلة السنوات الأخيرة حول هذين الموضوعين، فيما البقية المتبقية عبارة عن حكايات لا أحد يستطيع التأكد من صحتها.

ما الجديد في أن الجنرال بناني لديه ضيعات فلاحية يشغل فيها الجنود، أو أن الجنرال حسني بنسليمان لديه رخص للصيد في أعالي البحار. في الحقيقة كانت له رخص، لأنه باعها مؤخرا عن آخرها؟

وما الجديد في كون عالم العقار يعرف انتشار التهرب الضريبي والمضاربات لرفع الأسعار، أو في كون الملياردير عثمان بنجلون ينتمي إلى «لوبي» فاسي نافذ في المال والأعمال؟

إن كل هذه المواضيع تم «هردها» من طرف الصحافة المغربية إلى درجة أصبحت معها تحصيل حاصل.

لكن السؤال الغامض ليس هو: لماذا تسريب هذه الوثائق حول فساد الجيش المغربي وجنرالاته؟ ولكن السؤال هو: لماذا الآن بالضبط؟
هذا ما سنحاول توضيحه في عمود الغد.