عندما كتبنا أن السفارة الأمريكية في الدار البيضاء تترجم كل صباح ما نكتبه وتنجز حوله تقارير يومية للسفير وترسل نسخة منه إلى الإدارة الأمريكية بواشنطن، اتهمنا بعض المعلقين بالغرور وتضخم الأنا.
وهاهي التقارير السرية التي كان يرسلها السفير الأمريكي وموظفوه، والتي نشرها موقع «ويكيليكس»، تكشف أن أغلب المعلومات التي تتضمنها هذه الوثائق السرية تستند إلى ما تنشره الصحافة الوطنية.
وقد انتبه إلى هذه الملاحظة الرئيس الإسباني الأسبق، «فيليبي غونزاليس»، الذي أشار إلى أن تسعين في المائة من المعلومات التي تكشف عنها وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرها «ويكيليكس» سبق للصحافة أن تطرقت إليها.
وإذا كان لنشر كل هذا الركام من الوثائق السرية من مزية فهي أن هذا النشر «المتوحش» سيغير نظرة الجميع نحو موظفي السفارات الأمريكية عبر العالم، خصوصا أولئك الثرثارين العرب الذين يحبون أن يستعرضوا معلوماتهم أمام أول موظف أمريكي يصادفونه.
ومنذ اليوم سيفكر كل مسؤول رسمي أو صحافي أو رجل أعمال مغربي ألف مرة قبل أن يفتح فمه للإجابة عن سؤال يطرحه السفير الأمريكي أو التعليق على كلام أحد موظفيه، حتى ولو تعلق الأمر بمجرد تعليق تافه عن أحوال الطقس.
فبعد تسرب ربع مليون وثيقة سرية من حواسيب الخارجية الأمريكية، تكشف تفاصيل ما كان يلتقطه ويكتبه موظفو السفارات الأمريكية عبر العالم حول الزعماء والحكومات، سيفكر كثيرون مرتين قبل الاستجابة لدعوات الغداء والعشاء التي اعتادت الخارجية الأمريكية تنظيمها على شرف الصحافيين والسياسيين ورجال الأعمال.
وشخصيا، كنت دائما أتضايق من طريقة الأمريكيين في انتزاع معلومة أو تعليق منك، فهم دائما عندما يزورونك في مكتبك يرسمون على وجوههم ابتسامة بلهاء ويطرحون أسئلتهم بشكل يجعلك تتوهم أنهم أغبياء وأنك في موقع إنارة جهلهم بمعلوماتك المضيئة.
عندما ينجحون في ترسيخ هذا الوهم داخل دماغك، يشرعون في استدراجك للحديث والتعليق على الموضوعات التي يرغبون في جمع معلومات بشأنها.
وبما أننا، نحن المغاربة، نحب الثرثرة كثيرا وبعضنا يجد لذة كبيرة في الحديث عن أشياء يجهلها تماما، فإن السفارة الأمريكية لديها برنامج مضبوط لتنظيم اللقاءات الدورية مع الصحافيين ورجال الأعمال والسياسيين لجمع الأخبار والتعاليق وتبادل أرقام الهواتف.
آخر زيارة لمسؤول أمريكي لمكتبي كانت قبل أسبوعين. فقد طلبت السفارة موعدا معي لاستقبال الملحق الإعلامي الجديد الذي جاء لكي يعوض الملحق السابق الذي انتقل للعمل ناطقا رسميا باسم السفارة الأمريكية في بغداد.
جاء الملحق الإعلامي الأمريكي في الموعد. كان يبدو بسبب طوله الفارع وبشرته السمراء كأحد لاعبي فريق «هارليم» لكرة السلة أكثر منه موظفا في الخارجية الأمريكية. وبعد «ركن التعارف» التقليدي وتبادل بطاقات الزيارة، بدأ الحديث حول كل شيء ولا شيء. وبعد ذلك، لا أعرف كيف استقر الحديث حول استقلالية الصحافة المغربية. فكان جوابي أنه لمعرفة استقلالية مطبوعة معينة من عدم استقلاليتها، يكفي تتبع مصادر التمويل، فمن يصرف على الجريدة أو المجلة هو الذي يتحكم في خط تحريرها، وكل مطبوعة تعتمد في تمويلها على مصدر آخر غير قرائها ومعلنيها فهي مطبوعة غير مستقلة بالتأكيد. ومثل هذه المطبوعات في المغرب كثيرة جدا، حتى إنك تستغرب كيف تستطيع يوميات وأسبوعيات كثيرة الاستمرار في الصدور دون أن يكون لها قراء ولا معلنون.
وطبعا، وراء هذه اليوميات والأسبوعيات يقف رجال أعمال مغاربة وجهات سياسية في دول عربية ثرية تبحث لها عن موطئ قدم في المغرب.
دام اللقاء حوالي نصف ساعة، وانتهى دون أن يكون هناك موضوع آخر للنقاش، فاللقاء كان لقاء تعارف ومجاملة أكثر منه لقاء لجمع معلومات حول موضوع محدد.
«دافيد»، الذي انتقل للعمل في بغداد، كان أكثر إلحاحا في أسئلته. وقد جاء إلى مكتبي قبل أن يغادر المغرب بأشهر، في عز أزمة طرد المبشرين الأمريكيين، لكي يبلغني، بشكل مهذب، استياء السفارة الأمريكية من المقالات التي خصصناها لموضوع طرد المبشرين الأمريكيين. فقد كان ربما يعتقد أننا سنتبنى وجهة نظر المجلات واليوميات العلمانية كمجلة «تيل كيل»، التي يستعد مديرها للالتحاق بطابور المستفيدين من منح أمريكا الدراسية، وجريدتي «الصباح» و«ليكونوميست» اللتين ما إن يتم تعيين سفير أمريكي جديد حتى تتسابقا لاستدعائه والتقاط الصور معه في مقرهما ونشرها في الصفحة الأولى من عدد اليوم الموالي.
ولهذا فإنني لم أستغرب نقل إحدى الوثائق السرية التي نشرها «ويكيليكس» لما كتبته «المساء» حول زيارة ساركوزي للمغرب سنة 2008، ونعتها، عن جهل، بالجريدة المستقلة والإسلامية والمحسوبة على العدالة والتنمية.
فهؤلاء الأمريكيون يعتبرون كل من يفتخر بدينه الإسلامي ويدافع عنه إسلاميا وليس مسلما. كما أنهم يجهلون أن «المساء» والعدالة والتنمية كانا دائما على طرفي نقيض. وربما نحن الجريدة الوحيدة في المغرب التي أعلن الأمين العام للعدالة والتنمية عن مقاطعتها وعدم التحدث إليها بسبب كل المشاكل التي تسببت له فيها عندما نشرت تصريحات صادمة تنكر لها الأمين العام فيما بعد.
كما أن الأستاذ الرميد سحب نيابته عن جميع القضايا التي كان ينوب فيها عن «المساء»، بمقابل، بسبب انتقادنا في أحد الأعمدة لتراجعه عن تقديم استقالته من البرلمان.
وبما أن موظفي السفارة الأمريكية ليس لهم علم بهذه التفاصيل، فإنهم يفضلون أن يقسموا الصحافة المغربية إلى قسمين، العلمانية والإسلامية.
والحمد لله أن السفارة الأمريكية وضعتنا في قائمة الإسلاميين ولم تضعنا في قائمة الإرهابيين.
كنت أعرف أن موضوع المبشرين يحظى باهتمام كبير على أعلى مستوى في البيت الأبيض، ولذلك كانت حساسية السفارة الأمريكية بالدار البيضاء حيال ما تنشره «المساء» حول هذا الموضوع مرتفعة مقارنة بجميع المواضيع الأخرى.
كانوا يريدون أن تدين الصحافة المغربية طرد المبشرين وأن يطالبوا الدولة بمحاكمتهم أمام القضاء المغربي لكي يحرجوا المغرب أمام العالم المسيحي قاطبة. هناك صحف ومجلات تبنت هذا الطرح، لكن تأثيرها على الرأي العام كان ضعيفا وغير ذي جدوى. بالنسبة إليهم، فما نكتبه في «المساء» لديه وقع خاص، ولذلك جاء «دافيد» يشتكي من «هجومنا» على بعض «معاقل» التبشير بالدار البيضاء مطالبا بالعودة إليه واستشارته كل مرة نريد فيها الكتابة حول هذا الموضوع.
لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية لشعور الأمريكيين بالغضب عندما بادر المغرب إلى طرد المبشرين الأمريكيين. فقبل سنوات، استقبل السفير المغربي في مقر إقامته بواشنطن مبعوثين من البيت الأبيض جاؤوا برفقة رجال دين مسيحيين. وبعدما شربوا الشاي والقهوة وأكلوا «كعب غزال»، دار الحديث حول ضرورة فتح أبواب المغرب أمام المبشرين للقيام بأنشطتهم. وبما أن السفير كان يطمع في دعم البيت الأبيض للمغرب في ملف الصحراء، فقد وافق، دون أن يستشير مسؤوليه ودون أن يعي خطورة الوعد الذي قدمه إلى الأمريكيين.
الأمريكيون، من جانبهم، اعتقدوا أن السفير مفوض للحديث عن هذا الموضوع من طرف مرؤوسيه، الشيء الذي لم يكن صحيحا، ولذلك غادروا بيت السفير وهم متأكدون من أن المغرب موافق رسميا على ممارستهم لأنشطتهم التبشيرية على أراضيه.
ولهذا السبب لم يجد المبشرون الأمريكيون حرجا في ممارسة نشاطهم التبشيري بشكل علني، ومبالغ فيه أحيانا. ففي اعتقادهم أن الطريق كانت مفتوحة أمامهم، إلى أن بدأت أولى الاعتقالات وعمليات الطرد، فشعر الأمريكيون كما لو أن المسؤولين المغاربة ضحكوا عليهم. ولهذا جاءت تصريحات السفير الأمريكي بالدار البيضاء قوية وغاضبة، تلتها مواقف «اللوبي» المسيحي في البيت الأبيض ومجلس الشيوخ والمنظمات الدولية الدائرة في فلكهم، والتي حاولت وضع المغرب ضمن لائحة الدول التي تقمع الحريات الدينية.
طبعا، هذه القصة لن تعثروا عليها في وثائق «ويكيليكس»، لأنها ببساطة قصة غير منشورة. وأغلب تقارير موظفي السفارات الأمريكية منقولة من صفحات الجرائد.
عندما نراجع وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرتها «ويكيليكس» حول الفساد في الجيش والرشوة التي يشهدها عالم المال والأعمال، نندهش من كون أغلبها استعادة شبه حرفية لما نشرناه طيلة السنوات الأخيرة حول هذين الموضوعين، فيما البقية المتبقية عبارة عن حكايات لا أحد يستطيع التأكد من صحتها.
ما الجديد في أن الجنرال بناني لديه ضيعات فلاحية يشغل فيها الجنود، أو أن الجنرال حسني بنسليمان لديه رخص للصيد في أعالي البحار. في الحقيقة كانت له رخص، لأنه باعها مؤخرا عن آخرها؟
وما الجديد في كون عالم العقار يعرف انتشار التهرب الضريبي والمضاربات لرفع الأسعار، أو في كون الملياردير عثمان بنجلون ينتمي إلى «لوبي» فاسي نافذ في المال والأعمال؟
إن كل هذه المواضيع تم «هردها» من طرف الصحافة المغربية إلى درجة أصبحت معها تحصيل حاصل.
لكن السؤال الغامض ليس هو: لماذا تسريب هذه الوثائق حول فساد الجيش المغربي وجنرالاته؟ ولكن السؤال هو: لماذا الآن بالضبط؟
هذا ما سنحاول توضيحه في عمود الغد.
وهاهي التقارير السرية التي كان يرسلها السفير الأمريكي وموظفوه، والتي نشرها موقع «ويكيليكس»، تكشف أن أغلب المعلومات التي تتضمنها هذه الوثائق السرية تستند إلى ما تنشره الصحافة الوطنية.
وقد انتبه إلى هذه الملاحظة الرئيس الإسباني الأسبق، «فيليبي غونزاليس»، الذي أشار إلى أن تسعين في المائة من المعلومات التي تكشف عنها وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرها «ويكيليكس» سبق للصحافة أن تطرقت إليها.
وإذا كان لنشر كل هذا الركام من الوثائق السرية من مزية فهي أن هذا النشر «المتوحش» سيغير نظرة الجميع نحو موظفي السفارات الأمريكية عبر العالم، خصوصا أولئك الثرثارين العرب الذين يحبون أن يستعرضوا معلوماتهم أمام أول موظف أمريكي يصادفونه.
ومنذ اليوم سيفكر كل مسؤول رسمي أو صحافي أو رجل أعمال مغربي ألف مرة قبل أن يفتح فمه للإجابة عن سؤال يطرحه السفير الأمريكي أو التعليق على كلام أحد موظفيه، حتى ولو تعلق الأمر بمجرد تعليق تافه عن أحوال الطقس.
فبعد تسرب ربع مليون وثيقة سرية من حواسيب الخارجية الأمريكية، تكشف تفاصيل ما كان يلتقطه ويكتبه موظفو السفارات الأمريكية عبر العالم حول الزعماء والحكومات، سيفكر كثيرون مرتين قبل الاستجابة لدعوات الغداء والعشاء التي اعتادت الخارجية الأمريكية تنظيمها على شرف الصحافيين والسياسيين ورجال الأعمال.
وشخصيا، كنت دائما أتضايق من طريقة الأمريكيين في انتزاع معلومة أو تعليق منك، فهم دائما عندما يزورونك في مكتبك يرسمون على وجوههم ابتسامة بلهاء ويطرحون أسئلتهم بشكل يجعلك تتوهم أنهم أغبياء وأنك في موقع إنارة جهلهم بمعلوماتك المضيئة.
عندما ينجحون في ترسيخ هذا الوهم داخل دماغك، يشرعون في استدراجك للحديث والتعليق على الموضوعات التي يرغبون في جمع معلومات بشأنها.
وبما أننا، نحن المغاربة، نحب الثرثرة كثيرا وبعضنا يجد لذة كبيرة في الحديث عن أشياء يجهلها تماما، فإن السفارة الأمريكية لديها برنامج مضبوط لتنظيم اللقاءات الدورية مع الصحافيين ورجال الأعمال والسياسيين لجمع الأخبار والتعاليق وتبادل أرقام الهواتف.
آخر زيارة لمسؤول أمريكي لمكتبي كانت قبل أسبوعين. فقد طلبت السفارة موعدا معي لاستقبال الملحق الإعلامي الجديد الذي جاء لكي يعوض الملحق السابق الذي انتقل للعمل ناطقا رسميا باسم السفارة الأمريكية في بغداد.
جاء الملحق الإعلامي الأمريكي في الموعد. كان يبدو بسبب طوله الفارع وبشرته السمراء كأحد لاعبي فريق «هارليم» لكرة السلة أكثر منه موظفا في الخارجية الأمريكية. وبعد «ركن التعارف» التقليدي وتبادل بطاقات الزيارة، بدأ الحديث حول كل شيء ولا شيء. وبعد ذلك، لا أعرف كيف استقر الحديث حول استقلالية الصحافة المغربية. فكان جوابي أنه لمعرفة استقلالية مطبوعة معينة من عدم استقلاليتها، يكفي تتبع مصادر التمويل، فمن يصرف على الجريدة أو المجلة هو الذي يتحكم في خط تحريرها، وكل مطبوعة تعتمد في تمويلها على مصدر آخر غير قرائها ومعلنيها فهي مطبوعة غير مستقلة بالتأكيد. ومثل هذه المطبوعات في المغرب كثيرة جدا، حتى إنك تستغرب كيف تستطيع يوميات وأسبوعيات كثيرة الاستمرار في الصدور دون أن يكون لها قراء ولا معلنون.
وطبعا، وراء هذه اليوميات والأسبوعيات يقف رجال أعمال مغاربة وجهات سياسية في دول عربية ثرية تبحث لها عن موطئ قدم في المغرب.
دام اللقاء حوالي نصف ساعة، وانتهى دون أن يكون هناك موضوع آخر للنقاش، فاللقاء كان لقاء تعارف ومجاملة أكثر منه لقاء لجمع معلومات حول موضوع محدد.
«دافيد»، الذي انتقل للعمل في بغداد، كان أكثر إلحاحا في أسئلته. وقد جاء إلى مكتبي قبل أن يغادر المغرب بأشهر، في عز أزمة طرد المبشرين الأمريكيين، لكي يبلغني، بشكل مهذب، استياء السفارة الأمريكية من المقالات التي خصصناها لموضوع طرد المبشرين الأمريكيين. فقد كان ربما يعتقد أننا سنتبنى وجهة نظر المجلات واليوميات العلمانية كمجلة «تيل كيل»، التي يستعد مديرها للالتحاق بطابور المستفيدين من منح أمريكا الدراسية، وجريدتي «الصباح» و«ليكونوميست» اللتين ما إن يتم تعيين سفير أمريكي جديد حتى تتسابقا لاستدعائه والتقاط الصور معه في مقرهما ونشرها في الصفحة الأولى من عدد اليوم الموالي.
ولهذا فإنني لم أستغرب نقل إحدى الوثائق السرية التي نشرها «ويكيليكس» لما كتبته «المساء» حول زيارة ساركوزي للمغرب سنة 2008، ونعتها، عن جهل، بالجريدة المستقلة والإسلامية والمحسوبة على العدالة والتنمية.
فهؤلاء الأمريكيون يعتبرون كل من يفتخر بدينه الإسلامي ويدافع عنه إسلاميا وليس مسلما. كما أنهم يجهلون أن «المساء» والعدالة والتنمية كانا دائما على طرفي نقيض. وربما نحن الجريدة الوحيدة في المغرب التي أعلن الأمين العام للعدالة والتنمية عن مقاطعتها وعدم التحدث إليها بسبب كل المشاكل التي تسببت له فيها عندما نشرت تصريحات صادمة تنكر لها الأمين العام فيما بعد.
كما أن الأستاذ الرميد سحب نيابته عن جميع القضايا التي كان ينوب فيها عن «المساء»، بمقابل، بسبب انتقادنا في أحد الأعمدة لتراجعه عن تقديم استقالته من البرلمان.
وبما أن موظفي السفارة الأمريكية ليس لهم علم بهذه التفاصيل، فإنهم يفضلون أن يقسموا الصحافة المغربية إلى قسمين، العلمانية والإسلامية.
والحمد لله أن السفارة الأمريكية وضعتنا في قائمة الإسلاميين ولم تضعنا في قائمة الإرهابيين.
كنت أعرف أن موضوع المبشرين يحظى باهتمام كبير على أعلى مستوى في البيت الأبيض، ولذلك كانت حساسية السفارة الأمريكية بالدار البيضاء حيال ما تنشره «المساء» حول هذا الموضوع مرتفعة مقارنة بجميع المواضيع الأخرى.
كانوا يريدون أن تدين الصحافة المغربية طرد المبشرين وأن يطالبوا الدولة بمحاكمتهم أمام القضاء المغربي لكي يحرجوا المغرب أمام العالم المسيحي قاطبة. هناك صحف ومجلات تبنت هذا الطرح، لكن تأثيرها على الرأي العام كان ضعيفا وغير ذي جدوى. بالنسبة إليهم، فما نكتبه في «المساء» لديه وقع خاص، ولذلك جاء «دافيد» يشتكي من «هجومنا» على بعض «معاقل» التبشير بالدار البيضاء مطالبا بالعودة إليه واستشارته كل مرة نريد فيها الكتابة حول هذا الموضوع.
لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية لشعور الأمريكيين بالغضب عندما بادر المغرب إلى طرد المبشرين الأمريكيين. فقبل سنوات، استقبل السفير المغربي في مقر إقامته بواشنطن مبعوثين من البيت الأبيض جاؤوا برفقة رجال دين مسيحيين. وبعدما شربوا الشاي والقهوة وأكلوا «كعب غزال»، دار الحديث حول ضرورة فتح أبواب المغرب أمام المبشرين للقيام بأنشطتهم. وبما أن السفير كان يطمع في دعم البيت الأبيض للمغرب في ملف الصحراء، فقد وافق، دون أن يستشير مسؤوليه ودون أن يعي خطورة الوعد الذي قدمه إلى الأمريكيين.
الأمريكيون، من جانبهم، اعتقدوا أن السفير مفوض للحديث عن هذا الموضوع من طرف مرؤوسيه، الشيء الذي لم يكن صحيحا، ولذلك غادروا بيت السفير وهم متأكدون من أن المغرب موافق رسميا على ممارستهم لأنشطتهم التبشيرية على أراضيه.
ولهذا السبب لم يجد المبشرون الأمريكيون حرجا في ممارسة نشاطهم التبشيري بشكل علني، ومبالغ فيه أحيانا. ففي اعتقادهم أن الطريق كانت مفتوحة أمامهم، إلى أن بدأت أولى الاعتقالات وعمليات الطرد، فشعر الأمريكيون كما لو أن المسؤولين المغاربة ضحكوا عليهم. ولهذا جاءت تصريحات السفير الأمريكي بالدار البيضاء قوية وغاضبة، تلتها مواقف «اللوبي» المسيحي في البيت الأبيض ومجلس الشيوخ والمنظمات الدولية الدائرة في فلكهم، والتي حاولت وضع المغرب ضمن لائحة الدول التي تقمع الحريات الدينية.
طبعا، هذه القصة لن تعثروا عليها في وثائق «ويكيليكس»، لأنها ببساطة قصة غير منشورة. وأغلب تقارير موظفي السفارات الأمريكية منقولة من صفحات الجرائد.
عندما نراجع وثائق الخارجية الأمريكية التي نشرتها «ويكيليكس» حول الفساد في الجيش والرشوة التي يشهدها عالم المال والأعمال، نندهش من كون أغلبها استعادة شبه حرفية لما نشرناه طيلة السنوات الأخيرة حول هذين الموضوعين، فيما البقية المتبقية عبارة عن حكايات لا أحد يستطيع التأكد من صحتها.
ما الجديد في أن الجنرال بناني لديه ضيعات فلاحية يشغل فيها الجنود، أو أن الجنرال حسني بنسليمان لديه رخص للصيد في أعالي البحار. في الحقيقة كانت له رخص، لأنه باعها مؤخرا عن آخرها؟
وما الجديد في كون عالم العقار يعرف انتشار التهرب الضريبي والمضاربات لرفع الأسعار، أو في كون الملياردير عثمان بنجلون ينتمي إلى «لوبي» فاسي نافذ في المال والأعمال؟
إن كل هذه المواضيع تم «هردها» من طرف الصحافة المغربية إلى درجة أصبحت معها تحصيل حاصل.
لكن السؤال الغامض ليس هو: لماذا تسريب هذه الوثائق حول فساد الجيش المغربي وجنرالاته؟ ولكن السؤال هو: لماذا الآن بالضبط؟
هذا ما سنحاول توضيحه في عمود الغد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق