2015-01-04

مجانين الحركة الأمازيغية (2/2)

نعلم كم هي مطواعة «الحركات الهوياتية الهامشية» بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الدولية، والتي من خلالها يتم فتح قنوات عبور للدول المغلقة أو الدول ذات أهمية جيوسياسية معينة: حركة السيخ، الخمير الحمر، جماعات الدلاي لاما، أكراد تركيا، شيشان قزوين، قبايل الجزائر، طوارق مالي... كلها حركات هوياتية بنكهات انفصالية فيها ما تم دكه وفيها ما تم تطويره وتحويله لدول قائمة الذات، وفيها ما تم تحويله لرموز مقدسة تشير «للمأساة الإنسانية» في التحرر الهوياتي، لكنها كلها موظفة بشكل «جيو سياسي» محكم إما لضمان توازنات أو لتعويض تلك التوازنات الإقليمية بأخرى جديدة.

ما يحدث لبعض الحركات الأمازيغية، وهنا نفصل ما بين من يهتم بالقضية من الناحية الأكاديمية والحقوقية وبين من يسخرها لأغراض التموقع السياسي والإقليمي، لا يخرج كثيرا عن هذا التحليل الذي سقناه سابقا بحيث تبقى ورقة «التموقع الهوياتي» للشعوب الأصلية، ورقة سياسية صرفة وليست حضارية إنسانية كما توحي به في الشكل.

لكن ما هي الأصول النظرية التي تريد بها هذه الحركات أن تستقوي في بلدانها وتحشد الدعم الخارجي لقضيتها؟

أول هذه الأصول نظرية «الاضطهاد التاريخي» الذي عانى منه الشعب الأمازيغي الأصلي من طرف الجيوش الفاتحة التي جاءت من شبه الجزيرة العربية. يبدو شعار الاضطهاد قويا في الشكل لكنه من حيث قرائن التاريخ التحليلي يظل أضعف الشعارات.
فعندما جاء إدريس الأول حل بقبيلة أوربة الأمازيغية التي احتضنته وزوجته منها ودعمت مشروع نشر الإسلام بالمنطقة، وهي المنطقة التي سبق للإسلام أن حل بأراضيها وقبله الأمازيغ أجدادنا وتماهوا معه وناصروه ونشروه، وكان من بين أقوى وأصلب ناشريه عقبة بن نافع وطارق بن زياد وابن تومرت وغيرهم من الأمازيغ الذين لولاهم لما حظي الإسلام بموطئ قدم رصين بشمال إفريقيا التي كانت غارقة في ظلمات عقائدية حالكة، من قبيل إله ياكوش الذي اكتشفنا في الوثيقة التي نشرتها مزان أن عصيد، وهذا يبقى بحاجة إلى تأكيد أو نفي، يدين بالولاء له.

وللأمازيغية كحضارة فضل في تطوير بيداغوجيا الإسلام في المنطقة، فلكم عالمنا السوسي المفدى الشيخ والعلامة المختار السوسي، وغيره من علماء سوس العالمة. إذن كون الإسلام ضدا للأمازيغية هي من بين أكثر المغالطات التي ينشرها غلاة «الأمازيغاوية» المتطرفة، وهي تضرب عرض الحائط بأكبر المسلمات أن إسلامنا بالمغرب هو بفضل أجدادنا الأمازيغ.

ثاني النظريات الوهمية هي «الإقصاء السياسي الممنهج للهوية الأمازيغية»، وهذا ما يكذبه الدستور. بحيث يعد الدستور المغربي من بين الدساتير القليلة في العالم والنادرة على الصعيد العربي التي تقبل بفكرة «الامتداد الحضاري وتنوعه»، وبذلك تقبل بتعايش فروع الحضارة جنبا لجنب: الأمازيغية والحسانية والعبرية والأندلسية والعروبية كلها مقومات المغربي اليوم.

وداخل الحكومة عندما نبحث في أنساب الوزراء نجد أن وزير الفلاحة أمازيغي ووزير التعليم العالي أمازيغي، والمرحوم باها كان أمازيغيا، ووزير الخارجية السابق العثماني، رغم اسمه التركي، أمازيغي. هذا دون الحديث عن أوزين والعنصر وغيرهما من الوزراء الذين لم يشرفوا العرق الأمازيغي داخل الحكومة التي كانت في سالف الأزمان حكرا على أهل فاس.

والواقع أننا نجد صعوبة في أن نعثر في المغرب على مقوم حضاري للفرد من دون عوامل مشتركة مع الآخر الساكن معه في الأرض. من هو الأمازيغي المطلق؟ من هو العروبي المطلق؟ من هو العبري أو الأندلسي المطلق؟

المغربي كائن متنوع وسيظل كذلك مهما عاش. فأنا سوسي أمازيغي أبا عن جد وكبرت بين ظهراني قبائل متفرقة في أرض زعير المعطاء، وتنفست عبق الإسلام والعروبة وأحببت كل ما في دواخلي من تنوع. فهويتي «غير منشطرة» كما يحلو للأمازيغاويين أن نصبح. ومصير المغربي من الناحية الهوياتية أن يدبر دوما تصالحه مع أجزائه المختلفة المشكلة له. وهي ما فطن له الدستور اليوم وما يجب علينا أن نحرص عليه.

ثالث النظريات «التكتل من أجل العودة الموعودة»، وهي أقبح نظرياتهم وربما أخطرها على الإطلاق. لأنهم من هنا يدخلون على خط التنسيق مع الانفصال ويصبحون ضحايا الأجندات الاستخباراتية المعادية للمغرب واستقراره.

ولكم أن تتصوروا معي دولة مجاورة معادية تريد أن تخترق استقرارنا من خلال تمويل حركات الانفصال التي بيننا، فتجد في «الأمازيغاوية» نفس ما وجد ليوطي بظهائره الاستعمارية المشؤومة. وهذا التنسيق «البين إقليمي» قاد مجموعة من شباب هذه الحركات إلى «الشذوذ» في الدعوة والدعوية، ولولا حس المسؤولية لدى العقل الباطن للدولة، والسعي إلى «إنضاج المتطرف» والعمل على تمكينه النفسي والاجتماعي والسياسي، لكان أغلب هؤلاء الدعاة في السجن، لما تكتنزه مشاريعهم من حمولات جنائية صرفة.

لا مشكل للأمازيغية مع الإسلام ومع أصول الحضارة العربية، وهو ما نستشفه من آراء العديد من منظري وباحثي الفكر الأمازيغي والقضية الأمازيغية، انطلاقا من آراء أحمد عصيد وزهيد فاطمة ومحمد أجغوغ ورشيد الحاحي ومحمد حنداينو وعبد الإله ستيتو وغيرهم من الباحثين والنشطاء. ومن ينادي بنظرية «الإقصاء الممنهج» وضرورة تصحيح التاريخ لا يعي كثيرا أن «مأسسة» المقوم الأمازيغي فينا بشكل متسرع ومتعصب ستكون له نتائج كارثية على اندثاره وليس انتشاره.

اللغة الأمازيغية، والنقاش ما يزال حول هل هي لغة أم مكون لسني فرعي، جميلة جدا من الناحية الفنية والشاعرية، ولمَ لا وهي مكون تعبيري إنساني حيث لا مفاضلة لغوية بين اللغات، لكن إدماجها التعسفي في خط معين وإدماجها المتسرع في منظومة تعليمية هي أصلا معطوبة، سيجعل من الأمازيغية «محارة جوفاء» كما يقول النحاة الفرنسيون.

لنستوعب حضارتنا الأمازيغية ونحفر فيها بمزيد من الوعي والعقلانية العلمية والثقافية، ولا نتسرع في الحكم على أولويتها ونحن لم ندرك بعد أبعادها الحضارية.

عندما حاولوا في أوروبا «إعادة بعث» اللاتينية وإدماجها القسري في أسلاك التعليم الإجباري بحكم أنها لغة أجدادهم وأصولهم، وقع لها «الانشطار» وتفسخت وذابت، وهي المكون الحضاري القوي والعامر بالعلم والمعرفة وبالدين.

المكون الحضاري هلامي وجد مرهف يعيش فينا وليس بجانبنا، وإذا ما تعاملنا معه كأداة من أدوات «التموقع السياسي» ضاع منا للأبد.

ليست هناك تعليقات: