2008-06-19

الوجه والقناع

خلال الوقت الذي قضاه زميلنا المصور كريم سلماوي في «ضيافة» الفرقة الوطنية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، سأله المحققون عن كل شيء تقريبا. حتى عن المساحة الإجمالية للبيت الذي يسكن فيه. بقي لهم فقط أن يسألوه عن النمرة التي يلبسها في حذائه.
لكن أهم شيء قاله المحققون لزميلنا، وربما أخطره، هو أن هيبة الأمن يجب أن تصان، لأن المغرب يستطيع العيش بدون صحافة، لكنه لا يستطيع العيش بدون أمن.

هذا الكلام الخطير ليس اجتهادا «فلسفيا» لأحد المحققين المبتدئين، وإنما هو رسالة واضحة أرادت الجهات التي تتحكم في عمل الفرقة الوطنية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة إرسالها عبر جلسة الاستماع هذه. هذه الرسالة مفادها أن هناك جهات في الدولة تستطيع أن تضحي بالصحافة، الحقيقية طبعا، من أجل المحافظة على الأمن. مما يعني أن هذه الجهات تتهم الصحافة، الحقيقية طبعا، بتهديد الأمن والسلم الاجتماعي. وتعتبرها السبب الرئيسي وراء كل الكوارث الاجتماعية الذي يعيشها المغرب اليوم.

وهنا من الضروري تسجيل ملاحظة أساسية، وهي أن الذي يعتقد أن المغرب يمكن أن يضحي بالصحافة في سبيل الأمن لا يمكن إلا أن يكون جاهلا بدور الصحافة في المحافظة على الأمن والاستقرار. فهي المرآة العاكسة الضرورية للبلاد لكي تتقدم في الطريق الملتوي للديمقراطية.

إن دولة فيها أمن وليس فيها صحافة، حقيقية طبعا، تسمى دولة ديكتاتورية يسودها حكم استبدادي لا يؤمن سوى بالرأي الواحد والموقف الواحد، ذلك الذي تردده صحافة الدولة عبر أبواقها.

ودولة فيها صحافة وليس فيها أمن تسمى دولة سائبة تسودها الفوضى ويفعل فيها كل جهاز ما يراه مناسبا لمصالحه ومصالح القائمين عليه.
ولعل ما فات سعادة المحقق العبقري الذي «نقل» فكرة أن المغرب يستطيع أن يعيش بدون صحافة لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون أمن، هو أننا في المغرب نستطيع أن نعيش دون أن نضحي لا بالصحافة ولا بالأمن. وهذا ما يسمى ببساطة شديدة «الديمقراطية». هذا الاختراع البشري الذي لازال يكفر به البعض عندنا بحجة أن المغاربة لازالوا غير قادرين على استيعاب «كيفية الاستعمال»، كما لو أن الديمقراطية آلة غسيل وليست نظام حكم.

عندما يسأل المحققون زميلنا كريم عن سبب أسفاره إلى بلجيكا وفرنسا، وعن معرفته المسبقة بالعميد «الممتاز» و«استهدافه» عنوة بآلة تصويره، وعن وقوف تلك الصورة خلف التهديدات التي أطلقها زعيم تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي ضد العميد، فإننا نشتم رائحة طبخة غير «زكية» تنبعث من هذا الملف.

بقي فقط للسادة المحققين أن يتهموا «المساء» مباشرة بالتعاون مع «القاعدة» وبكون أسامة بلادن هو من يمول هذه الجريدة بحساب سري من مغارته في مجاهل أفغانستان.

يجب أن تكون الأشياء واضحة في ذهن الجميع، حتى لا يختلط الأمر على بعضهم فيتخيلوا أخطاءهم على شكل نجاحات باهرة، وفشلهم على هيئة نصر مبين، وعجزهم المزمن «همة عالية».

نحن متأسفون لأن التصرف العدواني للسيد العميد الذي نقلته عدسة المصور خلق له كل هذه المشاكل، منها تعريض حياته للخطر. خصوصا بعد أن دخل تنظيم القاعدة على الخط ببيانه المهدد، والذي لا نملك غير إدانته.

ونحن هنا نود أن نذكر السيد العميد والذين يريدون تحميلنا المسؤولية عن التهديدات التي تلقاها، بطريقة تعامل الصحافة الدولية مع الصور التي تثبت تورط رجال الأمن في مخالفات أو اعتداءات على الكرامة الإنسانية.

عندما حصل الصحافي سيمون هيرش على صور تكشف فضائح تعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب على يد جنود أمريكيين وسارع إلى نشرها في «النيويوركر»، لم يتهمه أحد بتعريض حياة الجنود الأمريكيين والبريطانيين المحتلين للعراق للخطر. على الرغم من أن هجمات المقاومة ضدهم ازدادت حدتها وشراستها بعد اندلاع فضيحة صور أبو غريب. بعدها ستنفجر فضيحة تعذيب المعتقلين في سجن غوانتانامو بطرق حاطة بالكرامة البشرية، وبعدها فضيحة تدنيس القرآن الكريم على يد جنود أمريكيين.

ولم نسمع أن جهازا أمنيا أو استخباراتيا واحدا تجرأ على اتهام الصحافة التي نقلت صور هذه الفضائح وأسالت مدادا كثيرا حولها، بالتسبب في نشر ما يهدد سلامة جنودها في العراق ومواطنيها في دول العالم.

الفرق بين هؤلاء وبين أجهزتنا الأمنية المغربية هي أنهم يضعون أرجلهم في الوحل ويريدون أن يظلوا طاهرين.

إن أول درس يتعلمه الوافدون على مراكز تكوين الشرطة والدرك والجيش هو أنهم يضعون حياتهم وأمنهم وسلامتهم في خدمة سلامة وأمن الوطن ومواطنيه. ولذلك فمن المضحك أن نرى جهازا أمنيا يتزلزل لمجرد أن قائدا مغمورا لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي أرسل بيانا مهددا بقطع رأس العميد. في الوقت الذي خرج بلادن «شخصيا» بعد نشر صور أبو غريب، وهدد أمريكا وأوربا وسائر البلدان التي تتعامل مع غير المسلمين بالويل والثبور وعظائم الأمور. ومع ذلك لم تسارع هذه البلدان إلى استدعاء الصحافيين والمصورين الذين نشروا الصور التي كانت وراء تهديدات زعيم تنظيم القاعدة.

وأول شيء قامت به وزارة الدفاع الأمريكية هو اعتقال المتورطين في تعذيب المعتقلين العراقيين، والذين ظهرت وجوههم في الصور، وتقديمهم للمحاكمة ثم الحكم عليهم بالسجن.

عندما نقارن بين تعامل المحققين الأمريكيين في قضية أبو غريب، مع المحققين المغاربة في قضية صورة العميد، فإننا ندرك أنه لا مجال للمقارنة بحكم الفرق الشاسع بين الوضعين. لكن في العمق تبقى المقارنة ضرورية لأنها تكشف عن درس صحافي عميق لخصته تلك الحكمة الصينية القديمة التي تقول «عندما يشير أصبع إلى القمر فإن الغبي يكتفي برؤية الأصبع وينسى القمر».

وعوض أن يكتفي بعض الأمنيين برؤية «المساء» التي نشرت الصورة، عليهم أن يروا الصورة ويتمعنوا في مغزاها. وسيجدون أنها امتداد لصور أخرى جاءت من سيدي إفني تصور ما قام به بعض زملائهم في المهنة مؤخرا هناك. ما يزعج في الصور التي يلتقطها بحرفية عالية زميلنا كريم هو كونها صور تعكس الوجه البشع والمتسلط والدموي لأجهزة الأمن بالمغرب. ولذلك فهناك من يتقزز من رؤية صورته الحقيقية عندما تنشر على الملأ.

عندما يريد جهاز الأمن أن يحسن صورته أمام الرأي العام عليه ألا يكرر الخطأ نفسه الذي وقع فيه ذلك الغبي الذي وصف له الطبيب مرهما لكي يعالج به «نفطة» خرجت له في مكان تعرفونه جميعا، بحيث أصبح عاجزا عن الجلوس مثل جميع الناس. وقد كان صاحبنا يستعين بمرآة لكي يضع المرهم فوق «النفطة»، نظرا لصعوبة رؤيتها رأي العين. لكنه لفرط غبائه عوض أن يضع المرهم فوق «النفطة» التي في المكان المعلوم كان يطليها فوق «النفطة» التي تظهر في المرآة. وهكذا بقي يصنع إلى أن امتلأ جسده كله بالبثور.

العيب ليس في آلة التصوير يا سادة، العيب في اللقطة. والمشكل ليس في عين المصور ولكن في قبضة رجل الأمن. وإحراق آلة التصوير ووضع عصابة على عين المصور لن تضع حدا للمهزلة.

إذا كان هناك بين عمداء الأمن من يعتقد أن مهنته لا تحفها المخاطر كل يوم، وأنه يضع حياته في كفه كلما خرج ليقوم بواجبه في حماية الوطن والمواطنين، وأن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي أو في آسيا الوسطى أو الثلث الخالي سيرسل إليه بطاقة تهنئة بعد تعنيفه لامرأة يوجد زوجها رهن الاعتقال بتهمة الإرهاب، فعليه أن يغير مهنته.

ولعل ما يوحد بين وظيفة رجال الأمن والصحافيين هو أنهم جميعهم معرضون للتهديد. ونحن نترفع عن الحديث عن كل التهديدات التي تصلنا بالهاتف والبريد والفاكس وبغيره، لأننا نعتبر أن المهنة التي اخترناها ليست فقط مهنة المتاعب كما يقولون، وإنما أيضا مهنة المخاطر.
لا أحد ضربنا على أيدينا لكي نختار هذه المهنة. كما أنه لا أحد ضرب السيد العميد على يده لكي يختار سلك الأمن. الفرق الوحيد بيننا وبين عمداء الأمن هو أن الصحافيين مسلحون بأقلام الرصاص، فيما السادة العمداء مسلحون بمسدساتهم المحشوة بالرصاص.
وما يجب أن يتسلح به الجميع في هذه الظروف الصعبة التي تجتازها بلادنا هو الإرادة الصادقة في خدمة الصالح العام. كل من موقعه، وعلى حسب استطاعته. غير ذلك ليس سوى خيانة للأمانة لن يغفرها لنا لا الله ولا عبده.

ليست هناك تعليقات: