2008-06-26

كوابيس وأحلام

من المنتظر أن تبدأ لجنة التقصي التي أنشأها البرلمان للتحقيق في ما حدث في سيدي إفني، عملها في الأيام القليلة القادمة. وقد أصر حزب الاستقلال على ترؤس هذه اللجنة، بعدما سمع الجميع الأمين العام للحزب والوزير الأول عباس الفاسي، ينفي بتاتا في التلفزيون وقوع أية أحداث في سيدي إفني.

أكثر من ذلك، كانت بناني سميرس، النائبة البرلمانية عن الفريق الاستقلالي في البرلمان، أول المعارضين لفكرة تأسيس لجنة لتقصي الحقائق، بحجة أن عمل هذه اللجنة ومصاريف تنقل وإقامة وأكل أفرادها ستكلف مالية البرلمان ميزانية إضافية. ولذلك فعلى البرلمان أن يكتفي بزيارات تضامنية مع السكان.

وفي جريدة الحزب، نقرأ في افتتاحية عدد يوم الثلاثاء، أن هذه اللجنة عليها أن لا تعير أي اهتمام لما يكتب في الصحف الوطنية والدولية حول ما حدث بسيدي إفني.

وهذا يبرز مدى احتقار كاتب الافتتاحية للدور الذي لعبته الصحافة في فضح التجاوزات التي وقعت في سيدي إفني خلال حصارها من طرف أربعة آلاف من رجال العنيكري وحسني بنسليمان والشرقي الضريس. فلولا الصحافة، التي يطلب لسان حزب الاستقلال من لجنة تقصي الحقائق إهمال شهادتها، لما استطاع الرأي العام أن يقرأ شهادات لمواطنين تعرضت بيوتهم للتخريب وممتلكاتهم للنهب وأعراضهم وكرامتهم للإهانة.

ولعل ما يبعث على القلق ونحن نقرأ افتتاحية لسان حزب الاستقلال الذي يترأس أحد نوابه لجنة تقصي الحقائق، هو حديثها عن المبالغات الكثيرة التي تحتوي عليها الروايات التي تناقلتها «الألسن»، مستشهدا بالزيارة التي قام بها نواب برلمانيون للمدينة وقفوا خلالها على عدم وجود حالات اغتصاب أو قتل. في تجاهل تام للصور التي التقطها بعض هؤلاء النواب للمواطنين الذين تم تعذيبهم في مخفر الأمن وتهديدهم بإجلاسهم على القناني، وحشر عصيهم في أماكن حساسة من أجسادهم.

أولا، إذا كان حزب الاستقلال يحترم روح فكرة لجنة تقصي الحقائق، كما هي متعارف عليها عالميا، فيجب عليه أن يكف عن وصف ما وقع في سيدي إفني بالمبالغات أو غيره من الأوصاف، لأن الذي يحق له أن يقول لنا هل كانت هناك بالفعل مبالغات أو انتهاكات أو مجرد ملاطفات ومداعبات أمنية هي لجنة تقصي الحقائق.

لأنه سيكون من باب الوقوف عند ويل للمصلين، أن نكتفي بطمأنة الرأي العام بكون سيدي إفني لم تعرف حالات اغتصاب أو قتل، لكي ننتهي إلى الخلاصة البديهية التي وصل إليها عباس الفاسي عندما قال في التلفزيون بأن ما حدث ليس سوى تعبير عن مطالب لشباب عاطل عن العمل. أو كما قال مزوار وزير المالية في برنامج «حوار» من أن رجال الأمن لم يقوموا سوى بواجبهم الوطني. وكأن تعرية النساء في مخافر الأمن أمام إخوانهن وآبائهن أصبحت واجبا وطنيا في نظر سعادة الوزير.

إن إعفاء الكولونيل بلماحي، القائد الجهوي للقوات المساعدة بجهة سوس ماسة درعة، من مهامه وإدخاله إلى الرباط، وإعفاء مسؤول أمني إقليمي من تزنيت من مهامه هو الآخر، ليس سوى دليل على أن رجال هؤلاء اقترفوا أخطاء مهنية، وإلا لما صدر في حقهم أمر بالتنقيل.

في الديمقراطيات الحقيقية، لا تكتفي المؤسسات الأمنية بتنقيل موظفيها عندما يقترفون أخطاء مهنية، وإنما تحاسبهم وتحاكمهم إذا اقتضى الأمر، انسجاما مع ما ينص عليه القانون. ولعل أول شيء يجب أن تقوم به وزارة الداخلية الوصية على الإدارة العامة للأمن الوطني، هو أن تقوم بتحقيق معمق مع كل رجال الأمن الذين سارعوا، بعد السبت الأسود، إلى وضع طلبات للانتقال من سيدي إفني للعمل في مدن أخرى.
يجب أن يشرح هؤلاء لإدارتهم أسباب ودواعي هذه الرغبة الجماعية في الفرار من سيدي إفني هذه الأيام بالضبط. هل هي فقط رغبة عابرة أم أن بعضهم «اقترف» ما يخشى عاقبته على نفسه وأبنائه إن هو ظل في سيدي إفني.

خصوصا وأن السكان الذين تعرضوا للتعذيب والشروع في الاغتصاب، والتنكيل النفسي بواسطة الشتائم والعبارات العنصرية الحاطة من الكرامة، مستعدون لتزويد لجنة تقصي الحقائق بأسماء رجال الأمن الذين ساهموا في هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

أمام لجنة تقصي الحقائق إذن امتحان صعب وحاسم لإثبات جدوى مؤسسة دستورية اسمها البرلمان، أهينت سمعته عندما تشكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق بعد انفجار فضيحة القرض العقاري والسياحي، انفض شملها دون أن تستطيع إيصال لص واحد أمام القضاء أو إعادة درهم واحد إلى خزينة الدولة.

لذلك فالمسؤولية الملقاة على عاتق لجنة تقصي الحقائق التي شكلها البرلمان ثقيلة جدا. ويجب أن تكون نتائجها في مستوى انتظارات الرأي العام. لأن ما وقع في سيدي إفني شيء مخجل كلف صورة المغرب ثمنا باهظا جدا، وأعاد عقارب الزمن المغربي حقبة كاملة إلى الخلف، وضرب عرض الحائط في يوم واحد بكل الجهد الذي تم بذله لسنوات على مستوى حقوق الإنسان وحرية التعبير. بمعنى آخر، هناك اليوم في المغرب من يجب أن يمثل أمام القضاء بتهمة العبث بصورة المملكة في الداخل، وتشويه سمعتها في الخارج. لأن الصورة التي أعطاها هؤلاء عن الأجهزة الأمنية في المغرب هي صورة عصابات خارجة عن القانون، تزرع الرعب أينما حلت، وتبيح لرجالها الاستعمال المفرط للعنف الجسدي واللفظي في حق النساء والأطفال والشيوخ.

إذا استطاعت لجنة تقصي الحقائق أن تجعل مقترفي التجاوزات والانتهاكات يحاسبون على أخطائهم وينالون العقاب الذي يستحقون، فإنها ستنجح في أن تعيد لمؤسسة البرلمان شيئا من قدسية المهمة النبيلة المسنودة إليه. وهي مراقبة ومحاسبة عمل الحكومة ومؤسسات الدولة، بما في ذلك مؤسساتها الأمنية الفالتة من عقال أية مراقبة أو محاسبة.

إن أحسن شيء يمكن أن يعيد الثقة للمغاربة في برلمانهم وفي السياسة بشكل عام، هي أن يمارس البرلمان سلطته كأداة للرقابة والمحاسبة والردع. لأن السلطة، في كل الدول، من طبيعتها التجاوز، لكن يجب أن تجد أمامها مؤسسات للردع، أهمها وأقواها على الإطلاق مؤسسة البرلمان.

ولعل أخطر شيء يجب أن تحاذر لجنة تقصي الحقائق السقوط فيه، هو إمكانية تحويلها إلى مجرد أنبوب لإطفاء الحرائق في يد الدولة، تخمد به ألسنة الغضب الذي أضرمه جنرالات تجاوزوا سن التقاعد، خبرتهم الوحيدة في حفظ الأمن هي «سوابقهم» المسجلة بمداد العار في سجلات التاريخ الدامي للمغرب.

يجب أن تضع لجنة تقصي الحقائق كل مسؤول أمام مسؤولياته فيما وقع في سيدي إفني. بغض النظر عن رتبته أو مكانته في هرم السلطة. بغض النظر عن نياشينه وفراشاته وأوسمته الملكية. بغض النظر عن نفوذه وجبروته. لأن سمعة المغرب وصورته ومستقبله أهم من كل النياشين والأوسمة.

لقد انتهى ذلك الزمن الذي كان يقول فيه الحسن الثاني بأن محاكمة 500 ألف من الصعاليك لا تخيفه، المغرب اليوم محتاج لكل أبنائه، بما فيهم الذين يغضبون منه ويحتجون عليه ويطالبونه بمكان صغير في قلبه.

لكن يبدو أن الحسن الثاني انتقل إلى دار الحق في الوقت الذي لازال فيه بعض جنرالاته في دار الباطل على قيد الكابوس.
أفيقوا أيها السادة، فهذا الكابوس لن يسمح المغاربة بأن يتكرر. ببساطة لأن الشعب لم يعد ينام بالحقن والمهدئات. وما تسمعونه بين يوم وآخر من شعارات مدوية هنا وهناك، فليس سوى دليل على أنه متيقظ، يحلم بغد أفضل، لكن بعينين مفتوحتين عن آخرهما.

ليست هناك تعليقات: