خلال الأسبوع الأخير من شهر غشت تنظم في العديد من المدن والقرى الإسبانية احتفالات صاخبة وراقصة بمناسبة طرد المسلمين على يد المسيحيين من الأندلس.
مرة في السنة تعطي البلديات والإدارات العمومية عطلة مفتوحة للمشاركين في هذا الاحتفال للاستعداد لتجسيد دور المسلمين والمسيحيين في شوارع المدن والمحافظات. هناك من يختار دور المسلم بسيفه المعقوف ولحيته الطويلة ولون بشرته السمراء التي يستعينون بألوان الصباغة للحصول عليها، وهناك من يختار تجسيد دور المسيحي ببشرته البيضاء وسيفه الطويل المصنوع على هيئة صليب كبير.
في المحافظة التي كنت أعيش فيها متخفيا نهاية التسعينيات، كان الكثير من سكان المدينة الذين يفتخرون بدمائهم العربية القديمة التي تركها أجدادهم الذين استوطنوا الأندلس، يتسابقون لكي يلعبوا دور الموروس. وأذكر أن عمدة إحدى المحافظات بمنطقة أليكانتي كان يتفاخر بلعب دور الملك المسلم ويصرف على الاحتفال الذي يقام في مدينته مبالغ طائلة حتى تكون الألبسة العربية والزرابي المبثوثة في الطرقات أحسن من تلك التي سيعرضها الملك المسيحي.
وقد كانت احتفالات موروس وكريستيانوس إحدى أجمل الاحتفالات التي تابعتها طيلة ثلاث سنوات خلال وجودي بإسبانيا. ولكم أن تتخيلوا منظر مهاجر سري بلا أية وثيقة تسمح له بالتواجد فوق أرض أجنبية، يتابع احتفالا يروي جزءا من تاريخ أجداده الذين حكموا لثمانية قرون الأرض نفسها التي جئت لأعمل عند أصحابها.
كنت أرى نظرات الإعجاب على وجوه السياح الإنجليز والألمان وهم يفتحون أفواههم مندهشين من جمال أزياء الجنود المسلمين وهم يمرون راكبين خيولهم رافعين رايات مكتوبا عليها «لا غالب إلا الله». وكم مرة وددت لو أشرح لهم أنني أنحدر من سلالة هؤلاء الجنود، وأن أجدادي كانوا يحكمون هذه الأراضي قبل قرون خلت. لكنني كنت أعود وأقول بأنهم سيشكون في أمري وسيعتقدون أنني واحد من أولئك المغاربة المحتالين الذين يحترفون جذب السياح إلى الحديث لكي يسرقوهم فيما بعد.
وكم مرة تابعت الاحتفال وأنا أوزع بصري بين أزياء فيالق الجنود المسلمين والمسيحيين الذين يسيرون بالتناوب في الشوارع، وبين جموع المتفرجين بحثا عن أزياء رجال الشرطة المكلفة بالمهاجرين لكي أتبخر في الوقت المناسب.
وقد كانت غربتي في تلك اللحظات غربة مضاعفة، غربتي في أرض ليست أرضي، وغربتي أمام تاريخ يتحدث عن مجد قادم من الماضي أتابع مجرياته وكلي خوف من أن تلقي علي شرطة الأجانب القبض بتهمة العيش في حاضر بدون تصريح يسمح لي بذلك.
لماذا أتحدث لكم اليوم عن هذه الذكريات التي تعود إلى حوالي عشر سنوات؟ ببساطة لأن الزيارة الأولى لملك إسبانيا وزوجته إلى سبتة ومليلية جعلتني أفكر قليلا في القيمة التي يعطيها الإسبان للتاريخ، مقارنة بالتجاهل والتنكر الذي نبديه نحن في المغرب أمام التاريخ بانتصاراته وهزائمه، بأمجاده وخساراته.
الإسبانيون يصرفون ميزانيات ضخمة لتخليد حدث طرد المسلمين من الأندلس. فخلف الاحتفال وطقوسه هناك آلة جبارة لصناعة أدوات الاحتفال من ألبسة وبارود وأسلحة ومراكب لتجسيد وصول طارق بن زياد إلى الشواطئ الأندلسية. ومنذ عشرات السنين دخلت هذه الاحتفالات إلى الذاكرة الجماعية كمحطة تاريخية لتذكير الأجيال الصاعدة بالرواية الرسمية لطرد المسلمين من الأندلس.
لذلك يستحيل اليوم في إسبانيا أن تقنع أحدا بأن ثمانية قرون من التواجد الإسلامي على أرض الأندلس كانت كلها تعايش وسلام ومودة، لأن احتفالات كموروس وكريستيانوس والكثير من الأفلام السينمائية الإسبانية تقدم هذه القرون الثمانية من التواجد الإسلامي في الأندلس كاحتلال إسلامي لأرض مسيحية.
كما أنه يستحيل في إسبانيا اليوم إقناع أحد بأن سبتة ومليلية هما مدينتان تحتلهما إسبانيا. فالجميع لديه اعتقاد راسخ بأن المدينتين كانتا إسبانيتين منذ الأزل.
لقد طرد المسيحيون المسلمين من الأندلس بشكل مهين، حيث بلغ الخوف بالموريسكيين المطرودين أنهم وصلوا إلى سلا وفاس بعد أن بلغتهم إشاعات بأن الملك المسيحي سيتعقبهم داخل أرض المغرب لكي يقطع رؤوسهم بسيف يدعى إلى اليوم «ماطاموروس»، أي قاطع رؤوس الموروس. وهذا اسم عائلي لازال متداولا في إسبانيا بشكل عادي إلى اليوم.
وتخليد هذه الهزيمة التاريخية التي لحقت بالمسلمين إلى اليوم في احتفالات راقصة وصاخبة، وجميلة يجب أن نعترف، ليس من باب العبث أو إهدار الأموال العمومية.
إن الوطنية والاعتزاز بالانتماء إلى الأرض والتشبث بالهوية أشياء يتم غرسها في الأجيال الصاعدة عن طريق إعطاء التاريخ وانتصاراته وأمجاده قيمته الحقيقية في تدبير الشأن اليومي للشعب.
نحن أيضا طردنا الإسبان من الصحراء بشكل جعل مدريد تحس بالإهانة، خصوصا وأن الطرد تزامن مع احتضار الجنرال فرانكو. فالمسيرة الخضراء التي دعا إليها الحسن الثاني لازالت إلى اليوم تشكل عقدة نفسية للإسبانيين، بعد أن شاهدوا صور هروب جنودهم المسلحين عندما بلغ إلى علمهم أن 350 ألف مورو مسلحين فقط بالقرآن والرايات يمشون فوق رمال الصحراء ويقتحمون الأسلاك الشائكة.
فماذا صنعت الدولة بهذا الانتصار غير ملاحم غنائية سخيفة في التلفزيون، وماذا يعرف المغاربة عن المسيرة الخضراء خارج صورة عصمان وهو يلبس نظارتيه الواقيتين من العواصف الرملية حتى لا تتضرر مقلتاه. تقريبا لا شيء. وها هي ذكرى المسيرة الخضراء تمر دون أن تعني للمغاربة شيئا آخر غير عطلة رسمية يأخذونها مرة في السنة.
إن الوطنية الحقيقية ليست ردة فعل تحدث عند المواطن تحت الطلب. وليست غضبة عابرة في الزمن، وليست بيانا متشنجا يرسله البرلمان إلى سفارة دولة أجنبية. الوطنية شعور عميق تتعهده الدولة بالرعاية على مدار الأيام. وعلى هؤلاء الذين يطلبون اليوم من المغاربة أن يكونوا وطنيين أن يعطوا الدليل على وطنيتهم هم أولا.
جميل أن يقود فؤاد عالي الهمة رؤساء الفرق البرلمانية للاحتجاج أمام مصالح السفارة الإسبانية بالرباط ضد زيارة خوان كارلوس وعقيلته لسبتة ومليلية. لكن الأجمل منه كان سيكون هو أن يحمل مظروفا كبيرا يضع فيه أوسمة إزابيلا الكاثوليكية التي تسلمها قبل سنوات في مدريد كل من الجنرال العنيكري وحسني بنسليمان ومزيان بلفقيه، وفاضل بن يعيش (الإسباني من جانب أمه) وغيرهم من المنعم عليهم بهذا الوسام الذي يرتبط اسمه بملكة كانت وراء طرد أجداد هؤلاء المغاربة من الأندلس، ويسلم المظروف إلى السفير الإسباني.
إن قبول مغربي مسلم بوسام إزابيلا الكاثوليكية يشبه إلى حد ما قبول يهودي بوسام يحمل اسم هتلر. فالأولى طردت آلاف المسلمين من بيوتهم وجردتهم من ممتلكاتهم بعد إهانتهم بمحاكم التفتيش، والثاني طرد اليهود من ألمانيا وعذبهم في سجونه ومعتقلاته وسرق حليهم وذهبهم ومجوهراتهم.
وعلى كل هؤلاء الذين استفاقت فيهم الوطنية بشكل متأخر اليوم أن يعيدوا الأوسمة التي تسلموها من الحكومة الإسبانية، كما على الذين يحملون جنسيات إسبانيا أن يعيدوها ويكتفوا بجنسيتهم المغربية. آنذاك سيكون لكلامهم معنى. أما أن يمثل بعضهم أمامنا دور الوطني المدافع عن مغربية سبتة ومليلية بالنهار وفي المساء يذهب إلى إحدى المدينتين ليتمتع في باراتها بنبيذها الأحمر وشطائر الخنزير المجفف، فهذا ما لا يقبله الوطنيون الصادقون.
إن فكرة بنكيران التي طرحها في البرلمان حول تنظيم مسيرة خضراء إلى سبتة ومليلية تلاقي صدى عند بعض شرائح المجتمع المغربي. وشخصيا أراهن عبد الإله بنكيران أنه إذا تزعم مسيرة شعبية نحو سبتة ومليلية فإنه سيرجع منها في الغد وحيدا، لأن الجميع سيبقى هناك إلى حين إنجاز وثائق الإقامة. لقد شد انتباهي رأي أحد الشبان الذين سألتهم «المساء» عن موقفهم من زيارة خوان كارلوس لسبتة، فقال «صراحة لا تقلقني الزيارة وأعتبرها عادية، وكل ما أسعى إليه هو الالتحاق بأخوي في الديار الإسبانية».
بالإضافة إلى الموقف السائد في المغرب حول ضرورة استرجاع سبتة ومليلية هناك مواقف أخرى لا يقدمها الإعلام الرسمي، وهي مواقف المغاربة القاطنين بسبتة ومليلية والريف المغربي عموما من فكرة عودة المدينتين إلى المغرب.
أستطيع أن أقول بأن الأصوات المطالبة في صفوف مغاربة سبتة ومليلية بعودة المدينتين إلى المغرب تكاد تكون منعدمة. والسبب واضح «حتى قط مكايهرب من دار العرس».
هذا لا يعني أن المغرب يجب أن ينسى مطلبه التاريخي بعودة المدينتين، بل يجب أن يعمل على جعل الحياة في المناطق المتاخمة لسبتة ومليلية ترقى إلى مستوى احترام كرامة المواطن وحقه في العلاج والعمل والتعليم.
إنه لمخجل حقا أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نبعث نساءنا ليلدن في مستشفيات المدينتين، وأطفالنا ليدخلوا خيرياتها. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نقف على أبوابهما لتسول خبزنا اليومي. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية ونشاهد يوميا آلاف النساء يتعرضن على أيدي الموروس والكريستيانوس في شرطة الحدود إلى الإذلال والابتزاز والقهر من أجل علبة حليب مهربة تحت الثياب.
مرة في السنة تعطي البلديات والإدارات العمومية عطلة مفتوحة للمشاركين في هذا الاحتفال للاستعداد لتجسيد دور المسلمين والمسيحيين في شوارع المدن والمحافظات. هناك من يختار دور المسلم بسيفه المعقوف ولحيته الطويلة ولون بشرته السمراء التي يستعينون بألوان الصباغة للحصول عليها، وهناك من يختار تجسيد دور المسيحي ببشرته البيضاء وسيفه الطويل المصنوع على هيئة صليب كبير.
في المحافظة التي كنت أعيش فيها متخفيا نهاية التسعينيات، كان الكثير من سكان المدينة الذين يفتخرون بدمائهم العربية القديمة التي تركها أجدادهم الذين استوطنوا الأندلس، يتسابقون لكي يلعبوا دور الموروس. وأذكر أن عمدة إحدى المحافظات بمنطقة أليكانتي كان يتفاخر بلعب دور الملك المسلم ويصرف على الاحتفال الذي يقام في مدينته مبالغ طائلة حتى تكون الألبسة العربية والزرابي المبثوثة في الطرقات أحسن من تلك التي سيعرضها الملك المسيحي.
وقد كانت احتفالات موروس وكريستيانوس إحدى أجمل الاحتفالات التي تابعتها طيلة ثلاث سنوات خلال وجودي بإسبانيا. ولكم أن تتخيلوا منظر مهاجر سري بلا أية وثيقة تسمح له بالتواجد فوق أرض أجنبية، يتابع احتفالا يروي جزءا من تاريخ أجداده الذين حكموا لثمانية قرون الأرض نفسها التي جئت لأعمل عند أصحابها.
كنت أرى نظرات الإعجاب على وجوه السياح الإنجليز والألمان وهم يفتحون أفواههم مندهشين من جمال أزياء الجنود المسلمين وهم يمرون راكبين خيولهم رافعين رايات مكتوبا عليها «لا غالب إلا الله». وكم مرة وددت لو أشرح لهم أنني أنحدر من سلالة هؤلاء الجنود، وأن أجدادي كانوا يحكمون هذه الأراضي قبل قرون خلت. لكنني كنت أعود وأقول بأنهم سيشكون في أمري وسيعتقدون أنني واحد من أولئك المغاربة المحتالين الذين يحترفون جذب السياح إلى الحديث لكي يسرقوهم فيما بعد.
وكم مرة تابعت الاحتفال وأنا أوزع بصري بين أزياء فيالق الجنود المسلمين والمسيحيين الذين يسيرون بالتناوب في الشوارع، وبين جموع المتفرجين بحثا عن أزياء رجال الشرطة المكلفة بالمهاجرين لكي أتبخر في الوقت المناسب.
وقد كانت غربتي في تلك اللحظات غربة مضاعفة، غربتي في أرض ليست أرضي، وغربتي أمام تاريخ يتحدث عن مجد قادم من الماضي أتابع مجرياته وكلي خوف من أن تلقي علي شرطة الأجانب القبض بتهمة العيش في حاضر بدون تصريح يسمح لي بذلك.
لماذا أتحدث لكم اليوم عن هذه الذكريات التي تعود إلى حوالي عشر سنوات؟ ببساطة لأن الزيارة الأولى لملك إسبانيا وزوجته إلى سبتة ومليلية جعلتني أفكر قليلا في القيمة التي يعطيها الإسبان للتاريخ، مقارنة بالتجاهل والتنكر الذي نبديه نحن في المغرب أمام التاريخ بانتصاراته وهزائمه، بأمجاده وخساراته.
الإسبانيون يصرفون ميزانيات ضخمة لتخليد حدث طرد المسلمين من الأندلس. فخلف الاحتفال وطقوسه هناك آلة جبارة لصناعة أدوات الاحتفال من ألبسة وبارود وأسلحة ومراكب لتجسيد وصول طارق بن زياد إلى الشواطئ الأندلسية. ومنذ عشرات السنين دخلت هذه الاحتفالات إلى الذاكرة الجماعية كمحطة تاريخية لتذكير الأجيال الصاعدة بالرواية الرسمية لطرد المسلمين من الأندلس.
لذلك يستحيل اليوم في إسبانيا أن تقنع أحدا بأن ثمانية قرون من التواجد الإسلامي على أرض الأندلس كانت كلها تعايش وسلام ومودة، لأن احتفالات كموروس وكريستيانوس والكثير من الأفلام السينمائية الإسبانية تقدم هذه القرون الثمانية من التواجد الإسلامي في الأندلس كاحتلال إسلامي لأرض مسيحية.
كما أنه يستحيل في إسبانيا اليوم إقناع أحد بأن سبتة ومليلية هما مدينتان تحتلهما إسبانيا. فالجميع لديه اعتقاد راسخ بأن المدينتين كانتا إسبانيتين منذ الأزل.
لقد طرد المسيحيون المسلمين من الأندلس بشكل مهين، حيث بلغ الخوف بالموريسكيين المطرودين أنهم وصلوا إلى سلا وفاس بعد أن بلغتهم إشاعات بأن الملك المسيحي سيتعقبهم داخل أرض المغرب لكي يقطع رؤوسهم بسيف يدعى إلى اليوم «ماطاموروس»، أي قاطع رؤوس الموروس. وهذا اسم عائلي لازال متداولا في إسبانيا بشكل عادي إلى اليوم.
وتخليد هذه الهزيمة التاريخية التي لحقت بالمسلمين إلى اليوم في احتفالات راقصة وصاخبة، وجميلة يجب أن نعترف، ليس من باب العبث أو إهدار الأموال العمومية.
إن الوطنية والاعتزاز بالانتماء إلى الأرض والتشبث بالهوية أشياء يتم غرسها في الأجيال الصاعدة عن طريق إعطاء التاريخ وانتصاراته وأمجاده قيمته الحقيقية في تدبير الشأن اليومي للشعب.
نحن أيضا طردنا الإسبان من الصحراء بشكل جعل مدريد تحس بالإهانة، خصوصا وأن الطرد تزامن مع احتضار الجنرال فرانكو. فالمسيرة الخضراء التي دعا إليها الحسن الثاني لازالت إلى اليوم تشكل عقدة نفسية للإسبانيين، بعد أن شاهدوا صور هروب جنودهم المسلحين عندما بلغ إلى علمهم أن 350 ألف مورو مسلحين فقط بالقرآن والرايات يمشون فوق رمال الصحراء ويقتحمون الأسلاك الشائكة.
فماذا صنعت الدولة بهذا الانتصار غير ملاحم غنائية سخيفة في التلفزيون، وماذا يعرف المغاربة عن المسيرة الخضراء خارج صورة عصمان وهو يلبس نظارتيه الواقيتين من العواصف الرملية حتى لا تتضرر مقلتاه. تقريبا لا شيء. وها هي ذكرى المسيرة الخضراء تمر دون أن تعني للمغاربة شيئا آخر غير عطلة رسمية يأخذونها مرة في السنة.
إن الوطنية الحقيقية ليست ردة فعل تحدث عند المواطن تحت الطلب. وليست غضبة عابرة في الزمن، وليست بيانا متشنجا يرسله البرلمان إلى سفارة دولة أجنبية. الوطنية شعور عميق تتعهده الدولة بالرعاية على مدار الأيام. وعلى هؤلاء الذين يطلبون اليوم من المغاربة أن يكونوا وطنيين أن يعطوا الدليل على وطنيتهم هم أولا.
جميل أن يقود فؤاد عالي الهمة رؤساء الفرق البرلمانية للاحتجاج أمام مصالح السفارة الإسبانية بالرباط ضد زيارة خوان كارلوس وعقيلته لسبتة ومليلية. لكن الأجمل منه كان سيكون هو أن يحمل مظروفا كبيرا يضع فيه أوسمة إزابيلا الكاثوليكية التي تسلمها قبل سنوات في مدريد كل من الجنرال العنيكري وحسني بنسليمان ومزيان بلفقيه، وفاضل بن يعيش (الإسباني من جانب أمه) وغيرهم من المنعم عليهم بهذا الوسام الذي يرتبط اسمه بملكة كانت وراء طرد أجداد هؤلاء المغاربة من الأندلس، ويسلم المظروف إلى السفير الإسباني.
إن قبول مغربي مسلم بوسام إزابيلا الكاثوليكية يشبه إلى حد ما قبول يهودي بوسام يحمل اسم هتلر. فالأولى طردت آلاف المسلمين من بيوتهم وجردتهم من ممتلكاتهم بعد إهانتهم بمحاكم التفتيش، والثاني طرد اليهود من ألمانيا وعذبهم في سجونه ومعتقلاته وسرق حليهم وذهبهم ومجوهراتهم.
وعلى كل هؤلاء الذين استفاقت فيهم الوطنية بشكل متأخر اليوم أن يعيدوا الأوسمة التي تسلموها من الحكومة الإسبانية، كما على الذين يحملون جنسيات إسبانيا أن يعيدوها ويكتفوا بجنسيتهم المغربية. آنذاك سيكون لكلامهم معنى. أما أن يمثل بعضهم أمامنا دور الوطني المدافع عن مغربية سبتة ومليلية بالنهار وفي المساء يذهب إلى إحدى المدينتين ليتمتع في باراتها بنبيذها الأحمر وشطائر الخنزير المجفف، فهذا ما لا يقبله الوطنيون الصادقون.
إن فكرة بنكيران التي طرحها في البرلمان حول تنظيم مسيرة خضراء إلى سبتة ومليلية تلاقي صدى عند بعض شرائح المجتمع المغربي. وشخصيا أراهن عبد الإله بنكيران أنه إذا تزعم مسيرة شعبية نحو سبتة ومليلية فإنه سيرجع منها في الغد وحيدا، لأن الجميع سيبقى هناك إلى حين إنجاز وثائق الإقامة. لقد شد انتباهي رأي أحد الشبان الذين سألتهم «المساء» عن موقفهم من زيارة خوان كارلوس لسبتة، فقال «صراحة لا تقلقني الزيارة وأعتبرها عادية، وكل ما أسعى إليه هو الالتحاق بأخوي في الديار الإسبانية».
بالإضافة إلى الموقف السائد في المغرب حول ضرورة استرجاع سبتة ومليلية هناك مواقف أخرى لا يقدمها الإعلام الرسمي، وهي مواقف المغاربة القاطنين بسبتة ومليلية والريف المغربي عموما من فكرة عودة المدينتين إلى المغرب.
أستطيع أن أقول بأن الأصوات المطالبة في صفوف مغاربة سبتة ومليلية بعودة المدينتين إلى المغرب تكاد تكون منعدمة. والسبب واضح «حتى قط مكايهرب من دار العرس».
هذا لا يعني أن المغرب يجب أن ينسى مطلبه التاريخي بعودة المدينتين، بل يجب أن يعمل على جعل الحياة في المناطق المتاخمة لسبتة ومليلية ترقى إلى مستوى احترام كرامة المواطن وحقه في العلاج والعمل والتعليم.
إنه لمخجل حقا أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نبعث نساءنا ليلدن في مستشفيات المدينتين، وأطفالنا ليدخلوا خيرياتها. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نقف على أبوابهما لتسول خبزنا اليومي. مخجل أن نطالب بسبتة ومليلية ونشاهد يوميا آلاف النساء يتعرضن على أيدي الموروس والكريستيانوس في شرطة الحدود إلى الإذلال والابتزاز والقهر من أجل علبة حليب مهربة تحت الثياب.