2007-11-06

الشاشة وما وراءها

وضع مهرجان السينما، المسماة وطنية، أوزاره في طنجة نهاية الأسبوع الماضي، ولعل الرأي العام تابع كل الجعجعة التي رافقته، والتي كان أبطالها مخرجون سينمائيون مغاربة موهبتهم الوحيدة أنهم يخرجون عيونهم في ملايين الدراهم التي يصرفها لهم المركز السينمائي المغربي من أموال دافعي الضرائب كل سنة.

عائلات كثيرة جاءت لكي تتابع بعض الأفلام المشاركة في المهرجان، فانتهت غارقة في الخجل وغادرت القاعة بعد لقطة أو لقطتين. متفرجون يعشقون السينما جاؤوا لكي يتمتعوا بالفن السابع فاكتشفوا أن الفن الذي يقدم لهم يستحق أن يسمى الفن الهابط إلى ما تحت الصفر وليس الفن السابع.

بعض أشباه الصحافيين، ممن يزاولون مهنة النقد السينمائي خلال نهاية الأسبوع، وجدوا في نزوع أغلب المخرجين السينمائيين نحو الجنس والخلاعة نوعا من الجرأة المقبولة والتي تدل على أن هؤلاء المخرجين بدؤوا يتجرؤون على الممنوعات.

وكأن مخرج فيلم «بابل» مثلا، والذي صور أغلب مشاهده في المغرب وشارك فيه ممثلون مغاربة والذي لا نعثر فيه على لقطة عري واحدة، هو فيلم غير جريء. وقد كان باستطاعة المخرج أن يعري بطلة فيلمه، وهي بالمناسبة أجمل بكثير من كل الممثلات المغربيات اللواتي قبلن أن يعرين أجسادهن في أفلام مهرجان طنجة، لكنه فضل بالمقابل أن يعرضها للقطات قاسية حولت وجهها الجميل إلى وجه يبعث النظر إليه على الشفقة أكثر من أي شعور آخر.

وللذين يرون أن الجنس ضروري في السينما، نحيلهم على أفلام الإيراني عباس كيروستامي الذي لا يمكن أن تجد في كل أفلامه لقطة عري واحدة، ومع ذلك أينما ذهبت أفلامه تحصل على أرفع الجوائز العالمية. كما أن الأفلام المغربية التي حصلت على أكبر عدد من الجوائز العالمية لا توجد فيها لقطات جنسية أو مشاهد إغراء. كفيلم «الراكد» لياسمين قصاري (ما يفوق 15 جائزة)، و«الرحلة الكبرى» لفروخي، و«فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق» لمحمد العسلي الذي منح المغرب لأول مرة في تاريخه السينمائي جائزة التانيت الذهبي الذي ظل يتبارى حولها منذ 1966.

والواقع أن استعمال الجنس بذلك الشكل الفج، والحضور الطاغي للقطات التعاطي للخمور، ودفاع البعض الآخر عن الحشيش والحرية الجنسية، في أفلام المهرجان الوطني للسينما بطنجة لم يأت اعتباطا. ودعونا نتسلل إلى ما وراء شاشة المهرجان، المسمى وطنيا يا حسرة، لكي نكتشف الأيادي الخفية التي تحرك بعض المخرجين الكراكيز كما تشاء لكي تصنع وتروج الصورة التي تريد عن المغرب، أو ما يجب أن يكون عليه المغرب في المستقبل القريب.

هناك اليوم موجتان يستحلي أغلب المخرجين المغاربة التزحلق فوقها، الأولى موجة الجنس وما يرافقه من خمر وحشيش، وموجة الحديث عن هجرة المغاربة اليهود إلى فلسطين المغتصبة التي أوهمتهم الصهيونية العالمية بأنها أرضهم الموعودة.
والموجتان يحركهما المركز السينمائي في الخفاء تحت ذرائع مختلفة، لعل أهمها مواجهة الأصولية المتطرفة وإعطاء صورة عن المغرب للغرب كأرض للتسامح والتعايش بين اليهودية والإسلام.

والموجتان السينمائيتان بدأت أولى حركات مدهما قبل سنة عندما ألقت ليلى المراكشي قنبلتها السينمائية المسماة «ماروك» في لائحة الأفلام المتبارية حول جوائز المهرجان السينمائي الوطني في طنجة. وقد كنت عضوا في لجنة التحكيم ورأيت كيف كان بعض أعضاء اللجنة، الذين جيء بهم خصيصا لهذا الغرض، يحاولون الضغط لكي يحصل فيلم ليلى المراكشي على إحدى جوائز المهرجان. وعندما اقتنعوا أن «ماروك» سيخرج خاوي الوفاض من المهرجان، نظمت له إحدى جمعيات النقاد السينمائيين، الذين لا يستطيع بعض أعضائها التفريق بين النقد السينمائي والنقود السينمائية، وبدعم من المركز السينمائي المغربي، مسابقة ومنحت الفيلم جائزة على مقاسها.

والنتيجة اليوم أنه عوض أن يكون لدينا فيلم «ماروك» واحد، أصبحت لدينا «ماروكات» كثيرة تسير على منواله. فقد نجح «لوبي» ليلى المراكشي في التأثير على بعض المخرجين وجعلهم يقتنعون بنظرية المركز السينمائي المغربي القائلة بأنه لا سبيل لمحاربة الأصولية اليوم في المغرب سوى إشاعة ثقافة الجنس في الأفلام السينمائية، والتطبيع مع لغة الحشاشين وثقافتهم وموسيقاهم وطريقة فهمهم للحياة. خصوصا عندما خرج نور الدين السايل مدير المركز السينمائي خلال الدورة السابقة من مهرجان طنجة يدافع أمام الصحافة عن فيلم «ماروك» ومخرجته، وقال بأن هذا الفيلم يجسد السينما التي نريد اليوم في المغرب. وكلنا نعلم أن المخرجين المغاربة في غالبيتهم لديهم ارتباط عضوي ومعيشي بصندوق الدعم، وإذا سمعوا مديره يتحدث عن «السينما التي يريد اليوم في المغرب» فإنهم يلتقطون الإشارة ويعكفون على كتابة سيناريوهات تحترم التوجه العام الذي خطط له المركز السينمائي المغربي ومديره. فهم يعرفون أن أفلامهم إذا لم تحترم «فلسفة» هذه «الحرب» التي يقودها مدير المركز على الأصولية من داخل خندق الجنس، فإن أفلامهم لن تحظى بأغلفة الدعم السخية. ولعل المخرجين السينمائيين في المغرب هم الأكثر حظا بين كل مخرجي العالم، فهم بفضل الدعم يضمنون مداخيل أفلامهم وأرباحها حتى قبل أن توزع في القاعات السينمائية. عكس كل مخرجي العالم الذين يغامرون ببيع ممتلكاتهم من أجل إنجاز فيلم سينمائي قد ينجح وقد يفشل. والغريب في الأمر أنه في كل العالم يخصص الدعم السينمائي لتشجيع المخرجين الشباب، بينما عندنا لازال المخرج لطيف لحلو والذي بدأ السينما عام 1959 يتلقى الدعم كلما أراد تصوير فيلم. ولهذا فإن برنامج الدعم الذي يقوده المركز السينمائي يستحق أن يسمى «الدعم من المهد إلى اللحد».

ولهذا السبب لا نكاد نجد مخرجا مغربيا لم يشتر الفيلا والكات كات في ظرف خمس سنوات بفضل سياسة الدعم السينمائي. مع أن أغلبهم لا علاقة له بالسينما ويشتغل بأشياء أخرى بعيدة كل البعد عن الفن السابع. فهناك المخرج الذي يشتغل في الجمارك كحكيم النوري، والمخرج صاحب شركة لتوزيع الأدوية كسعد الشرايبي، والمخرج صاحب الصيدلية كحسن بنجلون، والمخرج صاحب مقاولة للبناء كمحمد بولان. وبين وقت وآخر يكتبون سيناريو ويذهبون به إلى المركز السينمائي ويأخذون عنه 300 مليون سنتيم. وسير خدم نتا. وكون غير يديرو بهادوك الفلوس شي حاجة تحمر الوجه، مانهضروش.

وحسب رؤية المركز السينمائي المغربي، التي تحتاج فعلا إلى نظارات طبية أكثر سمكا من العادة، فالأصولية الإسلامية في المغرب لا يمكن هزمها إلا بتشجيع وتمويل أفلام ك «نانسي والوحش»، حيث نرى الأطراف السفلية للممثلات أكثر مما نرى رأس خيط القصة، وفيلم «ثابت أو غير ثابت» الذي يبدأ اللقطة الأولى بمشهد جنسي في السيارة يليق بأفلام منتصف الليل في قنوات الهوت بورد، وفيلم «ملائكة الشيطان» الذي يحاول إقناع الشباب المغربي بأنه يكفي أن يعاطوا لفائف الحشيش ويستمعوا إلى موسيقى مزعجة لكي يغيروا العالم. وفيلم «سميرة في الضيعة» الذي اكتشف مخرجه أن المشكل الكبير والخطير اليوم في المغرب هو الضعف الجنسي.

ثم هناك هذا التوجه الغامض نحو إنتاج أفلام تتحدث عن اليهودي المغربي الذي انخدع وراء حلم أرض الميعاد، وذهب إلى إسرائيل وضاع فيه المغرب والمغاربة. ولعلها ليست مصادفة سينمائية أن يقرر حسن بنجلون ومحمد إسماعيل ومحمد زينون تقديم أفلام تتحدث كلها عن هذه «المأساة» اليهودية في نفس المهرجان.

ولعل ما يكشف عن جهل بعض المخرجين بخطورة السينما هو أن محمد إسماعيل عندما سألوه عن طبيعة مقاربته السينمائية لموضوع هجرة اليهود المغاربة، قال إنه صور شريطة بكاميرا محايدة. وهذا بنظري أكبر دليل على أن الوعي بخطورة الصورة لازال غائبا عند أغلب مخرجينا السينمائيين. فليست هناك صورة محايدة في السينما، وكل صورة هي موقف بحد ذاتها.

وهنا أدعو هؤلاء المخرجين لكي يعيدوا مشاهدة فيلم «ماروك» ليلى المراكشي، الذي أنتج في أغلبه برؤوس أموال يهودية فرنسية مستقرة في باريس، وأن يعيدوا بالعرض البطيء صورة انتزاع بطل الفيلم اليهودي لنجمة داوود من عنقه وتعليقها لمرجانة العلوي بطلة الفيلم المسلمة قبل أن يضاجعها، في الفيلم طبعا.

هل يمكن أن نقول هنا إن مخرجة الفيلم صورت شريطها بكاميرا محايدة. لا أعتقد. ثم لماذا هذا الاهتمام اليوم بـ«مأساة» هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وهل نضبت مخيلة المخرجين المغاربة إلى هذا الحد ولم يعودوا قادرين على استلهام مآسي أخرى غير مآسي اليهود. ألا تستحق انتفاضة 81 بالدار البيضاء فيلما سينمائيا، ألا تستحق مأساة أنفكو شريطا صغيرا يؤرخ لقرية يموت أطفالها مع مجيء الشتاء. أم أن مآسي الآخرين أهم من مآسينا. أنا هنا لست ضد تصوير أفلام حول هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، بل بالعكس، وكم كنت سأكون سعيدا لو أن أحد هؤلاء المخرجين المغاربة المتحمسين أكثر من اللازم لتاريخ اليهود، صور شريطا حول المجزرة الرهيبة التي تعرض لها يهود وجدة خلال الاستعمار والتي تأكد فيما بعد أن من كان وراءها ليسوا مغاربة كما أشيع آنذاك، وإنما فوق موت خاصة أرسلها الموساد الذي أراد أن يبث الرعب في نفوس اليهود المغاربة لكي يهاجروا إلى إسرائيل خوفا من المذبحة الإسلامية المفترى عليها.

ثم إن اليهود المغاربة لم يذهبوا إلى فلسطين من أجل تحريرها، وإنما من أجل طرد الفلسطينيين واستيطان أراضيهم وتشريد أطفالهم. وأبناء هؤلاء اليهود المغاربة كلهم تجندوا في الجيش الإسرائيلي وربما بينهم من قاتل بشراسة الجنود المغاربة الذين ذهبوا ليقاتلوا إلى جانب العرب في حروبهم الخاسرة.

هذا هو التاريخ الحقيقي يا سادة، والذي يريد أن يكون جريئا في السينما عليه ألا يكتفي فقط بتعرية الأثداء والنصوص السفلية وفتخ لفافات الحشيش، بل بتحطيم هذه الأساطير والمآسي المصطنعة التي يريد البعض أن يحتكرها باسمه إلى الأبد.

أليست السينما في آخر المطاف اختراعا يهوديا. ابحثوا عن أسماء أكبر المخرجين السينمائيين وأكبر شركات الإنتاج السينمائي العالمي، وستفهمون أن من يمتلكها يعرف جيدا أي سلاح خطير يمتلك. فهل يعرف مخرجونا السينمائيون أي سلاح خطير يلعبون به ؟

ليست هناك تعليقات: