2007-11-06

وا أسفاه...

رأى كثيرون في حضور ولي العهد الإسباني وزوجته ليتيسيا إلى جانب الأمير رشيد في مراكش لتدشين المركز الثقافي سيربانتيس، رغبة في مد جسور التلاقح الثقافي والحضاري بين الضفتين. أما أنا شخصيا فقد رأيت فيه حبا من طرف واحد فقط. فقد كنت سأكون سعيدا لو أنني رأيت الأمير رشيد في مدريد يفتتح مركزا ثقافيا مغربيا لكي يكون لعشرات الآلاف من المهاجرين المغاربة وأبنائهم بيت مغربي صغير يذهبون إليه لإعارة كتاب أو مشاهدة شريط مغربي أو الاستماع إلى محاضرة أو ندوة.

حسب البنك المركزي الإسباني فالمغرب اليوم يوجد على رأس قائمة الدول التي تستقبل الأموال التي تغادر إسبانيا (حوالي 7000 مليون أورو سنة 2006). ورغم ذلك فإن الحكومة المغربية لم تفكر يوما في فتح مركز ثقافي صغير لهؤلاء المهاجرين في مدريد أو برشلونة أو إشبيلية، حيث عاش أجداد المغاربة حوالي ثمانية قرون. فهي تعتبرهم مجرد يد عاملة خشنة مهمتها الوحيدة جمع العملة الصعبة وإرسالها إلى الوطن. فالدولة ترى هؤلاء المهاجرين على شكل حوالات بريدية وليس كجالية لديها حقوق على الدولة، أبرزها الحق في الثقافة الوطنية.

لا يعرف المغرب كم يخسر على المستوى الاقتصادي عندما يرى الفرنسيين والإسبان والإيطاليين والإنجليز يتسابقون لافتتاح مراكز ثقافية في مدن المغرب، بينما هو يكتفي فقط بتسجيل أغنية تافهة وسخيفة مرة كل صيف ويذيعها على أمواج الإذاعة لكي يستقبل بها وفود الجالية المغربية المقيمة بالخارج.

إن واحدا من أخطر أنواع الجهل وأكثرها كلفة لاقتصاد المغرب هو جهل حكامه بأهمية الثقافة وقدرتها على تغيير مستقبل البلاد نحو الأفضل. وعندما نراجع قائمة أسماء وزراء الثقافة الذين تعاقبوا على الحكومات المغربية منذ 1955، سنلاحظ أن أغلبهم لا تتوفر فيه شروط وزير الثقافة كما هي متعارف عليها في الدول ذات الحضارات العريقة مثل المغرب. ووزارة الثقافة هي الوزارة الوحيدة في المغرب التي يمكن أن تسند حقيبتها إلى وزير غير حاصل على شهادة الإجازة، كما حدث مع الوزير السباق محمد الأشعري. أو إلى وزيرة غير حاصلة حتى على شهادة الباكالوريا، كما حدث مع السعدية قريطيف (ثريا جبران) وزيرة الثقافة في حكومة عباس، التي قالت للقسم الفرنسي في إذاعة روسيا خلال أول زيارة رسمية لها أن الحسن الثاني هو الذي عينها وزيرا للثقافة وستة وزيرات أخريات.
وقد ظلت وزارة الثقافة منذ حكومة البكاي تابعة لوزارة الصناعة التقليدية والسياحة والفنون الجميلة، حيث تختلط الثقافة بصناعة الشرابيل والطواجين. ثم انتقلت إلى مجرد مديرية في وزارة التعليم، إلى أن حصلت مع محمد الفاسي على استقلالها الذاتي وأصبحت وزارة قائمة بذاتها اسمها وزارة الشؤون الثقافية.

ولعل ما يكشف عن احتقار الدولة للثقافة في المغرب هو تخصيص صفر فاصلة خمسة من ميزانية الدولة لوزارة الثقافة. وهي ميزانية لا تصل حتى إلى مستوى الميزانية التي ترصدها إسبانيا أو فرنسا مثلا لمركز واحد من مراكزها الثقافية المنتشرة في المغرب.
والواقع أن أهم قطاع وزاري اليوم في المغرب يجب أن يحظى بأكبر اهتمام هو قطاع الثقافة. فالمغرب اليوم بلد لا ينتج شيئا مهما يستطيع أن ينافس به الأسواق العالمية. ليست لدينا ثروات طبيعية مهمة نستطيع أن نغزو بها العالم مثلما هو الأمر بالنسبة لبلدان أخرى. كل ما لدينا هو حضارتنا وثقافتنا المغربية التي تضرب في أعماق التاريخ. والحضارة والثقافة اليوم ليست فقط دروسا سخيفة في كتب التاريخ الذي يتم تعليمه للتلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات، من قبيل «وبنى مدرسة ومارستانا وسك النقود باسمه»، وإنما مشروع استثماري ضخم ترصد له ملايير الدراهم في الداخل والخارج.

إن جزءا كبيرا من السياح الإسبان الذين يختارون قضاء عطلتهم في مصر يصنعون ذلك بفضل ما يقوم به المركز الثقافي المصري في مدريد من أجل التعريف بالثقافة والحضارة المصرية، والذي افتتحه طه حسين في الخمسينات.

وقد قامت ضجة كبيرة في وجه طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف في الخمسينات وقرر فتح مراكز ثقافية مصرية في بعض العواصم الأوربية، وكان هناك بعض الجهلة من الذين اتهموه بتبذير أموال الدولة، فكتب رسالة يشرح فيها موقفه ويدافع فيها عن مشروعه، الذي ظهر اليوم كم كان رائدا وسابقا لزمنه.

والدولة المغربية عندما ترفض أن تفتح مراكز ثقافية في الدول التي لديها مراكز ثقافية أجنبية عندنا، إنما تحرم خزينة المملكة من عائدات ملايين السياح الذين كانوا سيكتشفون المغرب وثقافته وحضارته من خلال أنشطة هذه المراكز الثقافية التي ستصدر صورة المغرب وتبيعها للآخر.

المصيبة في المغرب أن القائمين على شؤونه ينظرون إلى قطاع الثقافة كقطاع معاق يستحق الصدقة. والواقع أنه القطاع الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ المغرب ويضمن له مكانة في المستقبل. فالحروب التي يعرفها العالم اليوم ليست سوى حروب ثقافية وفكرية، وكل دولة قوية تسعى إلى فرض هيمنتها على الدول الضعيفة بواسطة لغتها وثقافتها، وبعد ذلك يأتي الاقتصاد بسهولة أكبر.

يجب أن نفهم أن فرنسا وإسبانيا لا تتنازعان اليوم حول اقتسام المغرب لغويا وثقافيا عبر مراكزهما التي تتكاثر كل سنة، فقط من أجل سواد عيون المغاربة. وإنما هناك مصالح اقتصادية كبيرة جدا وراء هذا الاهتمام اللغوي والثقافي. فوراء فيكتور هيغو وألبير كامي هناك اتحاد المقاولات الفرنسية، ووراء سيربانتيس هناك فاديسا وشركات التدبير المفوض. والذي يعتقد أن الإسبان والفرنسيين والإيطاليين والإنجليز يصرفون ملايير الأورو لترويج لغتهم وثقافتهم في المغرب، إنما يصنعون ذلك لأننا «بقينا فيهم» فهو واهم ويحتاج أن يتأمل قرار حكومة الأندلس صرف مبلغ 300 مليون سنتيم لجريدة مغربية في طنجة فقط من أجل أن تصدر ملحقا أسبوعيا باللغة الإسبانية. وهذا المبلغ هو نفسه الذي تمنحه الدولة المغربية مرة في السنة كدعم لأكثر الجرائد اليومية انتشارا.

وعندما قرأت تصريحا بالأمس للسيدة السعدية قريطيف وزيرة الثقافة، وهي تتحدث عن اجتماعاتها المتكررة مع الفنانين والممثلين لتدارس الوضع الثقافي والبحث معهم عن حلول لمشاكلهم، اقتنعت بأن السيدة لم تفهم بعد ما معنى أن تكون وزيرا للثقافة. فهي تحصر الثقافة فقط في زملائها الفنانين والممثلين، وتعتقد أن مهمة وزير الثقافة هي عيادة الفنانين الذي يجرون عمليات جراحية في بيوتهم، أو السعي لطلب الرعاية الملكية لفنانين يشهرون شهادات الضعف في صفحات الجرائد في ما يشبه التسول.

في الدول الديمقراطية هذه الأشياء تتكفل بها النقابات وشركات التأمين، وليس هناك فنان في فرنسا أو أمريكا يبعث رسالة إلى رئيس الدولة يطلب فيها منه التكفل بصحته. لأن الصحة حق من حقوق الإنسان وكل المواطنين سواسية أمام هذا الحق، وليس لأنك فنان أو كاتب يجب أن يتكفل بك القصر من دون عباد الله الآخرين.

إن مهمة وزير الثقافة اليوم في المغرب هي أن يعيد الاعتبار لهذا الإرث الحضاري والإنساني الذي يندثر أمام أعيننا يوميا في مدن عتيقة وتاريخية يستحيل أن تجد لها نظيرا في أي مكان من العالم.

مدن عاش وعبر منها كتاب عالميون وعباقرة موسيقيون وثوار لازال مجرد ذكر اسمهم يثير الإعجاب. هل تعرف مثلا السعدية قريطيف أن الثائر تشي غيفارا نزل ذات يوم ضيفا على فندق باليما الذي يقابل البرلمان. ماذا كانت ستخسر وزارة الثقافة لو أنها أعادت تأثيث الغرفة التي نام فيها غيفارا ووضعت صوره على جدرانها وروجت لها في كتب السياحة العالمية. إن خصلة واحدة من شعر تشي غيفارا بيعت في مزاد علني قبل يومين بمبلغ 119 ألف دولار. وعشرات الآلاف من السياح سيتدافعون لقضاء ليلة واحدة في غرفة نام فيها تشي غيفارا ذات يوم في باليما.

وفي مقبرة منسية بالعرائش هناك قبر أعزل ومجهول لواحد من كبار الكتاب العالميين الذي بالمناسبة مثلت له فوق الخشبة ثريا جبران أحد نصوصه المسرحية حول فلسطين. إنه جون جوني. ولو عرف عشاق أدبه أنه مدفون في العرائش لزاروه بالمئات ولكانوا اكتشفوا بالمناسبة مدينة ساحرة اسمها العرائش لديها أروع سردين في العالم، وأسوأ نائب في البرلمان اسمه عباس الفاسي.

وفي طنجة عشرات البيوت التي استوطنها كتاب عالميون من الأمريكي تينيسي ويليامس وبول بولز، إلى محمد شكري الذي ترجم إلى ما يفوق عشرين لغة. والذي ظلت شقته مقفلة إلى أن وزع ورثته ممتلكاته وباعوها في الخردة.

وفي منطقة الديابات بالصويرة سكن جيمي هندريكس حوالي ثلاثة أشهر، وفي طنجة مر الرولينستونغ، وفي بجعد عاش الكاتب الفرنسي شارل دو فوكو، الذي لم يعر الحبيب المالكي ابن بجعد ذكرى هذا الكاتب أي اهتمام طيلة وجوده على رأس وزارة التعليم.

ومن المؤسف حقا أن لا نعثر في أي دليل سياحي على عناوين بيوت هؤلاء الفنانين والكتاب العالميين والأماكن التي مروا منها، ولو بلوحة رخامية بسيطة تدل على أثرهم. وكيف سنعثر على أثر لهؤلاء والمجالس البلدية يرأسها الأميون وأشباه الأميين الذين يزيلون أسماء العظماء من لوائح الشوارع ويعوضونها بأسماء النكرات الذين لا يعرف لهم أثر أو إنجاز.

وكيف ستهتم وزارة الثقافة بأسماء هؤلاء الكتاب والفنانين الأجانب الذين مروا بالمغرب، في الوقت الذي نرى فيه كيف تتجاهل الوزارة حتى بيوت ومقابر مؤسسي مدن المغرب. من يعرف مثلا أن بيت لسان الدين الخطيب يوجد في حي الطالعة بفاس، وبيت ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في فاس أيضا، وبيت الفيلسوف ابن رشد في مراكش. مراكش التي يتبول السكارى والمشردون بالقرب من الضريح المهمل لمؤسسها العظيم يوسف ابن تاشفين.
وا أسفاه...

ليست هناك تعليقات: