2007-09-05

إنك ميت وإنهم ميتون

كان أول شخص انتظرت أن يحضر مراسيم دفن وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري هو الوزير الأول الاتحادي السابق عبد الرحمن اليوسفي. لأكثر من سبب، أولها أنه اشتغل معه في حكومة التناوب، وثانيا لأنه كان أول من كرمه بحفل الشاي في بيته عندما أعفاه الملك من منصبه. رغم الاعتراض الشديد لضحايا سنوات الرصاص وعلى رأسهم الراحل إدريس بنزكري الذي ستبقى صورته وهو واقف أمام بيت الوزير الأول محتجا بتلك اللائحة على صدره والتي كتب عليها فوق صورة اليوسفي «المهزلة» ماثلة في الأذهان إلى الأبد.

لكن لسبب معروف لا أحد من أقطاب اليسار ولا اليمين الذين كانوا يعرفون الطريق إلى دار البصري في طريق زعير أكثر مما يعرفون الطريق إلى بيوتهم، حضر جنازته. بل فضلوا جميعهم نشر بلاغ مقتضب صادر عن وكالة الأنباء الرسمية في جرائدهم الحزبية، والانشغال بالحملة الانتخابية. فهذه الجنازة جاءت في الوقت غير المناسب تماما، ومن الأفضل للجميع التصرف وكأن الأمر لا يعنيهم مطلقا. والحال أن جنازة البصري مناسبة حقيقية لطرح بعض الأسئلة المهمة حول السلطة ورجالها وأوهامها ومخاطرها.

يحلو لبعض السياسيين والصحافيين الحزبيين أن يطلقوا النار دائما على سيارات الإسعاف، وسيارة الإسعاف التي نقلت البصري من المطار إلى بيته واحدة من هذه السيارات التي تعرضت لإطلاق النار. ومعظم هؤلاء القناصة كانوا لا يستطيعون تصويب أقلامهم نحو البصري عندما كان يصنع المطر والشمس في سماء السياسة المغربية. وهم الآن يحاولون أن يجعلوا من البصري وحده المسؤول الأول والأخير عن ثلاثين سنة من الخيبات والخسارات والمواعيد الخاطئة مع التاريخ التي عاشها المغرب.

ولعل أحسن شرح سمعته للفترة التي قضاها البصري في الحكم هي تلك الحكاية التي سمعتها من فم أحد سائقي سيارات الأجرة، وتقول الحكاية إن شركة أمريكية لقياس أخطاء الزعماء والملوك حاولت أن تعرف حجم أخطاء ثلاثة زعماء في العالم، وهم الرئيس الفرنسي الراحل ميتران، والرئيس الأمريكي الراحل ريغان، والملك الراحل الحسن الثاني. ولقياس حجم الأخطاء فإن الشركة تعمد إلى إدخال الزعيم في صهريج وتلاحظ مستوى المياه. وفي حالة الرئيس الفرنسي فقد وصل مستوى المياه إلى الركبة، أما في حالة الرئيس الأمريكي فالمياه وصل مستواها إلى العنق وكاد يغرقه، فأخطاء ريغان كانت كثيرة بلا شك. وعندما وصل دور الحسن الثاني لكي يدخل في الصهريح لاحظوا باندهاش أن المياه لم تتجاوز كعب حذائه.

فاستغربوا كيف أن الملك الذي ظلوا يسمعون عن معتقلاته السرية وإطلاق جيشه للنار على المتظاهرين في الشوارع من أجل الخبز، لم تتجاوز أخطاؤه كعب حذائه. وبعد فحص دقيق سيكتشفون سبب عدم تجاوز مستوى المياه لكعب حذاء الحسن الثاني، فقد كان يحمله إدريس البصري فوق كتفيه، وهذا الأخير كان غارقا في المياه حتى الأذنين.

إن الذين يريدون إقناعنا بأن إدريس البصري هو الذي عرقل وحده مسيرة المغرب نحو التقدم والديمقراطية، إنما يريدون منا أن نقتنع بأن المياه في الصهريح لم تتجاوز حذاء الحسن الثاني لأن هذا الأخير كان بلا أخطاء.

إدريس البصري لم يكن سوى تلك الفوطة التي كان نظام الحسن الثاني يمسح فيها السكين. ولذلك فإذا كان هناك من نقد يجب أن يوجه فللنظام الذي أنتج إدريس البصري وأمثاله. ويعلم الله كم هم ورثته موجودون داخل كل الأجهزة، يطبقون بالحرف ما جاء في كتابه «رجل السلطة» الذي ألفه عندما كان يعطي دروسا في الجامعة، والتي كان في الحقيقة يأتي إليها ليختار الطلبة الذين سيأتي بهم إلى حظيرة النظام لكي يتربوا فيها، ومنهم طالب اسمه محمد معتصم أتى به ذات يوم إلى الرباط فأصبح مستشارا ملكيا.

لقد كتب إدريس البصري عن رجل السلطة كما يفهمه، ونسي أن يضيف فصلا في كتابه يتحدث فيه عن موت رجل السلطة. فهو كغيره من الجبابرة كان يتصور أنه لن يموت أبدا، وأن الحياة من دونه ستختل، لا محالة. إن الخطأ الذي يقترفه أغلبية رجال السلطة، وهنا نتحدث عن السلطة الحقيقية وليس سلطة الوهم التي تسلمها عبد الرحمن اليوسفي، هو أنهم ينسون رجلا مهما يجلس في الركن يدون كل شيء اسمه التاريخ. والتاريخ هو الذي يحكم على الجميع، وينصف الذين اغتصبت حقوقهم، ويعاقب الطغاة الذين يعتقدون أنهم سيظلون أحياء إلى الأبد.

ورجل السلطة غالبا ما ينسى هذا الرجل القابع في الركن والآخذ بصمت في تدوين شريط الأحداث بدقة متناهية.
لأن رجل السلطة يكون مأخوذا بجبروته، يترنح بفعل تأثير السلطة الذي يشبه تأثير النبيذ. وعندما يسكر رجل السلطة بنبيذ سلطته يحدث أن يعربد.

أغلب رجال السلطة في نظام الحسن الثاني أسكرتهم السلطة، واعتقدوا أنهم خالدون في مناصبهم. إلى أن مات الحسن الثاني وتزعزعت أركان المذبح الذي جرت تحته سيول من الدماء. آلاف الشهداء الذين ماتوا في الشوارع، آلاف المعتقلين ومجهولي المصير، مقابر سرية ظهرت فجأة وأخرى علنية كان يعلم بها الجميع. جاء الذين ظلوا أحياء إلى التلفزيون لكي يبكوا قليلا أبناءهم. مدوا أيديهم إلى جيوبنا وأعطوهم مقابلا ماليا لكرامتهم المهدورة. منهم من أخذ ومنهم من رفض.

واليوم يرى الجميع كيف وصل صندوق من باريس يحمل جثمان رجل كان بمثابة الغمد الذي يرتاح فيه سيف النظام. لقد كان البصري يد الحسن الثاني التي يبطش بها. وعندما تعبت اليد من البطش استعملها لمصافحة أعداء الأمس ودعوتهم إلى الجلوس حول نفس الطاولة الحكومية. وقبل الجميع الجلوس وصافحوا بعضهم البعض أمام أنظار الشعب. وعندما قرر الملك الشاب أن يتخلى عن منديل والده الملطخ بالدماء استدعاه الوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي، وصنع من أجله الشاي. فجاء رفاقه السابقون وصاحوا أمام بيته يا للمهزلة. بعد سنوات سيدخل أغلب هؤلاء اليساريين إلى مؤسسات رسمية وسيصنعون كل ما في وسعهم لجعل الجميع ينسى وقفتهم الغاضبة تلك من تكريم البصري بكأس شاي.

والشعب في كل هذه الحكاية، ما هي حدود مسؤوليته في ثلاثة عقود من ضياع الوقت في صراعات وتناحر بلا رحمة بين نظام مستبد يريد أن يحكم بمفرده بقبضة من حديد وبين معارضة حالمة ومتصلبة معزولة عن واقع الشعب تريد هي أيضا أن تحكم بالوكالة نيابة عن معسكرات أوربا الشرقية البعيدة بآلاف الكيلومترات عن واقع المغرب والمغاربة.

مسؤوليته ثابتة أيضا، بل إنه يتحمل النصيب الأكبر من هذه المسؤولية. لأنه سمح لرجل السلطة بأن يرقي نفسه إلى مصاف أنصاف الآلهة. السلطة عندما لا تجد من يكبحها ويلجمها ويرسم لها حدودها فإنها تتحول إلى آلة هوجاء تطحن كل ما تجده في طريقها.

وهذا ما حدث في مغرب الحسن الثاني بالضبط. لقد تحولت السلطة ورجالها إلى وحش كاسر يستعمل الخوف والرعب للحفاظ على النظام. ولعل المغاربة الذين عاشوا فترة حكم الحسن الثاني والبصري لا زالوا يشعرون بأنهم معطوبون نفسيا بسبب هذه الفترة العصيبة من حياتهم. شيء ما تم تدميره في داخل المغاربة، ولكي يتعافوا منه يحتاجون إلى جيل أو جيلين على الأقل.

إذن ليست هناك قراءة واحدة لموت البصري، بل هناك قراءات متعددة. هناك قراءة الذين كانوا يأكلون من يده، وعندما جرد من سلطته أصبحوا يعضون هذه اليد ويشتمونها. وهذا النوع من القراءة يحركه الإحساس بالذنب أكثر من أي شيء آخر. ثم هناك قراءة أعدائه الذين تحولوا فيما بعد إلى أصدقائه، وهؤلاء اختاروا الصمت، لأن الصمت هو أبلغ ما يعبر عن حيرتهم. وهناك القراءة المحايدة التي سيتكفل بها التاريخ.

لذلك فليس هناك ضحايا بالمعنى الموضوعي للتاريخ، بل هناك مسؤولون عن مأساة ما وقعت في بلد اسمه المغرب. مأساة شارك فيها الشعب بسماحه لرجل السلطة بتقديس نفسه، وشاركت فيها الطبقة السياسية بالكثير من الأوهام والقليل جدا من الواقعية السياسية، وشارك فيها النظام بتقديمه لمصلحته الخاصة في البقاء على مصلحة البلاد في التقدم.
هذه ببساطة شديدة القراءة التي خرجت بها وأنا أرى صندوق إدريس البصري ينزل إلى القبر، وأنا أستحضر الآية الكريمة التي يخاطب فيها تعالي نبيه الكريم «إنك ميت وإنهم ميتون». وكنت أتمنى أن يكون جميع رجال السلطة حاضرين لكي يروا جيدا المكان الذي ينتظرنا جميعا والذي سننزل إليه مجردين من النياشين والأوسمة والتيجان و الألقاب والسلط. وحدها أعمالنا سترافقنا إلى الحفر

ليست هناك تعليقات: