2007-09-30

العومان فالبانيو

في كل الدول الديمقراطية يتوجه الحزب الذي لم يستطع إحراز الأغلبية في البرلمان إلى كرسي المعارضة. والمعارضة كما هو معروف في أدبيات الفكر السياسي هي أداة لمراقبة أداء الأغلبية الحاكمة في البرلمان. ولم نسمع قط في أي مكان من العالم الديمقراطي أن حزبا معينا فكر في عدم المشاركة في الحكومة وفضل العودة إلى المعارضة لكي يسترجع بريقه القديم الذي شحب بسبب كثرة استعمال «مساميره» في دواليب الحكومة. وكأن المعارضة أصبحت هي علبة السيراج الذي يحكه كل حزب على وجهه كلما فقد بريقه وبهت لونه. وعندما يضربون الشيتة جيدا في المعارضة ويلمعون صورتهم التي علاها الصدأ، سيرجعون للانتخابات أكثر لمعانا من «مسيو بروبر»، وهكذا سيحصلون على ثقة المواطنين من جديد.

هذا بالضبط ما يفكر فيه الاتحاد الاشتراكي هذه الأيام. وهناك أصوات من داخل الحزب تدعوه صراحة إلى أن يعود إلى كرسي المعارضة لإعادة بناء نفسه و«استرجاع إشعاعه». يعني عليه أن يعود إلى كراسي المعارضة في البرلمان ويخبط الطبالي على وزراء الحكومة، كما كان يصنع فتح الله والعلو أيام المعارضة المشهورة مع وزير المالية آنذاك، مطالبا إياه بتخفيض الضرائب على الشعب المغلوب، وعندما أخذ والعلو مكان وزير المالية فرض الضريبة حتى على بوربوارات نادلي المقاهي.

والحقيقة أن هذا الفهم السياسي للمعارضة هو أغرب فهم سمعته في حياتي. فالمعارضة لا تصلح في نظر هؤلاء «المعارضين السابقين» سوى لاسترجاع الإشعاع الضائع، واستعادة البريق المفقود. وكأن هؤلاء الرافعين للواء العودة إلى زمن خبيط الطبالي وتخراج العينين والكشاكش تحت قبة البرلمان لم يسمعوا بتلك الحكمة المغربية العميقة التي تقول «وجه الشارفة ما يخفى ولو تحكو بالحلفة».

وعندما نتأمل الرسالة التي يحاول بعثها هؤلاء المعارضون السابقون للملك عبر التلويح بإمكانية العودة إلى كرسي المعارضة، بحكم أن الملك هو المخول دستوريا باختيار الوزير الأول، نكتشف بأنهم في الحقيقة يخفون وراءها رغبة متحرقة للبقاء في الحكومة لخمس سنوات إضافية. وهم يذهبون في سبيل هذه الرغبة إلى حدود التهديد.

ولكي نفهم فحوى هذه الرسائل المبطنة دعونا نقرأ ما بين السطور في المقال الذي كتبه عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي عبد الرفيع الجواهري، الذي بالمناسبة فشل في المحافظة على كرسيه في دائرة المنارة بمراكش، والذي يتحدث فيه عن سحب البساط من تحت أقدام عبد الرحمن اليوسفي بعد انتخابات 2002. ويقول الجواهري «عين الملك محمد السادس السيد إدريس جطو، القادم من عالم رجال الأعمال، في الوقت الذي كان ينتظر فيه رجل ورع كعبد الرحمن اليوسفي الذي أحرز حزبه الأغلبية في انتخابات 2002، ينتظر مجازاته على النجاح الذي حققه كوزير أول على رأس تلك الحكومة في انتقال العرش من الملك الراحل الحسن الثاني إلى خلفه الملك محمد السادس، بطريقة سلسة لا يمكن أن ينكرها أحد».

يعني أن الاتحاد الاشتراكي هو الذي أنجح انتقال العرش، بشكل سلس وبدون مشاكل، من الملك الراحل إلى ولده. وعوض أن يكون جزاؤه الوزارة الأولى فإن الملك قرر أن يجازي اليوسفي بكلمة شكر مقتضبة وأن يرسله إلى بيته ليستريح ويضع مكانه رجلا قادما من عالم المال والأعمال.

ومع ذلك امتص الحزب هذه الصفعة السياسية التي سماها في بلاغه الشهير «الخروج عن المنهجية الديمقراطية».
ولعل ما يثير الاستغراب في مقال عبد الرفيع الجواهري هو قوله بأن هذا الخروج عن المنهجية الديمقراطية من طرف القصر، لأن ضمير المخاطب يعود عليه بالتأكيد، لم يستغلها الحزب لكي يقوم برد فعل سياسي، ولو قرر القيام بذلك، يضيف كاتب المقال، «لكان قد حشد من ورائه جل المغاربة».
حشد جل المغاربة ضد من يا ترى، ضد قرار الملك طبعا.

عندما قلت في عمود سابق بأن الاتحاد الاشتراكي يجيد عادة التقلاز من تحت الجلابة فإنني لم أكن مبالغا. هناك أشياء يريد قادة الحزب إيصالها إلى الملك مباشرة، لكنهم دائما يختارون لغة غامضة يختلط فيها الوعد بالوعيد. ولعل افتقار الحزب للجرأة السياسية في التعبير عن مواقفه ومطالبه هي التي أوصلته إلى الحالة التي يوجد عليها اليوم. أيام الراحل عبد الرحيم بوعبيد كانت لغة الحزب واضحة ولا مواربة فيها. عندما كان عبد الرحيم بوعبيد يقرر قول لا للملك فإنه كان يقولها له بالعلالي. وقد قالها للحسن الثاني في عز جبروته وأدى ثمنها من حريته عندما صوت ضد الاستفتاء وتبنى الآية التي تقول «السجن أحب إلي مما تدعونني إليه»، وذهب إلى سجن ميسور مرفوع الرأس. ومحمد اليازغي كان إلى جانبه آنذاك في المعتقل ويعرف التفاصيل.

آنذاك كان الحزب يقول لا ويعرف أن الشعب يسند ظهره. أما اليوم فنتائج الحزب في الانتخابات أظهرت أن الشعب أعطى للحزب ظهره بعد أن أعطاه في السابق صوته ولم يحسن الحزب استعماله.

لذلك فسؤال «المنهجية الديمقراطية» الذي يطرحه الحزب اليوم مجددا، لديه سبب واحد، وهو التفاوض عن طريق الكتلة للبقاء في الحكومة خمس سنوات أخرى والحصول على حقيبة الوزير الأول من داخل أحزاب الكتلة.
وقد فضل الحزب هذه المرة أن يطبق سياسة «سبق العصا قبل الغنم» حتى لا يفاجئه الاختيار الملكي كما وقع في انتخابات 2002.

وشخصيا أرى أنه ليست هناك لا مفاجأة ولا سيدي زكري. فالوزير الأول رسم ملامح الحكومة المقبلة قبل ستة أشهر خلال زيارته لباريس عندما قال أمام رجال المال والأعمال الفرنسيين بأن لا يخافوا من وصول العدالة والتنمية للحكم، لأن هناك احتمالا كبيرا لعودة الأغلبية الحكومية نفسها بعد الانتخابات.

فسيناريو الحكومة المقبلة كان مكتوبا سلفا، ولذلك وضعت وزارة الداخلية قانونا انتخابيا لا يسمح لأي حزب بمفرده أن ينال الأغلبية في البرلمان ويحكم لوحده.

سترون نفس الوجوه تعود لتتقاسم مقاعد المجالس الحكومية. سترونهم يتفاوضون بينهم حول الحقائب ويعطون الانطباع بأن الحكومة التي سيعلنون عنها هي حكومة جديدة. سيستمرون لخمس سنوات مقبلة يتبادلون الأدوار. مع العلم أن الغالبية العظمى للمغاربة لم يختاروا هذه الحكومة التي ستمثلهم.

اليوم قرأت خبرا في إحدى الجرائد يقول بأن الحكومة قررت أن تمنح رخص عمل لحوالي 2100 مغربي، فقلت إن وعود المرشحين بدأت تتحقق على أرض الواقع حتى قبل أن تتشكل الحكومة. لكنني عندما أنهيت المقال وجدت أن الحكومة التي تقترح كل هذه المناصب من الشغل على المغاربة ليست حكومة المغرب ولكن حكومة الأندلس بإسبانيا.
مع أن حكومة الأندلس لم ينتخبها المغاربة ولم يصوتوا على أي وزير فيها، إلا أنها تهز الهم لنا أكثر من حكومتنا التي ندفع رواتب وزرائها من ضرائبنا.

لقد فرعو لنا رؤوسنا بضرورة استغلال هذه الفرصة التاريخية لممارسة واجبنا في التصويت، والذي تتبرع به علينا الدولة مرة واحدة فقط كل خمس سنوات. لكن الدولة في غمرة مطالبتنا بالقيام بواجبنا تنسى أنها هي الأخرى لم تقم بواجبها الوطني معنا في أحيان كثيرة.

الدولة لم تقم بواجب ضمان تعليم عمومي فعال وقوي لأبناء الشعب، وتركتهم اليوم بين أيدي تجار المدارس الخصوصية، وبين أيدي البعثات التعليمية الأجنبية.

الدولة لم تقم بواجب ضمان نظام رعاية صحي عمومي للمواطنين، وسكتت عندما كتبت كل الصحف عن المواطنين الذين يموتون أمام أبواب المستشفيات العمومية بسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليف الدخول إلى المستشفى، وتخلت عن متوسطي الدخل منهم لصالح جزاري المصحات الخاصة.

الدولة لم تقم بواجب ضمان عدالة صارمة ومستقلة للمواطنين. وبالمقابل ضمنت للمحظوظين من أبناء الوزراء السابقين إفلاتا محترما من بين أيديها. ويكفي أن نتأمل الحكم الذي أصدرته المحكمة ضد مريم بنجلون في قضية المخدرات، خمسة وعشرون يوما نافذة. يحيا العدل. لو كان اسم المعتقلة هو مريم بوخرواعة لحصلت على عشر سنوات سجنا بحال اللعب.

لذلك فقبل أن تعطينا الدولة اليوم الدروس المستفيضة حول الواجب الوطني، فيجب أن تبدأ بنفسها أولا، وتتساءل بكل صدق هل قامت بواجبها الوطني كدولة أمام المغاربة.

لقد كانت كل وسائل الإعلام يوم الاقتراع منشغلة بتتبع نسبة المشاركة وألوان الأحزاب الفائزة والساقطة. ونسي الجميع خبرا مريعا كانت تبثه القنوات الإسبانية في ساعة الذروة مرفقا بصور لجثث ثمانية شبان مغاربة تطفو بالقرب من شاطئ جزيرة من جزر الكناري. ليس كون الشبان المغاربة الثمانية قد ماتوا غرقا هو المريع، ولكن كونهم غرقوا لأنهم اعتقدوا أنهم وصلوا إلى اليابسة فنزلوا إلى الماء في الظلام وغرقوا على مبعدة عشرات الأمتار فقط من الشاطئ.

أحيانا يعتقد المرء أنه وصل إلى جنة الديمقراطية بمجرد ما يلمح أضواءها اللامعة، لكن عندما ينزل لكي يبلغها يجد أن المياه تحته كانت أعمق مما تصور.

لذلك فمن الأحسن دائما قبل الإبحار نحو الديمقراطية تعلم السباحة. واللي موالف يعوم فالبانيو يعوم فالبانيو.

ليست هناك تعليقات: