2007-09-30

عباس الفرناس

قال وزير الدولة المنتدب سابقا، والبرلماني الرحماني حاليا فؤاد عالي الهمة، عندما جاء إلى التلفزيون أن مشكلة هذه البلاد هي أن هناك أشخاصا يرون المغرب بنظارات الماضي. الآن مع تعيين عباس الفاسي وزيرا أول لم تعد النظارات وحدها هي التي تعود إلى الماضي بل حتى صاحب النظارات بنفسه جاؤو به من الماضي.

ومنذ أن صعد عباس الفاسي فوق أكتاف بعض المناضلين الاستقلاليين فرحا بفوزه بدائرة العرائش، وصدرت صوره في الصحف وعلى فمه ابتسامة واسعة ورجلاه النحيلتان تتدليان فوق كتفي حامله، فهمت أنه يرسل إشارة سياسية إلى الملك يقول له فيها أنه مولا نوبة، وأن وقته قد حان ليجلس خمس سنوات فوق كرسي الوزير الأول. فليس هناك أي وزير مرشح فاز في الانتخابات وحمله أنصاره على الأكتاف. مع أن فوزه الصغير تم الطعن فيه مباشرة بعد صدور النتائج. ويبقى احتمال إلغاء فوز عباس الفاسي بدائرة العرائش قائما إذا ما تم قبول الطعن. وهكذا سنجد أنفسنا أمام حكومة يرأسها وزير أول مهدد بفقدان كرسيه البرلماني.

وخلف الابتسامة البريئة التي كان يحرص عباس على رسمها على وجهه خلال الحملة الانتخابية وبعدها، كان يخفي شراسة غير معهودة في المطالبة بجطه من كعكة الوزارة الأولى. فقد انتظر عباس دوره في حكومة التناوب الأولى ولم يكن حظه منها سوى وزارة التشغيل التي خرج منها بفضيحة النجاة التي لازال عشرات الآلاف من ضحاياها يطاردونه. وانتظر دوره في حكومة جطو وكان نصيبه منها حقيبة فارغة بدرجة وزير دولة متفرغ لاستقبال ضيوف المملكة بالشاي والحلوى، والنيابة عن الملك في حضور أعياد وطنية لدول لا أحد يعرف مكانها فوق الخريطة.

وبعد كل هذا الجلوس الطويل في غرفة الانتظار، قرر عباس أن يطلب يد كرسي الوزارة الأولى بعد أن يقصي كل عشاق الكرسي الذين كانوا ينافسونه من داخل حزبه، أولئك الذين يتفاخرون وراء ظهره بشبابهم ونسبهم العائلي داخل الحزب و شواهدهم التي حصلوا عليها في الخارج. فقادة حزب الاستقلال دافعوا كثيرا عن تعريب التعليم، وعندما وصلوا إلى الحكومة ذات سبعينيات بعيدة طبقوا قرار التعريب، وفي الوقت ذاته ظلوا حريصين على إرسال أبنائهم للدراسة في الخارج، ومنهم عادل الدويري وكريم غلاب، واللذين راج خبر تولي أحدهما لحقيبة الوزير الأول طيلة الأيام الأخيرة.

وفي الوقت الذي ظل فيه الحزب يعطي عن نفسه صورة البيت السياسي المنظم والهادئ، كانت السكاكين الطويلة تشهر في السر لكي تقطع الطريق على كل من تسول له نفسه مزاحمة عباس الفاسي على يد معشوقته. وقد ذهب أنصار عباس إلى حد التشكيك في مغربية عادل الدويري وكريم غلاب، بحكم أن الاثنين يحملان جنسيتين أجنبيتين. أما بالنسبة لتوفيق حجيرة فقد كان الأمر أسهل نسبيا، فهو على الأقل ابن الحزب ولم يسقط بالمظلات مثلما حدث مع غلاب الذي فرضه جطو على حزب الاستقلال، والدويري الذي راجت شائعات داخل الحزب بأن مارغاريت تيتويلر سفيرة أمريكا السابقة في المغرب هي التي فرضته على جطو بحكم المصالح الأمريكية التي تتطلب وجود وزير كعادل الدويري حاملا لحقيبة السياحة. ولم تكتف الألسنة الطويلة في حزب الاستقلال باتهام الدويري بالقرب من الأمريكيين بل روجت أيضا لقربه من الممثل الإنجليزي «ميستر بين»، خصوصا في ملامح الوجه، حتى أن بينهم من أصبح يطلق عليه «منيستر بين» في جلساته الساهرة تندرا وسخرية.

وداخل حزب الاستقلال هناك منظفون مهمتهم حك وجه وسيرة المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة بمساحيق التنظيف القوية المفعول. إلى درجة أن بقعة كبيرة وسوداء على قميص عباس مثل فضيحة النجاة، التي سبق له أن قال أنه يتحمل فيها المسؤولية مع اليوسفي ووزير الداخلية الساهل، يمكن أن تزول بسهولة.

ولذلك فإن آلة تصبين الحزب روجت بأن عباس الفاسي بريء براءة الذئب من دم يوسف، ففضيحة النجاة دبرتها المخابرات مع أطراف أخرى لتشويه سمعة حزب الاستقلال. مع أن حزب الاستقلال خرج رابحا في الانتخابات من وراء فضيحة النجاة، فقد نجى عباس الفاسي بحقيبته الفارغة فيما غرق ثلاثون ألف مغربي في كابوس لازالت تداعياته قائمة إلى الآن.

ومع ذلك، فهذا الرجل الذي قضى خمس سنوات وزيرا بلا شغل ولا مشغلة، وهذا الرجل الذي يحمل فوق كتفيه مأساة ثلاثين ألف مغربي، منهم أربعة انتحروا بسبب النجاة، هذا الرجل هو الذي سيكون وزيرا يدير شؤون ثلاثين مليون مغربي لخمس سنوات.
ولكم أن تتخيلوا كيف سيستطيع وزير فشل في حل مشكل ثلاثين ألف مغربي أن يحل مشاكل ثلاثين مليون مغربي.

وحتى لا نكون متحاملين على وزيرنا الأول عباس، فمن المفيد أن نذكر ببعض مناقب الرجل. خصوصا في الفترة التي كان فيها سفيرا للمغرب بباريس بداية التسعينات. فقد صادف وجود عباس على رأس السفارة الباريسية صدور كتاب «صديقنا الملك» لجيل بيرو. وبمجرد صدور الكتاب ثارت ثائرة الحسن الثاني وكلف البصري بالبحث عن وسيلة لمنع وصول الكتاب إلى القراء. ولو كان الكتاب قد صدر في المغرب لكان الأمر سهلا بالنسبة للبصري، ولكان بنى تازمامارت جديدة خصيصا لمدير دار النشر وعمال المطبعة الذين صففوا الكتاب وطبعوه وكل من حمله أو وزعه أو اشتراه. لكن المشكلة أن الكتاب صدر في فرنسا، حيث لا يستطيع وزير الداخلية أن يمنع صدور الكتب. فما كان من البصري سوى أن كلف عباس الفاسي، سفير جلالة الملك، باقتناء كل نسخ «صديقنا الملك» التي يصادفها في المكتبات.

وبالنسبة لدار النشر التي أصدرت الكتاب فالأمر كان كما لو أنك ضربتي الكلب بشفنجة، فوجدوها من الجنة والناس وراحوا يعيدون طبع الكتاب بكميات وافرة. والمطبعة تطبع والسفارة تشتري، إلى أن فهموا في الرباط أن هذا الحل غير مفيد، لأنهم كانوا كمن يبول في الرمل.
وهكذا تفتقت عبقرية البصري عن حل جهنمي يلزم مدراء الشركات والشخصيات الوازنة وحتى بعض المواطنين العاديين بالتوجه إلى مقرات البريد وإرسال تلغراف غاضب لدار النشر يحتجون فيه على نشرها لهذا الكتاب المسيء لملك المغرب.

لابد أنكم كلكم قرأتم قصة عباس بن فرناس الذي كان أول إنسان طائر، وكيف أن أضلاعه تحطمت على الأرض عندما حاول الطيران من أعلى ربوة. فقد فكر عباس بن فرناس في الأجنحة لكنه نسي أن يفكر في القزيبة.

يبدو أن عباس الفاسي فكر في الوزارة الأولى ونسي أنه يجر وراءه فضيحة كبيرة لن تفارقه أبدا مهما حاول التملص منها وتنظيف قميصه منها بمساحيق ومنظفات الحزب. عباس شاف الربيع ما شاف الحافة. وأول ملف يجب أن يضعه فوق طاولته ويفكر له في حل هو ملف ثلاثين ألف مغربي ضحك عليهم عندما كان وزيرا للشغل. أما ملف ثلاثين مليون مغربي فالله يتولى أمرهم.

ليست هناك تعليقات: