والحقيقة أن السادة النواب جاؤوا كلهم في الموعد، وأخذوا أماكنهم في البرلمان وظلوا يقطعون كلمة الرئيس الفرنسي، مثل تلاميذ مرتبكين في أول حصة مدرسية، بالتصفيقات. ولأن السادة البرلمانيين يوجد بينهم قوم ينطبق عليهم ما جاء في كتابه العزيز حينما قال «ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني»، فقد وجد هؤلاء البرلمانيون الأميون صعوبة كبيرة في التقاط تلك القفشات التي كان يلقيها ساركوزي ويضحك لها زملاؤهم القاريين، فكان بعضهم يميل نحو جاره ويسأله ذلك السؤال الذي كنا نسأله في أول درس للغة الإنجليزية للتلاميذ الذين كرروا السنة «آش كال، آش كال».
لقد كان منظر البرلمانيين المغاربة وهم يستمعون إلى ساركوزي وكأن على رؤوسهم الطير، يشبه كثيرا منظر تلاميذ ينتظرون أن يسلمهم معلمهم شهادة حسن السيرة والسلوك. فقد أسمعهم الرئيس الفرنسي كل كلمات الغزل الموجودة في قاموس «لوبوتي روبير»، وأشبعهم ثناء على ديمقراطيتهم الفريدة. كأن الذي يسمع ساركوزي يتحدث عن المغرب أمام البرلمانيين يعتقد أنه يتحدث عن الدانمارك أو السويد. والحال أن البرلمان الذي خطب أمامه ساركوزي لم ينتخبه سوى أقل من عشرين بالمائة من المغاربة الذين بلغوا سن التصويت. بمعنى أنه برلمان لا يمثل المغاربة الذين يتحدث عنهم ساركوزي بحماس تاجر محنك يبحث لكي يرطبك لكي يبيع لك ما جاء ليبيعه.
وكما يقول المثل المغربي «الله يجعل الغفلة ما بين البايع والشاري»، وساركوزي عرف كيف يستغل هذه الغفلة المغربية جيدا، بحيث في زيارة واحدة وقع لرجال أعماله الثلاثمائة الذين جاء محفوفا بهم صفقات بقيمة ثلاثة ملايير أورو. وفي مقابل هذه الصفقات تسلم المغرب صدقة من ساركوزي قدرها 350 مليون أورو كمساعدة من حكومة بلاده لبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
والواقع أن الشعب الفرنسي الذي يدفع ضرائبه لحكومة ساركوزي يجب أن يعرف أن جزءا من أمواله ذهب إلى خزينة الحكومة المغربية كمساعدات من أجل تليين مواقف المغرب وجعله يقبل بعقد صفقات تجارية مع رجال أعمال رأسماليين وأصحاب شركات خاصة تحقق الأرباح أولا للمساهمين فيها. بمعنى أن دافع الضرائب الفرنسي يؤدي من ماله الخاص لكي يستفيد كبار رجال الأعمال من الصفقات لحسابهم الخاص.
والشيء نفسه وقع لدافع الضرائب الأمريكي الذي يجهل أن مبلغ 700 مليون دولار الذي تسلمه المغرب من مؤسسة «ملينيوم تشالينج» التي ترأس مجلس إدارتها كونداليسا رايس، كان مقابل قبول المغرب اقتناء طائرات «الإف 16» الأمريكية بمبلغ قدره مليار ونصف مليار أورو. وإدارة بوش تستعمل هنا أموال دافعي الضرائب الأمريكيين من أجل ترويج منتوجات صانعي السلاح الأثرياء الذين يتحكمون اليوم في خريطة الحروب والنزاعات العابرة للقارات.
وهكذا تعطي فرنسا وأمريكا بيد صدقات تافهة للمغرب وتأخذ باليد الأخرى أضعاف ما تصدقت به على شكل صفقات بالملايير. ومع ذلك يجد ساركوزي من يصفق له طويلا في البرلمان عندما يقول بابتسامته المنافقة «يعيش المغرب»، مرددا تلك الأسطوانة المشروخة حول المغرب الديمقراطي الذي يتغير ويعطي النموذج للآخرين. المغرب الذي تصالح مع الماضي كما لم يفعل ذلك بلد آخر مثله. المغرب الذي أنصف معتقليه السابقين. وكأننا نحن الذين استمعنا إليه لا نعيش في هذا المغرب ولا نعرف خروب بلادنا أحسن منه ومن غيره. وهكذا انطبق على ساركوزي المثل المغربي الذي يقول «أجي أمي نوريك دار خوالي».
إن ضحايا سنوات الرصاص الذين يتحدث ساركوزي عن إنصاف المغرب لهم، لا زال نصفهم تحت التراب في مقابر جماعية لا يعرف أمكنتها إلا الله والراسخون في الجيش. ومنهم من أصدر مواطنه القاضي الفرنسي راماييل مذكرة اعتقال في حقهم قبل يومين، وسيكون مفيدا لوزيرة العدل رشيدة داتي التي أتت برفقة ساركوزي أن تصحب معها الجنرال بنسليمان والقادري وبقية المبحوث عنهم في نفس الطائرة التي أتت بها، حتى توفر على القاضي راماييل مشقة انتظار أحدهم في مطار شارل ديغول عندما يأتون لتلقي العلاج في باريس كما هي عادتهم.
وعلى وزير العدل عبد الواحد الراضي أن يتعلم الدرس من ساركوزي الذي عندما سألوه عن مذكرة التوقيف التي أصدرها القاضي بحق هؤلاء المبحوث عنهم، فقال لهم أن القضاء مستقل ولا دخل له في هذه القضية. وهذا درس أيضا للناطق الرسمي باسم الحكومة «اللي باقي فريشك» خالد الناصري الذي لم يجد من تعليق يقوله بهذه المناسبة سوى استغرابه من كون القاضي راماييل يمارس السياسة عوض القضاء.
ولعل سعادة الناطق الرسمي ووزير الاتصال، القادم من حزب بدأ شيوعيا واكتوى بلهيب سنوات الجمر، يجهل أن تصريحه فيه دفاع صريح عن الجنرالات والأشخاص الذين صدرت في حقهم مذكرة الاعتقال.
وهو بذلك يضع نفسه والحكومة التي ينطق باسمها في موقع المتدخل في سير قضية معروضة على القضاء.
لقد كان على ساركوزي أن يوفر غزله المفرط وتنقيطه المبالغ فيه للمغرب على مستوى الحريات والتنمية. لأن المغاربة ليسوا أطفالا يرضعون أصابعهم حتى يدغدغ الرئيس الفرنسي وطنيتهم. وإذا كان البرلمانيون قد نافقوه بالتصفيق المفرط فلأن أغلبهم لا يمثل إلا نفسه، ولم يصوت عليهم سوى حفنة من المغاربة.
إذا كان الرئيس الفرنسي يحب المغاربة فعلا كما يدعي، فعليه أن يصدر تعليماته لبعض الموظفين العنصريين العاملين في بعض قنصلياته، والذين لازالوا يتعاملون مع المغاربة الذين يطلبون تأشيرات السفر إلى فرنسا بعقلية المعمرين. عليه أن يصدر تعليماته لشركة الطيران الفرنسية لكي تقلع عن عادة رش المسافرين المغاربة قبل الإقلاع من المغرب بذلك المبيد الغريب الذي تستعمله شركة الطيران الفرنسية ضد جراثيم وهمية تعشش في رؤوس المسافرين المغاربة وأمتعتهم، جراثيم لا تراها بالمناسبة سوى شركة الطيران الفرنسية من دون شركات طيران العالم بأسره.
عليه أيضا أن يفتح تحقيقا في حق تلك الشركة التي يوجد على رأسها مواطن يحمل الجنسية الفرنسية والتي تريد استغلال مياه عين قرية بنصميم، ضدا على مصالح السكان وحقهم الطبيعي في مياه قريتهم.
لقد أراد ساركوزي أن يرى في المغرب فقط أوراشه المفتوحة ومشاريعه وصفقاته المربحة وبرلمانييه السمينين، لكن من واجبنا كصحافيين أن نريه المغرب الآخر الذي لو رآه لألف فيه ديوانا من الرثاء مكان تلك القصيدة الغزلية التي ألقاها في البرلمان.
نعرف أن معالي الرئيس الفرنسي جاء ليلقي قصائد الغزل وليبيع طائراته وقطاراته ومفاعلاته النووية، وليس لديه الوقت للاستماع إلى المراثي. فيبدو أن المرثية التي أسمعته إياها زوجته في رسالة الطلاق قبل أن يأتي إلى المغرب تكفيه وزيادة
رشيد نيني