2007-10-25

بوتفتاف

ظل المواطن الأمريكي «مزس لانهام» على اقتناع بأنه الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يلوي قدميه ويديرها بزاوية قدرها 180 درجة ثم يمشي بها معكوسا من دون أن يشعر بالألم. إلى أن خرج له ابنه «تراي لانهام» من الجنب واستطاع أن ينافسه على هذه الموهبة، بل استطاع أن يتفوق عليه عندما أصبح يرتدي ملابسه بالمقلوب، كما فعل مؤخرا في برنامج المنشط الأمريكي الشهير «جاي لينو».

لكن المنشط التلفزيوني الأمريكي لم يكن يعرف أن هناك في المغرب من يستطيع تحدي الأب وابنه، بحيث يستطيع أن يقلب وجهه وليس فقط رجليه ويسير لخمس سنوات كاملة. ولو أن محمد اليازغي وزير الدولة بدون حقيبة، يترشح لبرنامج «جاي لينو» ويرفع التحدي أمام هذا الأب الأمريكي وابنه ويظهر لهما موهبته الخارقة التي بفضلها يستطيع أن يقلب وجهه ويضع رجلا في الحكومة ورجلا أخرى في المعارضة، ثم يسير بالمقلوب عكس ما تطلبه منه قواعد حزبه، لنجح في جعل كبريات المجلات العالمية تتهافت عليه لتجري معه مقابلات صحافية يشرح لهم فيها الوصفة السحرية التي يتعاطاها سرا لينجح في تحويل نفسه بهذه السرعة القياسية من زعيم سياسي إلى بهلوان.

والذي يقرأ البيان «التاريخي» الذي أصدره المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي قبل أمس، والذي يتحدث عن «القلق الشديد من المنحى الذي اتخذته الحياة السياسية في المغرب بعد تشكيل الحكومة»، يصاب حقيقة بالذهول، ويفهم بشكل أوضح الإحصائيات الأخيرة التي نشرتها وزارة الصحة والتي تتحدث عن وجود 300 ألف مغربي مصاب بالشيزوفرينيا، أي ذلك المرض الذي يجعل المصاب به يحمل في داخله شخصيتين متناقضتين. بمعنى آخر بنادم فيه جوج، واحد كايكول الرا ولاخر كايكول شا. كما يفهم بشكل أوضح إحصائيات المصابين بمرض بوتفتاف. وخصوصا بوتفتاف السياسي.

ولعل هذا المرض الخطير ينطبق بشكل كبير على المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي وكاتبه العام، الوزير بدون حقيبة. فبين ليلة وضحاها قرر المكتب السياسي أن يضع رجلا في الحكومة ورجلا في المعارضة وأن يسير بالمقلوب عكس ما هو متعارف عليه في أدبيات العمل الحكومي كما هو متعارف عليه في العالم. ولعل الذي كان يحرر بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي لم يكن يعرف أنه يقترف سابقة في العمل السياسي لم يسبقه إليها أحد من العالمين. فاليازغي يريد أن يأكل الغلة ويسب الملة، يريد الحقائب الوزارية في الحكومة ويريد معها منصب معارضة الحكومة. يريد أن يقبل بما قسمه له عباس وفي الوقت نفسه يريد أن يتعفر عليه. وهو بهذا التصرف المتناقض يشبه إلى حد كبير ذلك الغاضب الذي يتعفر على عشائه وفي الوقت نفسه يسوط عليه باش يطيب. وشخصيا أعتقد أنني فهمت ماذا يقصد المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي بخيار «المساندة النقدية» للحكومة الذي أعلنوا عنه في بيانهم التاريخي. فاليازغي اختار المساندة النقدية للحكومة نسبة على النقود وليس إلى النقد. وبالضبط النقود التي سيتلقاها هو وزملاؤه نهاية كل شهر.

أحيانا تأتي الدروس السياسية العميقة من الأحزاب الأقل حجما. ولعل اليازغي مدعو لتأمل القرار الشجاع الذي اتخذته نجية مالك، نائبة الأمين العام للحزب الاشتراكي، وكذا محمد الجلايدي عضو المكتب السياسي. فقد قررا تقديم استقالتهما من الحزب احتجاجا على اتخاذ كاتبه العام عبد المجيد بوزوبع، (زوج رجاء بوزوبع التي أخرجها أخوها محمد بوزوبع وزير العدل السابق من ورطة أرض الجزائريين مثلما تخرج الشعرة من العجين بملايير محترمة في جيبها)، قرار إلحاق نائبين فائزين باسم الحزب بفريق التقدم والاشتراكية، دون استشارة المجلس الوطني. المصيبة هي أن النائبين المهاجرين تمردا على قرار عبد المجيد بوزوبع وسقطا في حضن الاتحاد الاشتراكي عوض التقدم والاشتراكية.

ولعل الدرس الذي يستفاد من قرار الاستقالة الذي تقدم به كل من نجية مالك ومحمد الجلايدي هو أن السياسي يجب أن يكون منسجما مع نفسه وقناعاته. بمعنى أن اليازغي إذا انتابه اليوم كما يقول «قلق شديد من المنحى الذي اتخذته الحياة السياسية في المغرب بعد تشكيل حكومة عباس»، فأول شيء يجب أن يقوم به هو تقديم استقالته من الحكومة وإعادة حقيبته الفارغة إلى عباس والعودة إلى خندق المعارضة. لا أن يذرف دموع التماسيح على رداءة الحياة السياسية وتدهورها بسبب تدخل مستشاري الملك في تشكيل الحكومة (والذين بالمناسبة لم يملك بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي الجرأة الكافية لذكر أسمائهم) وفي الوقت نفسه يقبل اليازغي خمس حقائب وزارية ويتجرع أكبر إهانة في تاريخه السياسي ويقبل حقيبة فارغة وملغومة سياسيا، أخطر بكثير من الرسالة الملغومة التي انفجرت بين يديه خلال سنوات السبعينات وكلفته بعض أصابعه. فيبدو أن هذه الحقيبة الوزارية الملغومة لن تكلف اليازغي أصابعه هذه المرة فقط وإنما ستكلفه تاريخه السياسي عن آخره.

التقاليد السياسية اليسارية العريقة تقتضي أن يعبر اليازغي ومكتبه السياسي عن قلقهم الشديد من المنحى الذي اتخذته الحياة السياسية بطريقة أخرى غير البيانات الباردة. ولعل الطريقة المتعارف عليها عالميا للتعبير عن القلق الشديد هي تقديم الاستقالة والانسحاب بشرف من الحكومة. إذا كان مازال هناك مكان للشرف في القاموس السياسي لليازغي.

والواقع أن الانسحاب من حكومة عباس يبقى هو المخرج المشرف للاتحاد الاشتراكي، عوض الإصرار على وضع رجل في الحكومة ورجل في المعارضة. فقد أظهرت هذه الحكومة ارتباكا واضحا في عملها منذ يومها الأول. وكما يقول المثل «النهار المزيان باين من صباحو». فصحة هذه الحكومة ووزيرها الأول ليست على ما يرام. ونتمنى أن لا يصدر مجلس الإفتاء عندنا فتوى تأمر بجلد الصحافيين الذين يتحدثون عن صحة الوزير الأول، كما فعل الطنطاوي في مصر عندما أصدر فتوى بجلد الصحافيين الذين تحدثوا عن صحة حسني مبارك. الطنطاوي يريد أن يطبق الحدود على الصحافيين فقط دون غيرهم، ونحن نتمنى أن يكمل اجتهاده ويصدر فتوى أخرى يطالب من خلالها بقطع أيدي كل السارقين الذين يدورون في فلك الرئيس وينهبون المال العمومي في مصر.

والواقع أن قليلا من المسؤولين عندنا يستطيعون مجاراة إيقاع الرئيس الفرنسي، فالرجل يتحرك كما لو أنه خدام بالحجرة. فقد وضع في برنامجه لصباح يوم الثلاثاء إلقاء كلمة في البرلمان على الساعة الثامنة والنصف. وهكذا فلأول مرة يحضر النواب إلى البرلمان في هذا الوقت المبكر. وستكون فكرة جيدة لو أن المنصوري رئيس البرلمان يوقع اتفاقية تعاون مع ساركوزي يكون من بين بنودها حضور ساركوزي بين وقت وآخر لتنشيط البرلمان المغربي وإيقاظه مبكرا كما صنع بالأمس.

ولعل دروس زيارة ساركوزي لا تقف عند حد الفياق بكري، وإنما أيضا تمتد إلى دروس في الحياة الزوجية. فعند هؤلاء الفرنسيين عندما يصبح الزوج رئيسا للجمهورية تطلقه زوجته وتسمح فيه وفي مجده. أما عندنا فبمجرد ما يصبح الرجل عندنا نائبا في البرلمان أو وزيرا حتى يطلق زوجته ويغيرها بأخرى أصغر منها. وعندهم عندما يصبح الزوج وزيرا تقدم الزوجة استقالتها من وظيفتها الحساسة، كما وقع مع الصحافية «آن سانكلير» التي كانت تقدم نشرة الثامنة في القناة الفرنسية الأولى، عندما أصبح زوجها شتروسكان وزيرا للمالية. أما عندنا فبمجرد ما تسلمت ثريا جبران حقيبة الثقافة حتى ظهر زوجها إلى جانبها في كل الصور وهو يحمل عنها ملفات الوزارة.

دروس ساركوزي شملت حتى جانب الوطنية الحقيقية. فساركوزي الذي يقدموه لنا في الإعلام الرسمي والإعلام الفرانكوفوني المحلي كالمنقذ الذي جاء لكي ينتشل اقتصادنا من الإفلاس باتفاقياته المتعددة، جاء محاطا بجيش حقيقي من رجال الأعمال الذين يبحثون في المغرب عن صفقات مربحة لشركاتهم وعقود طويلة الأمد تخرجهم من الأزمة التي يتخبطون فيها في فرنسا. فالرجل جاء لكي يبيع قطاراته السريعة لربيع الخليع الذي لازال لا يستطيع التحكم حتى في توقيت قطاراته الجديدة التي اشتراها له غلاب من إيطاليا بالملايير، ومع ذلك تتوقف في وسط الطريق وتتحول إلى حمامات للصونا. وجاء بوزيرته في العدل رشيدة داتي لكي توقع مع عبد الواحد الراضي وزير عباس في العدل اتفاقية لتصدير المحابسية المغاربة من فرنسا إلى سجون المغرب لتخفيف العبء على ميزانية الجمهورية الفرنسية. وجاء معه بمئات الزيزوارات الذين يحسنون التكراط فالبيع والشرا بلا ما. وعندما رأيت كل هذا الجيش العرمرم من رجال الأعمال حول ساركوزي قلت في نفسي متسائلا، آش غادي يبيع المغرب لهاد المقوصا، البابوش ؟

فعدت وقلت في نفسي أن المغرب يمكنه أن يبيع فرنسا تحفة نادرة قد تنفع في متحف اللوفر، وهي كائنات سياسية تعود إلى العصور الجليدية الأولى اسمها السياسي المحجوبي أحرضان، النقابي المحجوب بن الصديق، الجنرال حسني بنسليمان. وبالمناسبة قبل أن يسلموا الجنرال للمتحف يمكن أن يمروا به عند مكتب القاضي رماييل الذي يحقق في ملف بنبركة. فقد أرسل إليه استدعاء قبل يومين هو وخمسة من المطلوبين للعدالة الفرنسية. فيبدو أنهم لا يسكنون في المغرب. على الأقل المغرب الذي نسكن فيه نحن.

ليست هناك تعليقات: